مرونة قوانين الفضاء الرقمي أمام تطور التجارة الإلكترونية

2 مارس 2022
مرونة قوانين الفضاء الرقمي أمام تطور التجارة الإلكترونية

ازدهرت التجارة الدولية مؤخراً وتطورت بشكل ملحوظ فاتخذت قالباً جديداً متأثرا بالتكنولوجيا الحديثة.[1] يحمل في طياته موضوعات جديدة أثرت في مسار وتطور التجارة الدولية، من هذه الموضوعات ما يسمى بالمعاملات الإلكترونية والتجارة الإلكترونية، التي بَدَا القانون التجاري الدولي التقليدي حيالها فارغاً بالنظر للفرق الشاسع بين التجارة الإلكترونية و التجارة التقليدية من حيث طبيعتها وشكلها وخصائصها.[2]

     فالتجارة الإلكترونية[3] تعد نظاماً من النظم الحديثة التي تساعد على تقريب وجهات النظر بين المتعاملين فيها، وتؤدي إلى سرعة التفاوض والتسويق وإبرام الصفقات التجارية من خلال الانترنت، وترتبط بنظم المعلوميات التي اعتمدت في العديد من المؤسسات الكبرى في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حيث نشأت من خلال شبكات إلكترونية مغلقة بين شركاء تجاريين يعرفون بعضهم البعض، وكان هؤلاء في حاجة إلى أكثر من حل لإرسال الرسائل والمعلومات الخاصة بهم، عن طريق ما يسمى بتبادل البيانات الكترونياً، أما الآن فقد أصبحت تلك التجارة غير مقتصرة على أنشطة الشركات التجارية فقط، بل امتدت لتغطي كثيرًا من الأنشطة التي تقوم بها الحكومات أو المستهلكين على الشبكة الإلكترونية العالمية في مختلف المجالات.[4]

غير أن عدم قدرة الاليات القانونية التقليدية، التي تعتمد السلع المادية و النقود العادية و التعامل بالأوراق و المستندات الورقية كدليل للإثبات، على مواكبة نمو التجارة الالكترونية، حيث تسليم المنتجات و الخدمات يتم الكترونيا كما يتم الوفاء بنوع جديد من النقود تعرف باسم النقود الالكترونية أو النقود الرقمية، ويستطيع أطراف التعاقد إثبات معاملاتهم بوسائل جديدة لا تعتمد على دعائم ورقية و إنما على الدعائم الالكترونية .[5] طرح إشكالية التقبل التشريعي للتبادل الالكتروني للبيانات كمعاملات منتجة للأثارها من الناحية القانونية.

وهو ما فرض ضرورة وجود قواعد منسجمة على المستوى الدولي، و حاضنة للمعاملات التي تتم في هذا الواقع المتحرك، سميت بقوانين “الفضاء الالكتروني”. الغرض منها قبول هذه الممارسة الفعلية، التي أصبحت واقعا ملموسا للفاعلين التجاريين و الاقتصاديين الدوليين على المستوى الوطني و توطين معاملاتهم. فهي قوانين تعتبر بمثابة الترسانة الحقيقية التي تقاس بها مدى نجاعة و مواكبة التشريعات الوطنية لمختلف المستجدات التي شهدها العالم التكنولوجي.

     و تضطلع لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي (“الأونسيترال” او “اللجنة”) بدور رئيسي في وضع هذا الاطار، عملا بالولاية المسندة اليها، و المتمثلة في تشجيع التنسيق و التحديث التدريجيين للقانون التجاري الدولي. و تؤدي “الأونسيترال” هذا الدور من خلال إعداد الصكوك التشريعية و غير التشريعية في عدد من مجالات القانون التجاري الرئيسية، و تشجع استخدام تلك الصكوك و اعتمادها.[6] فالقانون الأساسي الذي تتنصل منه جميع القوانين الأخرى سواء كانت سابقة أو لاحقة له هو قانون” الأونسيترال” الخاص بالتجارة الالكترونية 1996، لاكن هذا لا يجعله هو المرجع الوحيد لقوانين “الفضاء الالكتروني”.

