الدور الإيجابي للقاضي المدني في إطار الفصل 3 من ق م م

5 مايو 2020
الدور الإيجابي للقاضي المدني

الدور الإيجابي للقاضي المدني في إطار الفصل 3 من ق م م

الدكتور عبد الحكيم الحكماوي

ينبني البحث العلمي على النظر في الأشياء والحقائق بطرق مختلفة. غير أن اختلافها لابد أن يستند على أساس علمي متين يجعل الخلاصات التي يخلص إليها الباحث مقبولة ومعقولة؛ وهو ما يؤدي إلى ظهور نتائج لها أثرها في الحقل المعرفي الذي بُذل فيه جهد البحث العلمي.

وإذا كان الأصل في البحث العلمي أن يكون مقدمة لابد منها لمركز صناعة القرار العملي، فإن هذه المقدمة لابد أن تكون ذات فائدة بوجه من الوجوه كأن تسد فراغ أو ترفع تناقضا أو تعيد النظر في مسألة اعتقد الناس فيها رأيا صوبا وظهر نقصه إلى غير ذلك من الفوائد المرجوة من البحث العلمي.

ومما يسترعي الاهتمام في مجال البحث العلمي في المجال القانوني نقاط مختلفة، منها ما يتصل بالحقوق ومنها ما يتعلق بالمراكز القانونية شروطا وأركانا وثالثة مرتبطة بالعمل القضائي باعتباره الجهة المسنودة إليها مهمة الفصل في النزاعات، وما إلى ذلك.

وارتباطا بما يتعلق بالعمل القضائي فقد يرى الباحث أنه مستند على مرتكزات لا يختلف فيها كثيرا عما ذهب إليه “الفقه” القانوني المهتم بالمجال الإجرائي.ومن بين المواضيع التي يتناولها هذا الأخير ويتأثر بها العمل القضائي يظهر الإشكال المتعلق بحدود سلطة المحكمة إزاء طلبات الأطراف؛ هل هذه السلطة مقيدة بما يطالب به الأطراف في طلباتهم المقدمة للمحكمة أن هذه الأخيرة يمكن أن تتجاوز تلك الطلبات؟

يذهب الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية إلى النصيص على ما يلي: “يتعين على القاضي أن يبت في حدود طلبات الأطراف ولا يسوغ له أن يغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات ويبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة.” ويرى “الفقه” في مجمله أن هذا المقتضى القانوني يعتبر أساسا لتقييد سلطة المحكمة عند النظر في طلبات الأطراف؛ إذ تبقى المحكمة ملزمة بما طالب به الأطراف ولا يجب أن تتعاد إلى ما سواه.

ولعل هذا التفسير المتعارف عليه فقها هو ما سار عليه القضاء في أحكامه؛ والشواهد من الأحكام القضائية كثيرة ومتنوعة على هذا الواقع. غير أن ما يثير الانتباه ويبعث على التساؤل هو هل مقتضيات الفصل المذكور تحد فعلا من سلطة المحكمة على نحو مطلق أم أن لذات المقتضى قراءة أخرى تجعل من المحكمة فاعلا حيويا في تدبير الخصومة المدنية عموما بما يحقق الغاية من اللجوء إلى القضاء وبما يتجاوز تلك النظرة القائمة على الدور الجامد للقاضي المدني أثناء الفصل في النزاعات المعروضة عليه؟

إن الجواب عن هذا التساؤل يقتضي البحث في الشروط التي يتضمنها الفصل المذكور للحد من سلطة المحكمة مع ضرورة التطرق لما تحمله مقتضياته من أحكام تجعل من الفهم المتداول لمقتضيات هذا الفصل جدير بإعادة النظر.

