قراءة في الفصل 110 من الدستور على ضوء الاجتهاد القضائي الإداري

10 أكتوبر 2020
قراءة في الفصل 110 من الدستور على ضوء الاجتهاد القضائي الإداري

قراءة في الفصل 110 من الدستور على ضوء الاجتهاد القضائي الإداري

 

ينص الفصل 110 من الدستور المغربي لسنة 2011 على أنه: ” لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون.

يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.”

        فنص الفصل أعلاه يثير العديد من التساؤلات من قبيل : هل قضاة الأحكام ملزمون بالتطبيق الحرفي للقانون أم يجب عليهم البحث في روح القانون وتطبيق عدالته. لماذا قضاة الأحكام أمكن لهم بنص الفصل التطبيق العادل للقانون دون قضاة النيابة العامة الذي يظهر من صياغة الفصل أنه يجب عليهم الالتزام بتطبيق القانون فقط مع الامتثال للتعليمات الكتابية القانونية.

كـل هـذه التساؤلات وغيرها تجر بنا لـمقاربة جــوانب الإجابة عـنها من خـلال العمل القضائي المتواتر للقضاء الإداري وخــاصة الاجتهادات منها -على سبيل المثال لا الحصر-، والتي طبق خلالها القاضي الإداري روح النص لا حرفيته. بل تجرنا أيضا لدراسة حالات راقب فيها القاضي الإداري سوء تطبيق القانون من قبل أجهزة أخرى كجهاز النيابة العامة في الحالات التي يعتبر عملها فيها عمل إداري صرف.

خصوصا وأن القاضي الإداري عند معالجته للقضايا الإدارية، يتطلب منه جرأة وشجاعة لمواجهة تعنت الإدارة في بعض الحالات، بل وحتى مواجهة شكل آخر من التعنت عن طريق النص القانوني بحد ذاته.

وهذا الأمر كما يقول الأستاذ محمد المنتصر الداودي (القضاء الإداري، مسيرة متطورة- دور الغرفة الإدارية في الحفاظ على مكاسبها، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2014، ص 130) يحتاج إلى ذكاء القاضي الإداري وفطنته للحفاظ على إشعاع القضاء الإداري وفعاليته.

الأمر الذي يجب  معه البحث من خلال هذا الدور الفعال، عن طريق التكييف القانوني للوقائع هذا المقال منشور على موقع الجامعة القانونية المغربية الافتراضيةوتبيان طبيعة النزاعات المعروضة، والنفاذ لعمق النزاع قصد الإحاطة بمصيره. بل وتحديد ما إذا كان فعلا يتطلب الأمر تطبيق النص حرفيا أم البحث في روحه انطلاقا من مجمل مصادر القاعدة القانونية حسب الهرمية المعتمدة داخل الدولة، بما فيها المرجعيات الكونية والإسلامية لاجتهادات القضاء الإداري.

ففي الميدان الضريبي مثلا، نجد من بين الحالات التي عمل من خلالها القاضي الإداري على إيجاد  قواعد لوضع نوع من التوازن الصعب بين أطراف هاته العلاقة ما قضت به محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في قرار لها بتاريخ 19\5\2016، (قرار رقم 2445 في الملف عدد 15\7209\529، منشور بمجلة العمل القضائي لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط على ضوء المبادئ الحديثة المقررة من طرف محكمة النقض، العدد الثاني، ص 91) والذي قضت فيه أنه “.. في ظل عدم صحة مسطرة التصحيح محل الطعن استنادا إلى مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 219 من المدونة العامة للضرائب المتعلقة بكيفيات التبليغ، والتي تحول بذاتها دون ربط قبول الطعن شكلا بضرورة سلوك مسطرة التظلم، في ظل عدم احترام الإدارة الجبائية للضمانات المقررة لفائدة الخاضع للضريبة.”

على اعتبار أن المادة 235 من نفس المدونة، تشترط ضرورة سلك مسطرة المطالبة قبل الطعن القضائي، خصوصا أن حالة المنازعة هاته تندرج ضمن الحالات الواردة في نص المادة المذكورة وتستوجب تقديم المطالبة.

غير أن القاضي الإداري لم يتقيد بحرفية النص وأقر بأنه مادامت الإدارة لم تحترم الضوابط القانونية المقررة حماية لضمانات الخاضع للضريبة، وأن مسطرة التصحيح أصبحت لاغية فلا يشترط على الخاضع للضريبة أن يتقيد هو الآخر بمسطرة المطالبة الإدارية.

وهو الأمر الذي أكدت عليه الغرفة الإدارية بمحكمة النقض من خلال قرار لها بتاريخ 15\6\2017، (قرار رقم 2\509 في الملف الإداري عدد 2017\2\4\150، منشور بمجلة العمل القضائي لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط على ضوء المبادئ الحديثة المقررة من طرف محكمة النقض، مرجع سابق، ص 91) وذلك من خلال اعتبارها لأن ” الخاضع للضريبة في حل من تقديم المطالبة الإدارية المنصوص عليها في المادة 235 من المدونة العامة للضرائب ورفع الدعوى القضائية وفق المادة 243 من نفس المدونة، متى ثبت أن الإدارة الجبائية لم تحترم المقتضيات القانونية المنظمة لمسطرة الفرض الضريبي.”