إذ أصدرته الأونسيترال كقانون استرشادي يمكن الإستفادة منه كأساس عند إصدار التشريعات الوطنية للتجارة الالكترونية، و هو قانون يقوم على مبدأ النظير الوظيفي أو المعادل الوظيفي، أي التكافؤ بين الكتابة و المحررات الالكترونية و الكتابة و المحررات الورقية، من حيث الوظائف. و يحتوي هذا القانون على مجموعة من القواعد و الإرشادات التي تهدف إلى تهيئة بيئة قانونية أكثر ملائمة للتجارة الالكترونية، من خلال الاعتراف بتبادل البيانات بشكل إلكتروني، و قبول الرسائل الالكترونية و الاعتراف بالإثبات الإلكتروني. كما صدر أيضا قانون الأونسيترال النموذجي للتوقيع الإلكتروني لسنة 2001 ،بهدف الاعتراف بحجية التوقيع الإلكتروني، و بيان الشروط و المتطلبات الازمة لذلك.[7]

     بهذا تكون منظومة قوانين الفضاء الرقمي هذه بمثابة إطار قانوني مشترك للتجارة الإلكترونية، و مرجعا استرشاديا لدول العالم التي تعتزم إصدار قانون خاص بهذا النوع من التجارة، إلا أنه لا يشمل كل التفاصيل من حيث الاحكام القانونية و النصوص (أو الوائح) التنظيمية الضرورية لتطبيق هذه التقنيات في مختلف الدول، لذا كان لزاما على كل دولة إصدار تشريع وطني خاص. [8] ليبقى الاشكال مطروحا حول:

ما مدى استيعاب قوانين الفضاء الرقمي لمستجدات التجارة الالكترونية؟

هذا الإشكال تتفرع عنه مجموعة من التساؤلات لعل أبرزها:

  • ماهي مكونات منظومة قوانين الفضاء الرقمي؟ ما هو النهج الذي تعتمده للصمود أمام مستجدات التكنولوجيا؟
  • ما هي الاليات التي يمكن اعتمادها للموازنة بين المعاملات التقليدية و المعاملات التي تتم إلكترونيا ؟
  • هل يمكن اعتبار قوانين الفضاء الرقمي أرضية قابلة لاستيعاب متغيرات التجارة الالكترونية ؟

   الإجابة عن هذا الإشكال تقتضي الغوص في تحليل الأسئلة المتفرعة عنه بدراسة مرونة قوانين الفضاء الرقمي (المطلب الأول) ، و تحليل الدور الذي يلعبه منهج النظير الوظيفي في  بناء جهاز مفاهيمي خاص بالمعاملات الافتراضية يستوعب متغيرات التجارة الإلكترونية .(المطلب الثاني)

المطلب الأول: مبادئ قوانين الفضاء الرقمي و قابليتها لاستيعاب تطورات التجارة الإلكترونية

المطلب الثاني: منهج النظير الوظيفي و دوره في وضع قواعد تستحضر مستقبل التجارة الإلكترونية

المطلب الأول: مبادئ قوانين الفضاء الرقمي و قابليتها لاستيعاب تطورات التجارة الإلكترونية

     أعدت “الأونسيترال ” مجموعة من النصوص التشريعية للتمكين من استخدام الوسائل الإلكترونية في ممارسة الأنشطة التجارية وتيسير ذلك وقد اعتُمدت هذه النصوص في أكثر من 100 دولة. وأكثر هذه النصوص اشتراعا هو قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية (1996)، الذي يضع قواعد تكفل المساواة في المعاملة بين المعلومات الإلكترونية والورقية، والاعتراف القانوني بالمعاملات والعمليات الإلكترونية، استنادا إلى المبادئ الأساسية المتمثلة في عدم التمييز ضد استخدام الوسائل الإلكترونية والتكافؤ الوظيفي والحياد التكنولوجي[9].

 لاكن هذا لا يجعله هو المرجع الوحيد لقوانين الفضاء الرقمي و ذلك نظرا لوجود قوانين مرجعية كبرى متدخلة، و لها تأثير على صياغة تلك القواعد المتعلقة بتدبير النظام القانوني للمعاملات القانونية التي تتم بشكل الكتروني[10]، و هي:

  • الاتفاقيات الدولية: من أبرز هذه الاتفاقيات اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام الخطابات الإلكترونية في العقود الدولية (نيويورك، 2005)، السمات الرئيسة لهذه الاتفاقية أنها تهدف إلى تقديم حلول لمسائل تتعلق باستخدام وسائل الاتصال الإلكترونية فيما يتعلق بالعقود الدولية، و لا تهدف إلى وضع قواعد موحدة للمسائل التعاقدية الموضوعية التي لا تتعلق تحديدا باستخدام الخطابات الالكترونية. بيد أن إجراء فصل تام بين المسائل ذات الصلة بالتكنولوجيا و المسائل الموضوعية في سياسة التجارة الإلكترونية ليس أمرا ممكنا أو مستصوبا على الدوام، و من ثم فإن الاتفاقية تتضمن القليل من القواعد الموضوعية التي تتجاوز مجرد إعادة التأكيد على مبدأ التكافؤ الوظيفي الذي يستدعي وجود قواعد موضوعية لضمان فعالية الخطابات الالكترونية. [11]و الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية تعتبر من فسيفساء مراجع قوانين الفضاء الرقمي.
  • *        قوانين استرشادية أو نموذجية: قبل إصدار قانون الاونسيترال الخاص بالتجارة الإلكترونية 1996 كانت لجنة الأمم المتحدة للتجارة الدولية تشتغل ببعض الصكوك و القوانين الاسترشادية الأخرى ، منها :
  • الدليل القانوني للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي بشأن التحويلات الإلكترونية للأموال لسنة 1987.[12]
  • قانون الاونسيترال النموذجي للتحويلات الدائنة الدولية 1992[13]
  • قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية (1996)، الذي تم تعديله في عام 1998 (المادة الاضافية 5 ).[14]
  • قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التوقيعات الإلكترونية (2001).[15]
  • قانون الأونسيترال النموذجي بشأن السجلات الإلكترونية القابلة للتحويل (2017) .[16]
  • *        النصوص التوضيحية: في هذا الخصوص نجد:
  • النص التوضيحي المتعلق بتعزيز الثقة بالتجارة الإلكترونية: المسائل القانونية الخاصة باستخدام طرائق التوثيق والتوقيع الإلكترونية على الصعيد الدولي (2007).[17] و هو يعرض دراسة تحليلية للمسائل القانونية الرئيسية الناشئة عن استخدام التوقيعات الإلكترونية و طرائق توثيقها في المعاملات الدولية.
  • ملحوظات بشأن المسائل الرئيسية المتصلة بعقود الحوسبة السحابية (أعدتها أمانة لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي 2019 ).[18] تتناول هذه الملحوظات المسائل الرئيسية المتصلة بعقود الحوسبة السحابية المبرمة بين كيانين تجاريين، حيث يقدم أحد الطرفين (مقدم الخدمات) إلى الطرف الآخر (الزبون) واحدة أو أكثر من خدمات الحوسبة السحابية لغرض الاستعمال النهائي.[19]
  • *       الدلائل و التوصيات التشريعية :  نجد توصيات إلى الحكومات و المنظمات الدولية بشأن القيمة القانونية لسجلات الحواسيب (1985). [20]

و جدير بالذكر أن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي أسست  منظومة قوانين الفضاء الرقمي هذه على ثلاث مبادئ رئيسية، تهدف للمساواة بين المعاملات التي تتم في الواقع المادي و تلك التي تتم في الواقع الافتراضي،  وهي :

  • مبدا عدم التمييز:  نصت المادة 5 من قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية  على أنه  “لا تفقد المعلومات مفعولها القانوني أو صحتها أو قابليتها للتنفيذ لمجرد أنها في شكل رسالة بيانات “[21]  أي عدم تجريد المعاملات المبرمة عن طريق الوسائل التكنولوجية أو الإلكترونية من قوتها القانونية، و جعلها مساوية لتلك التي تنشأ عن الطريق الورقي أو التقليدي.

بمعني أن مبدأ عدم التمييز يصب في الجانب المتعلق بالقوة القانونية للمعاملات التي تتم بطرق افتراضية حتى لا يتم وضع فوارق تمييزية بينها و بين المعاملات الورقية و تضعف قوتها القانونية، فمن أهداف القانون النموذجي للتجارة الالكترونية إتاحة أو تيسير استعمال أسلوب التجارة الالكترونية، و توفير معاملة متساوية لمستعملي المستندات الورقية و مستعملي المعلومات الحاسوبية، لزيادة الاقتصاد و الفعالية في التجارة الدولية،  حتى لا تتأثر المعاملات الافتراضية بعراقيل عدم اليقين من مفعولها أو صلاحيتها من الجانب القانوني بالذات، أي عدم التمييز في جانب القوة القانونية و الأثر القانوني و القوة التنفيذية[22] .