1 – فهم مقتضيات الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية بين الظاهر وضرورة تحقيق شروط التطبيق

ينطلق الاتجاهان الفقهي والقضائي السائدان في تفسيرهما لمقتضيات الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية من معطى أولى متعلق بإلزام القاضي بضرورة الوقوف عند طلبات الأطراف، ويستندان في تفسيرهما هذا على العبارات التي أوردها المشرع في هذا الفصل من قبيل ” يتعين على القاضي” و “لا يسوغ له أن يغير تلقائيا” على اعتبار أن العبارات المذكورة تفيد صيغة الوجوب بما يتماشى ومفهوم النظام العام الإجرائي القائم على تحديد نطاق تدخل القاضي المدني في الخصومة المدنية.

ولعل المبررات التي يستند إليها الاتجاهان المذكوران تنطلق من كون الخصومة المدنية ملك لأطرافها لتعلقها بحقوق خاصة غير متصلة بالنظام العام أو المصلحة العامة ولا مجال بالتالي لتدخل القاضي في مثل هذه الخصومات. و أن ما جاء بالفصل 3 من قانون المسطرة المدنية ما هو إلا ترجمة أمينة لرؤية المشرع لطبيعة الخصومة المدنية واتصالها بالمصالحة الخاصة لأطراف تلك الخصومة، ولذلك فإن المشرع لما أراد الحديث عن دور القاضي في الفصل في النزاع تحدث بصيغة الأمر المستفاد من العبارات المذكورة أعلاه للتأكيد على القاضي بأن دوره لا يعدو أن ينظر في طلبات الأطراف التي يتقدمون بها أمامه ولا يجوز له أن يتعاداها إلى ما سواها مادامت لا تتصل بالنظام العام.

غير أن مثل هذه المبررات مهما ظهرت وجاهتها فإنها  تبقى محل نقاش ما دامت أنها مفتقرة للقراءة الصحيحة لمقتضيات الفصل المذكور. ذلك أن إيراد المشرع لعبارات تدل على صيغة الوجوب والإلزام لا يعني بأن الأمر موجه للقاضي لئلا يتعدى حدود طلبات الأطراف بصورة مطلقة، فمثل هذا التفسير لا يحتمله الفصل أصلا كما أنه يجرد القاضي من كل سلطة من شأنها أن تمكنه من مراقبة مدى احترام الأطراف للقانون ومقتضياته. فاتصال الخصومة المدنية بالحقوق الخاصة للأطراف لا يعني أن هذه الخصومة شأن خاص بأطرافها وإنما يجب أن تبقى منضبطة للقواعد التي نظمها المشرع وجعلها قواعد مسطرية مستقلة عن مصالح الأفراد.

إن الفصل بين ما هو من قبيل المصلحة الخاصة لأطراف الخصومة القضائية وما هو من قبيل الأحكام المنظمة لسير الخصومة المدنية بما في ذلك السلطات التي يملكها القاضي المدني إزاء طلبات الأفراد لهو المنطلق الأساسي لإعادة قراءة مقتضيات الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية. فالمشرع في هذا الفصل وضع للحد من سلطة تدخل القاضي في الخصومة القضائية شروطا تستفاد من صحيح القراءة المتأنية لمقتضيات الفصل المذكور.

فبالرجوع لما تضمنه الفصل موضوع الحديث نجده يؤسس لدورين من الأدوار التي يتولى القاضي المدني القيام بها عند الفصل في الخصومة المعروضة عليه؛ إما دور سلبي يتجسد في محدودية تدخله متى توافرت شروط هذه المحدودية أو دور إيجابي يتحقق عندما تنتفي الشروط المفترضة للحد من تلك السلطة.