ونفس الدور لعبه القاضي الإداري في مسألة الوصل أو الإذن بالتقاضي في ظل الميثاق الجماعي ومعه القوانين التنظيمية للجماعات الترابية.

حيث أنه في ظل الميثاق الجماعي (القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.02.297، الصادر في 25 رجب 1423 -3 أكتوبر 2002- ج.ر عدد 5058 بتاريخ 21 نوفمبر 2002، المعدل بالقانون رقم 01.03لسنة 2009) كانت المادة 48 منه تنص على أنه “.. لا يمكن رفع أي دعوى، تحت طائلة عدم القبول من لدن المحاكم المختصة، إلا بعد إحالة الأمر مسبقا إلى الوالي أو العامل الذي يبت في الشكاية.. “

وهو الأمر الذي سايرته المحاكم الإدارية كما هو الحال في حكم المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 24\7\2013 (حكم رقم 2763 في الملف عدد 133\5\2013، غير منشور) الذي أكد على أن ” مسطرة المادة 48 من القانون 78.00 المتعلق بالتنظيم الجماعي مقررة وجوبا تحت طائلة عد القبول.”

 غير أن هذا التوجه لم يدم طويلا هذا المقال منشور على موقع الجامعة القانونية المغربية الافتراضية وسرعان تم العدول عنه من خلال قرارات الغرفة الإدارية بمحكمة النقض ومعها محاكم الاستئناف الإدارية.

ففي قرار للغرفة الدارية بمحكمة النقض بتاريخ 28 أبريل 2016 (قرار رقم 596 في الملف الإداري عدد 1593\3\4\2015، منشور بمجلة العمل القضائي لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط على ضوء المبادئ الحديثة المقررة من طرف محكمة النقض، مرجع سابق، ص 114) اعتبرت فيه أن ” لا معنى أن يتوقف حق اللجوء إلى القضاء على إذن أو إخبار قبلي لشخص هو طرف في الخصومة.. “

وما ورود هاته الصيغة في قرار لمحكمة النقض، إلا إجابة على المستجدات التي جاءت بها القوانين التنظيمية الخاص بالجماعات الترابية من صيغة الإخبار في مقاضاة الجماعة أو قرارات جهازها التنفيذي المتسمة بتجاوز السلطة الواردة في نص المادة 265 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات. (الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.15.85 الصادر في 20 من رمضان 1436 -7 يوليو 2015- ج.ر عدد 6380 بتاريخ 6 شوال 1436 -23 يوليو 2015- ص6660.)

كما أن محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط، أكدت في قرار لها بتاريخ 29 نونبر 2017 (قرار رقم 5106 في الملف عدد 1524\7206\2017، منشور بمجلة العمل القضائي لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط على ضوء المبادئ الحديثة المقررة من طرف محكمة النقض، مرجع سابق، ص 114) على أن ” التقدم قبل رفع الدعوى بمذكرة والي الجهة مقترنة بتوجيه رسالة إلى رئيس الجماعة بنفس التاريخ، يجعل الدعوى مستوفية لأوضاعها الشكلية، حتى مع عدم تضمن هذه الرسالة لموضوع وأسباب الشكاية، مادام أن حق اللجوء إلى القضاء لا يتوقف على إخبار قبلي لشخص هو طرف في الخصومة.”

هذا، ولا تقف رقابة القضاء الإداري عند هذا الحد، أي تطبيق القانون بكيفية عادلة من عدمه. بل تمتد كما تساءلنا سابقا حتى إلى رقابة أعمال جهاز النيابة العامة المعتبرة في حكم الأعمال الإدارية حسب الاجتهادات المتواترة للقضاء الإداري في هذا الصدد والتي تعتبر مجال خصب للمسؤولية الإدارية، خاصة في مسألة تطبيق القانوني بكيفية سليمة.

ففي حكم للمحكمة الإدارية بوجدة بتاريخ 22\11\2016 (حكم رقم 930 في الملف عدد 183\7112\14، غير منشور) اعتبرت بعد انعقاد اختصاصها بموجب حكم مستقل أن “.. الخطأ المنسوب لجهاز النيابة العامة كان نتيجة التطبيق الخاطئ للقانون المنظم لجنحة عدم توفير مؤونة شيك مما تنتفي معه المسؤولية الشخصية للقاضي ويرتب مسؤولية جهاز النيابة العامة جراء التطبيق الغير السليم للقانون وبالتالي نكون أمام حالة من حالات الخطأ القضائي المجرد.. وتحديد التعويض الجابر للضرر.”

لنخلص إلى أن القاضي الإداري، حاول ويحاول ما أمكن من خلال الحالات المعروضة أعلاه، وحالات أخرى لم يتم التطرق إليها أن لا يقف عند تفسير النص القانوني وتطبيقه بشكل حرفي، بل يمتد إلى تأويله والقفز بمعناه لما يحقق نوع من التوازن الصعب بين أطراف العلاقة، والتي هي بطبيعتها غير متوازنة.

خصوصا وأن النص القانوني قد يتضمن مقتضيات إن تم تطبيقها بشكل كما هي واردة فيه، ستمس بالضمانات وتعصف بالحقوق. الأمر الذي يكون معه لزاما البحث في عدالة  تلك المقتضيات إن وجدت وإلا البحث في سبيل آخر لتحقيق الهدف الأول للقانون وهو حماية الحقوق.