فهذا المبدأ يشكل ضمانة للمعاملات التي تنشأ في الفضاء الالكتروني، إذ يتيح لها نفس حجية  الدليل الورقي مهما ظهرت فيها من مستجدات، بحيث لا يبقى أي تمييز بين ما هو ورقي مادي و ما هو افتراضي من حيث الأثار القانوني.  لاكن هذه المساواة ليست مطلقة و إنما تخضع لقيد الطبيعة المكونة لكلا الجانبين، فلا يمكن إغفال الاختلاف الموجود بينهما ، لذلك فان مبدأ عدم التمييز يجب أن يرتكز على مبدأ أخر و هو مبدأ التكافؤ الوظيفي.

  • مبدأ التكافؤ الوظيفي: هو مبدأ يشترط في المعاملات الالكترونية أن تستوفي مجموعة من الشروط حتى تنتج أثارها من الناحية القانونية.  بناء عليه لا ينبغي أن يكون هناك اختلاف في المعاملة بين الرسائل الموقعة إلكترونيا و المستندات الورقية التي تحمل توقيعا خطيا، أو بين مختلف أنواع الرسائل الموقعة إلكترونيا شريطة أن تستوفي الشروط الأساسية المبينة في القانون النموذجي،  و هو مبدأ بارز في جل القوانين المنظمة للفضاء الافتراضي على سبيل المثال الفصل الثاني من قانون الأونسيترال النموذجي بشأن السجلات الإلكترونية القابلة للتحويل، الذي نص على أحكام تهم التعادل الوظيفي من خلال المواد من 8 الى 11 ،و التي تهم كلا من الكتابة و توقيع المستندات و الصكوك القابلة للتحويل.[23]

فهو مبدأ يخدم جانبين، الأول حماية الفاعلين الاقتصاديين المتعاملين في التجارة الإلكترونية، بوضع ضوابط و شروط تؤطر المعاملات الرقمية حتى لا تستخدم بأسلوب احتيالي. و الثاني يتيح للنصوص التشريعية الرقمية قبول المعاملات الإلكترونية مهما تغيرت و مهما تطورت التكنولوجيا، طالما تتحقق فيها تلك الشروط الموضوعية.

  • مبدأ الحياد التكنولوجي : هذا المبدأ يبرز كيف أن المشرع الدولي حاول الاستفادة من التجربة التي أدخلته فيها الثورة التكنولوجية ،و ذلك من خلال محاولته العمل على استحضار المستقبل و ما يمكن أن يفرزه من تطورات خلال صياغته للقوانين التي تؤطر الفضاء الرقمي. إذ ينحو النهج الذي اتبعه في القانون النموذجي مبدئيا على تغطية كل الحالات الواقعية التي تنشأ فيها معلومات أو تخزن أو تبلغ، بصرف النظر عن الواسطة التي قد تثبت عليها هذه المعلومات، وقد ارتئي خلال إعداد القانون النموذجي أن استبعاد أي شكل أو واسطة عن طريق تقييد نطاق القانون النموذجي يمكن أن يفضي الى صعوبات عملية، و أن يتعارض مع الغرض المتوخى في توفير قواعد “محايدة من حيث الوسائط” تماما.[24]

و مبدأ الحياد التكنولوجي هو لا يتعلق بالوسائل التكنولوجية بقدر ما يتعلق بالقواعد القانونية التي يجب أن تستوعب جميع مظاهر التكنولوجيا، سواء المعلومة الآن أو غير المعلومة ،إذن هذه القاعدة القانونية يجب أن تفصل عن الوسيلة أو الحامل أو الفضاء الذي يمكن أن يستعمل من أجل ابرام معاملات قانونية مستقبلية. و على نحو أعم تجدر الاشارة الى أنه لا يجوز من حيث المبدأ استبعاد أي تقنية من تقنيات التكنولوجيا من نطاق القانون النموذجي، نظرا لأنه قد يلزم استيعاب التطورات التقنية المقبلة[25] .