إن القول بمحدودية تدخل القاضي المدني إزاء طلبات الأطراف يفترض توافر الشروط التي تؤدي لذلك. فالناظر في مقتضيات الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية سيقف على أن المقتضيات المذكورة تفترض شروطا لا يستقيم فهم المقتضى المذكور إلا بها. ويمكن اختزال تلك الشروط في التالي :

الشرط الأول : ارتباط محدودية سلطة القاضي إزاء طلبات الأطراف بالتكييف القانوني السليم للدعوى

مقتضى هذا الشرط أن تكون الدعوى التي تقدم بها الأطراف أمام القاضي مستجمعة لعناصرها القانونية وسليمة من حيث الوصف القانوني الذي أعطاها الأطراف، فمتى ما كان الأطراف على حق في توصيف النزاع توصيفا قانونيا سليما فإن طلباتهم يجب أن تتماشى مع هذا التوصيف. فلا يتصور أن يتقدم الورثة  مثلا من أجل إبطال البيع الواقع في مرض موت مورثهم لأحد الأفراد من غير قبض للثمن لانتفاء أهلية الهالك عند إبرام البيع، فتنظر المحكمة في هذا النزاع على أنه بيع  وتقتصر في نظرها على البحث في الأهلية ومدى توفرها بحجة أن القاضي ملزم بعدم تجاوز طلبات الأطراف؛ و غنما يجب على القاضي أن ينظر فيما إذا كان الوصف القانوني الذي أعطاه الأطراف لهذا النزاع وصفا قانونيا سليما أم لا؟ وبالتالي النظر فيما إذا كان يستوجب إعادة تكييف الطبيعة القانونية للنزاع في مثل هذه الحالة من كونها مجرد بيع انتفت أحد شروطه القانونية إلى كونه توليجا قصد به الهالك حرمان الورثة من نصيبهم في المال موضوع البيع المفترض. وبالتالي فإن الأطراف لما لم يصفوا النزاع وصفا قانونيا سليما سيجعلون من القاضي صاحب السلطة في كل من الرقابة على الوصف القانوني من جهة و على ما يترتب عن هذا الوقف من جهة أخرى.

الشرط الثاني : ارتباط محدودية سلطة القاضي إزاء طلبات الأطراف بعدم التغيير التلقائي للسبب أو الموضوع في حالة التكييف القانوني السليم للدعوى

هذا الشرط يعني أن المشرع ألزم القاضي بعدم تجاوز طلبات الأطراف نتيجة التجائه لتغيير سبب أو موضوع الطلب أو الدعوى المقدمة للقضاء بالرغم من التكييف السليم؛ فتغيير السبب يعني تغيير الأساس القانوني للطلب وتغيير الموضوع يعني تغيير ما يطالب به الأطراف أمام الأطراف. وهذا التغيير ممنوع على القاضي القيام به مادام التكييف القانوني الذي أعطاه الأطراف للنزاع يبقى سليما وصحيحا من الناحية القانونية. لذلك فإن وصف المشرع للتغيير الذي يمكن أن يباشره القاضي لسبب أو موضوع الدعوى ب”التلقائي” يعتبر وصفا فاعلا في تحديد مدلول ونطاق سلطة القاضي في هذا التغيير. فمعنى التلقائية هنا لا تعني ألا يتم التغيير إلا بناء على طلب الأطراف؛ وإنما يعني ألا يعمد القاضي إلى إعطاء وصف قانوني جديد للنزاع المعروض عليه من شأنه تغير السبب أو الموضوع أو هما معا  لذلك النزاع ما دام أن الوصف القانوني الذي أعطاه الأطراف يبقى منسجما مع الموقف التشريعي. فلا يحق للقاضي أن يجانب الصواب في تكييفه للنازلة المعروضة عليه ويترتب عن ذلك تغيير في السبب والموضوع، لأن ذلك من شأنه أن يرتب آثارا مهمة منها طرق الإثبات وحقوق الأطراف وما يتعلق بمراكزهم القانونية وما يرتبط بطلباتهم أيضا. فالتغيير التلقائي للسبب أو الموضوع يجب أن يرتبط ارتباطا وثيقا بمباشرة القاضي لسلطته في الرقابة القانونية على الوصف الذي أعطاه الأطراف للنزاع باعتبار هذه الرقابة شرطا أوليا للنظر في الخصومة المدنية؛ حتى إذا ما تبين للقاضي أن الأطراف لم يفلحوا في وصف النزاع وصفا قانونيا سليما لجأ تلقائيا لتغيير الأساس القانوني أو موضوع الطلب تطبيقا للقانون وليس استجابة لطلب الأطراف. فالتغيير التلقائي لسبب أو موضوع الطلب إذن ربطه المشرع بالوصف القانوني للنزع وليس برغبة الأطراف.