بهذا أمكن القول أن هذه المبادئ الثلاث تشكل عاملا مهما في صناعة قواعد قانونية حاضنة لمستجدات التجارة الالكترونية، بحيث أيا كانت الوسيلة المستحدثة مستقبلا فهي محمية قانونا، طالما تخضع لشروط تُكافئها وظيفيا مع المعاملات المادية، فلا يمكن تمييزها عنها. و هذه خطوة تحتسب للمجتمع الدولي الذي كان لزاما عليه الاستفادة من تجربته السابقة مع الثورة التكنولوجية في مجال التجارة الإلكترونية.

المطلب الثاني: منهج النظير الوظيفي و دوره في وضع قواعد تستحضر مستقبل التجارة الإلكترونية

     في خضم إعداد القانون التجاري الدولي يؤخذ بعين الاعتبار مدى إمكانية تجاوز العوائق التي تحول دون استخدام وسائل التجارة الإلكترونية الناتجة عن اشتراطات الكتابة الموجودة في القوانين الوطنية، خاصة و أن هذه التجارة تعرف تطورا مستمرا. و ذلك من خلال توسيع نطاق المفاهيم التقليدية ل “الكتابة” و “التوقيع” و “الأصل”، عن طريق خلق إطار مفاهيمي يتعدى قابلية استيعاب تقنيات التجارة الإلكترونية ليشمل كل ما يمكن أن توجده التكنولوجيا في هذا المجال.

    فالتكنولوجيا تعرف نماء مستمر يطرح إشكال التشكيك في القيمة القانونية لاستخدام الخطابات الإلكترونية في العقود. و ما يشكله من عائقا أمام التجارة الدولية، الامر الذي يوجب اعتماد قواعد موحدة للإزالة هذه المعيقات، – بما فيها تلك التي قد تنشأ عن إعمال صكوك القانون التجاري الدولي الحالية-، بهدف تعزيز التيقن القانوني و قابلية التنبؤ بمصائر العقود الدولية من الناحية التجارية، و مساعدة الدول على اكتساب القدرة على النفاذ إلى دروب التجارة الحديثة،[26] و فتح الباب أمام مستقبل هذه التجارة. و هو ما يبدو ممكنا من خلال استحضار نهج “النظير الوظيفي”، باعتباره نهج يقوم على تحليل الأغراض و الوظائف التي كانت تنسب إلى الاشتراط التقليدي الورقي الأساسي بهدف تقرير كيفية تحقيق تلك الاغراض أو أداء تلك الوظائف من خلال تقنيات التجارة الإلكترونية.[27]

     فهذا النهج يوضح أن مفهوم الكتابة يجب تحديده بمقياس وظيفة الكتابة، أو الغرض الذي من أجله دونت، ولا يعتد أبدا بنوع الدعامة، وخاصة أن التعاملات الإلكترونية هي التي فرضت الدعامات الإلكترونية وأخذت تحل محل الدعامات الورقية التي أسس الإثبات التقليدي عليها . ويقوم هذا المبدأ بتحليل دقيق لكل أغراض القواعد القانونية المنظمة للكتابة الورقية، ثم البحث عن كيفية تحقيق هذه الاغراض أو أداء تلك الوظائف عند استخدام الدعامات الحديثة. و هذا يعني أن هذا المبدأ يعمل على تحليل وظيفة الكتابة التقليدية ومن ثم يسبغها على أي دعائم مختلفة، تعمل على أداء نفس الوظيفة والهدف من ذلك هو إيجاد معايير موضوعية محددة، ثم البحث في مدى إمكانية أن تلبي هذه الدعامات الإلكترونية تلك المعايير. وإذا توفرت تلك المعايير في أي من المستخرجات الإلكترونية، فإن المشرع يمنحها المستوى نفسه من الاعتراف أي أنه يساوي بينها وبين المستندات الورقية التقليدية.[28] فمثلا من بين الوظائف التي يؤديها المستند الورقي، ما يلي :

  • أن يكون المستند مقروءا للجميع
  • توفير امكانية بقاء المستند بلا تحوير بمرور الزمن
  • اتاحة المجال لاستنساخ المستند لكي يجوز لكل طرف نسخة من البيانات نفسها
  • اتاحة المجال لتوثيق البيانات بواسطة التوقيع

و تجدر الإشارة إلى أنه بخصوص كل هذه الوظائف فيمكن أن توفر السجلات الالكترونية المستوى نفسه من الأمان الذي يوفره الورق، و أن توفر في معظم الحالات درجة أكبر من الموثوقية و السرعة، خاصة فيما يتعلق بتحديد مصدر البيانات و محتواها، شريطة الوفاء بعدد من الاشتراطات التقنية و القانونية. و مع ذلك فإن اعتماد نهج النظير الوظيفي لا ينبغي أن يفضي إلى فرض معايير أمنية على مستعملي تقنيات التجارة الإلكترونية، أشد مما يفرض في بيئة تتعامل بالمستندات الورقية[29]

     فبالبحث في البنية الوظيفية للمعاملة بدل الوسيلة التي تتم عليها، يفصل هذه المعاملة القانونية الثابتة عن التقنية المتغيرة، و بالتالي فتح الباب على وضع نصوص قانونية حاضنة لأي وسيلة مستحدثة جاء بها التطور العلمي أو قد تظهر مستقبلا[30].

خاتمة

     القانون لم يتوقف أبدا عن التطور فهو محصلة تاريخية و ثمرة من ثمرات تطور المجتمع تساهم فيه أجيال الأمة المتعاقبة، و ينتج عبر الزمان و يتطور عبر التحولات التاريخية. بحيث يحمل كل عصر من العصور أسباب التطور الذي نشهده في العصر التالي.[31] فمستحدثات التكنولوجيا لم يكن لها وجود قبل سنوات قليلة ، بالمقابل لم يكن هناك قانون ينظمها و بمجرد أن اكتشفت ، ظهرت الحاجة ملحة لتنظيمها من خلال مبادئ تكفل استيعاب متغيراتها و مستجداتها لضمان استقرار المجتمع .و هذا ما أدى لظهور “منظومة قوانين الفضاء الرقمي” لاكن بظهور تقنيات أكثر تطورا و حداثة في مجال الاتصال و التواصل المعمول بها في التجارة الإلكترونية،  يجعل  هذه القوانين في تحد مستمر

فهل يمكن فعلا لمنظومة قوانين الفضاء الرقمي استيعاب تطور العشرة أعوام المقبلة ؟


[1]  انتشار التكنولوجيا الحديثة ساعد على ظهور اقتصاد جديد سمي بالاقتصاد الرقمي، يعتمد أساسا على المعلومة و تقنية الاتصال في الرواج التجاري. فالمعلومة ذات الحمولة المادية أو النفعية في عصر الاتصال و المعلوميات هي السبب الواقعي في خلق التجارة الالكترونية.

مولاي حفيظ علوي قاديري، طرق فض المنازعات في التجارة الالكترونية و الوسائل البديلة لها –دراسة مقارنة- ،نشر و توزيع الشركة المغربية لتوزيع الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، ص: 9

[2]  عبد الخالق صالح ،عبد الله معزب، الإطار القانوني للمعاملات الإلكترونية في التجارة الدولية دراسة قانونية وفقاً للاتفاقيات الدولية المتعلقة بالقانون التجاري الدولي، الطبعة الأولى 2019، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية و السياسية و الاقتصادية، برلين، المانيا، ص: 8

[3]  لا تقتصر التجارة الالكترونية على مجرد عمليات بيع و شراء المنتجات و الخدمات و المعلومات عبر الانترنت. إذ أن التجارة الالكترونية منذ انطلاقها كانت تتضمن دائما معالجة حركة البيع و الشراء و تحويل الاموال الكترونيا عبر شبكة الانترنت، و يمكن تشبيه التجارة الالكترونية بسوق الكتروني يتقابل فيه الموردون و المستهلكون و الوسطاء، و تقدم فيه المنتجات و الخدمات في صورة رقمية أو افتراضية و يتم دفع ثمنها بالنقود الالكترونية .