الشرط الثالث : عدم اتصال الطلبات بالنظام العام

ومعنى هذا الشرط ألا ترتبط طلبات الأطراف بمسألة من مسائل النظام، فمتى ارتبطت بمسألة من مسائل النظام العام فإن الأولى تطبيقا القاعدة القانونية الآمرة على ما اتجهت إليه إرادة الأطراف. وعلى ذلك فمحدودية سلطة تدخل القاضي المدني إزاء طلبات الأطراف مشروطة ببقاء هذه الطلبات بعيدة عن مقتضيات النظام العام مع اعتبار باقي الشروط.

غير أن انتفاء الشروط المذكورة أعلاه كلا أو بعضا يجعل القاضي ملزما بالتصدي لتطبيق القانون تطبيقا ناجزا وقائما على النحو السليم وهو ما يجسد الدور الإيجابي للقاضي في تدبير الوضعية القانونية للخصومة المدنية. ومن مقتضيات التطبيق السليم للقانون إمكانية المساس بالسبب الذي يقوم عليه النزاع أو بموضوع هذا الأخير، كما يترتب عن التطبيق السليم للقانون إعادة تكييف الخصومة المدنية تكييفا يتوافق مع القانون مع اعتبار ما سينجم عن ذلك من آثار ستمس طلبات الأطراف بجمي الصور بما في ذلك إمكانية تجاوز تلك الطلبات إذا قرر القانون حقوقا تفوق ما طالب به الأطراف أو تخالف مخالفة صريحة وآمرة.

فالقول بامتلاك القاضي لدور إيجابي إزاء طلبات الأطراف مرتبط بما أمر به المشرع  القاضي نفسه في المقتضى الذي نص فيه أنه “ويبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة.”

ومعنى هذا المقتضى أن القاضي ملزم في جميع الأحوال بتطبيق القانون؛ وهو الشرط المفترض الذي تقوم عليه سلطة القاضي. أي أن المشرع ألزم القاضي بضرورة الاستناد على القانون ابتداءا وانتهاءا عند الفصل في الخصومة المدنية المعروضة عليه بغض النظر عما يطالب به الأطراف. ومن قبيل البت طبقا للقانون الذي يحكم النازلة أن ينظر القاضي في الوصف القانوني و ف يما إذا كانت طلبات الأطراف تتناسب قانونا مع ذلك الوصف وما إذا كان من الواجب قانونا الزيادة في طلبات الأطراف أو النقصان منها و غير ذلك مما يجسد تطبيق القانون.

فقاعدة “ويبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة” تعتبر قاعدة آمرة لأنها تؤكد على أهم وظيفة يقوم بها القاضي وهي تنزيل حكم القانون على الخصومة المعروضة عليه تنزيلا يتناسب مع ما نص عليه المشرع من مقتضيات وما نظمه من الأحكام من غير اعتبار لما ذهب إليه الأطراف. إذ حدود إرادة الأطراف تقف عند العلاقة القائمة بينهم غير أهم عندما يلجؤون للقضاء فهم يتنازلون عن تلك الإرادة لفائدة جهة أخرى ويلتمسون منها الفصل والبت في عرض عليهم من نزاع وهذا هو جوهر عمل القاضي الذي يجب عليه أن يتجرد من كل تأثير للأطراف على النزاع ويعمل القاعدة القانونية إعمالا يراعي شروط تطبيقها وما ستنتجه من آثار مرتبطة بمدى تعلق تلك القاعدة بالنظام العام أم لا.