خالد ممدوح ابراهيم، ابرام العقد الالكتروني، دراسة مقارنة، طبعة 2008، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية، مصر،  ص: 8

[4]  سيرين عماد بشاوري، التنظيم القانوني لـ التجارة الإلكترونية ،مقال منشور بمكتب محمد بن عفيف للمحاماة، في الموقع الالكتروني https://www.afiflaw.com/   تاريخ الاطلاع:  28-10-2021 ، على الساعة : 12:41

[5]  خالد ممدوح ابراهيم، م .س. ،ص: 9

[6]  الامم المتحدة، لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي، منشور بالصفحة الرئيسية في الموقع الالكتروني https://uncitral.un.org/ar/homepage  ،تاريخ الاطلاع: 28-10-2021  ،على الساعة 13:00

[7]  خالد ممدوج ابراهيم، م س ص: 10

[8]  عبد الله الكرجي، صليحة حاجي ،تقديم عبد الله درميش ،التعاقد الرقمي و نظم الحماية الالكترونية، الطبعة الاولى 2015 ، مكتبة الرشاد، سطات، المغرب، ص: 31

[9]  لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي، التجارة الالكترونية، منشور في الموقع الالكتروني https://uncitral.un.org/ar/texts/ecommerce  ،تاريخ الاطلاع 29-10-2021 ، على الساعة 10:00

[10]  حسناء والحاج، أثار التطور العلمي على صناعة القاعدة القانونية (القانون المدني نموذجا)، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون، جامعة محمد الخامس، سلا، سنة  2020-2021 ،ص: 68

[11]   اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام الخطابات الإلكترونية في العقود الدولية (نيويورك، 2005) ،رقم:  No. A.07.V.2 ،ص: 13

[12]  الدليل القانوني للجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي بشان التحويلات الالكترونية للأموال، 1987 ،نيويورك A\CN.9\SER.B\1

[13]  UNCITRAL Model Law on International Credit Transfers (1992) ,United Nations publication sale no. E.99.V.11

[14]  قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية (1996) ، ومع المادة الاضافية 5 مكررا بصيغتها المعتمدة في عام 1998،رقم : A.99.V.4

[15]  قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التوقيعات الإلكترونية (2001) مع دليل الاشتراع 2001،رقم :A.02.V.8 

[16]  قانون الأونسيترال النموذجي بشأن السجلات الإلكترونية القابلة للتحويل (2017) ،رقم: 2-362737-1-92-978

[17]  النص التوضيحي المتعلق بتعزيز الثقة بالتجارة الإلكترونية: المسائل القانونية الخاصة باستخدام طرائق التوثيق والتوقيع الإلكترونية على الصعيد الدولي (2007).منشورات الامم المتحدة رقم:    A.09.V.4

[18]  ملحوظات بشأن المسائل الرئيسية المتصلة بعقود الحوسبة السحابية (أعدتها أمانة لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي 2019 ) ، رقم: V.19-09101

[19]  لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي، ملحوظات بشان المسائل الرئيسية المتصلة بعقود الحوسبة السحابية (اعدتها امانة لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي 2019 ) ، منشور في الموقع الالكتروني: https://uncitral.un.org/ar/cloud  ،تاريخ الاطلاع: 29-10-2021 ،على الساعة 12:43

[20]  لجنة الامم المتحدة للقانون التجاري الدولي، الدلائل و التوصيات التشريعية نجد توصيات الى الحكومات و المنظمات الدولية بشان القيمة القانونية لسجلات الحواسيب (1985) ،منشور في الموقع الالكتروني: https://uncitral.un.org/ar/texts/ecommerce/legislativeguides/computer_records  تاريخ الاطلاع: 29-10-2021 ،على الساعة: 13:02

[21]  قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية، م. س. ،ص: 5

[22]  حسناء والحاج ، م.س.، ص: 75

[23]  حسناء والحاج ، م.س.، ص: 75

[24]  قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية ،م. س. ،ص:  23

[25]  حسناء والحاج، م. س.، ص: 76

[26]  اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام الخطابات الإلكترونية في العقود الدولية (نيويورك، 2005) م.س. ،ص 1

[27] قانون الاونسيترال النموذجي بشان التجارة الالكترونية ، 1996، م.س. ،ص: 20

[28]  عواطف ادم عبد الله عبد الكريم ،حجية المستندات الالكترونية، مجلة الدراسات العليا – جامعة النيلين، الجزء 2 ،العدد 14، 2016، ص:101

[29]   قانون الاونسيترال النموذجي بشان التجارة الالكترونية ، 1996، م.س. ،ص: 20

[30]  حسناء والحاج، م. س.، ص: 78

[31] محمد الرضواني ،علم الاجتماع القانوني ،الطبعة الاولى 2007،مطبعة المعارف الجديدة –الرباط ، ص: 44