وما يؤكد على أن القاعدة المتعلقة بضرورة البت وفقا للقوانين المطبقة على النازلة قاعدة آمرة هو جعلها قاصرة على القاضي وغير متعدية للأطراف وشاملة لجميع الحالات والصور سواء أتلك التي يرفع بها الأطراف نزاعهم وخصومتهم القضائية وفق التكييف القانوني السليم أو تلك التي جانب فيها الأطراف الصواب عند وصفهم النزاع وصفا قانونيا. فعبارة “ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة” تستغرق جميع الصور بالمطلق وما هذا الاستغراق إلا نتيجة منطقية لاستقلال القاضي بسلطة تطبيق القانون سواء أتوافق هذا التطبيق مع تصورات الأطراف له أو خالف  تلك التصورات.

2 – تطبيقات قانونية وقضائية لإمكانية تجاوز ما طالب به الأطراف لاتصاله بالنظام العام

تعرف المنظومة القانونية المغربية العديد من الحالات التي يلزم فيها القضاء بضرورة تطبيق القانون ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصورة صريحة.

ومن بين تلك الأمثلة ما نص عليه المشرع في المادة 45 من مدونة الأسرة التي تنص في فقرتها الأخيرة على أنه “فإذا تمسك الزوج بطلب الإذن بالتعدد، ولم توافق الزوجة المراد التزوج عليها، ولم تطلب التطليق طبقت المحكمة تلقائيا مسطرة الشقاق المنصوص عليها في المواد 94 إلى 97 بعده.” ووفقا لهذا المقتضى فإن المحكمة التي تنظر في طلب التعدد تستمر في مباشرة إجراءات دعوى التعدد لكن ما إن ترفض الزوجة الأولى التعدد وتتشبث بموقفها مع إصرار الزوج على التعدد بالرغم من توفر شروطه فإن المحكمة تطبق تلقائيا مسطرة الشقاق؛ أي أنها تعمل على قلب الطبيعة القانونية للدعوى من طلب للتعدد إلى دعوى للتطليق وهو الوصف القانوني السليم للحالة التي أصبح عليها طرفي النزاع عند تشبث كل طرف بموقفه تشبثا يستحيل معه حل النزاع على وفق الحالة التي قدم بها أمام القضاء.

ففي مثل هذه الحالة لا يكون القاضي قد تجاوز طلبات الأطراف كما تذهب إلى ذلك العديد من الآراء، وإنما هو تجسيد حقيقي للتصدي التلقائي للقاضي للبت في طلبات الأطراف وفق ما القواعد القانونية المطبقة على النازلة.

ومن التطبيقات القضائية ما جاء في الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الابتدائية بالرباط بتاريخ  19-02-2008 في الملف عدد 11/368/2007 من أنه ” وحيث تأكد للمحكمة أن الأمر لا يتعلق بنزاع ضريبي وفق ما جاء في مقتضيات المادة 8 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، وأن الطلب يتعلق باسترجاع مبالغ تم اقتطاعها من تعويض المغادرة الطوعية للعمل  والتي هي نوع من أنواع إنهاء عقد العمل بين المشغل والأجير، وأنه طالما أن النزاع مرتبط بعقد العمل، فإن المحكمة الابتدائية تبقى مختصة للبت في الدعوى طبقا لمقتضيات الفصل 20 من ق.م.م فضلا على أن المشغل هو الذي قام باقتطاع تلك المبالغ، وليس إدارة الضرائب.” فكان القضاء في هذا الحكم يسير في اتجاه تحديد الأساس القانوني للدعوى وهو ما عبر عنه المشرع في الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية بالسبب، فحدد أساسها في كون المبالغ المطالب بها ليست لها الطابع الضريبي وإنما تكتسي طابع التعويض الناتج عن فسخ عقد الشغل. ولعل هذا التحديد للأساس القانوني للدعوى من شأنه العمل على  تغيير الآثار القانونية نتيجة إعادة النظر في سبب النزاع وبالتالي في تكييفه وفق ما يقتضيه القانون.

ومما يذهب في نفس الاتجاه ما جاء في حكم صادر عن نفس المحكمة في شأن نزاع متعلق بالأراضي السلالية حيث كانت النساء تحرم من نصيبها مما يتركه الهالك ويطالبن بالتعويض عن الحرمان وفق القواعد العامة بينما ذهبت المحكمة أن الأمر لا يتعلق بالتعويض وفق القواعد المدنية و إنما يتعلق بحقوق الإرث التي تمكن النساء من حقوقهم بالرغم من كون الأعراف المعمول بها تحرمهم من ذلك بحجة أن القانون المنظم للأراضي السلالية ليس فيه ما يحرمهن من نصيبهن الآيل إليهن إرثا. و في هذا الصد فقد جاء في الحكم الابتدائي الصادر في الملف عدد 1/08/989 ما يلي:

“وحيث إن الذكور من ورثة الهالك ( ه. ع ) حرموا أخواتهم من استغلال نصيبهن من الأرض التي انجرت عن طريق الإرث من والدهم منذ وفاته سنة 1977 وعمدوا إلى حرمانهم ثانية من حقهم الشرعي فيما استلموا من تعويض عن الانتفاع بالأرض الجماعية الخاصة بهم جميعا، وهي غير الأرض التي سبق للمدعيات التوصل بحقهن من وزارة الداخلية والكائنة بحي الرياض، كما أنه لا مجال للاحتجاج بالعرف لضمان بقاء الملك الجماعي تحت يد الرجال دون الإناث مادام قد تم نزع العقار كليا من الورثة وتفويته للغير، وأنه لا يوجد أي مقتضى قانوني بالظهير الشريف الصادر في 27/04/1919 بشأن تنظيم الوصاية الإدارية على الجماعات وضبط تدبير شؤون الأملاك الجماعية وتفويتها حسبما وقع تتميمه وتغييره يفيد أن التعويض الممنوح لأرباب العائلات أوذي الحقوق المسجلين من لوائح الجماعة مصادق عليها من طرف نواب الجماعة والسلطة المحلية، يخصص لمن  يستغل الملكية الجماعية فعليا أو أنه تقويم لما أحدثه من بناءات وأشجار وغيرها من التحسينات المدخلة على الملك الجماعي.

وحيث إن حرمان المرأة من حقها في الميراث – وهي بدعة جاهلية وقديمة- بعلة العرف والعادة  المنظمة لاستغلال الملكية الجماعية، مخالف للإسلام الدين الرسمي للدولة ودستور المملكة الذي يجعل المغاربة ذكورا وإناثا سواسية كأسنان المشط أمام القانون في الحقوق والواجبات، وأمر مناف للمثل العليا لمناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة وأن القضاء حارس الحقوق والحريات يتصدى للأمر بالحزم اللازم ويقدر الحكم الواجب النفاذ في دولة المؤسسات القائمة على سيادة القانون وسلطة القضاء.

……..

وحيث إن الطلب تبعا للعلل المفصلة أعلاه وجيه ومؤسس شرعا وقانونا ويتعين الحكم على كل واحد من المدعى عليهم بإرجاع حصة المدعيات كما  سيرد في المنطوق  دون أن تتقيد المحكمة بحدود طلبات الطرف المدعي، لكون الفقه والقضاء مجمع على أن الأحكام المضمنة في مدونة الأسرة هي كأصل عام آمرة تتصل بجوهر النظام العام للمملكة المغربية لأن مدونة الأسرة معينها الشريعة الإسلامية على طريقة أنس بن مالك وأصحابه سلفا عن خلف جريا على قواعد مذهبه.”

وختاما يمكن القول بأن إعادة قراءة مقتضيات الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية قراءة رصينة من شأنه أن يعيد النظر في الطريقة التي تدار بها الخصومة المدنية من أجل تجاوز النظرة القاصرة للدور الذي يتعين على القاضي المدني لعبه للبت في الخصومات المعروضة عليه حتى يلعب دوره كاملا في تحقيق العدالة المنشودة وإقامة التوازن المطلوب بين المصالح المتعارضة في إطار ما يقتضيه القانون.