في المنهج والإشكال القانونيين

25 نوفمبر 2023
في المنهج والإشكال القانونيين

في المنهج والإشكال القانونيين

مقدمة

يتلقى الطالب القانوني منذ دخوله كلية العلوم القانونية والاجتماعية، معارف قانونية من خلال حضور دروس نظرية عن طريق التلقي وحفظ المعلومات بشكل ألي مما يعطينا نتيجة واحدة هي نسيان كل ما تلقاه الطالب من ذاكرته في رمشة عين، وحين تأتي لحظة مواجهة المجال العملي يجد الطلبة صعوبة في كيفية تطبيق كل ما تلقوه. كل هذا يؤدي إلى إكراهات تنتج لنا عقلا قانونيا دوغمائيا.

فدارس القانون يجب عليه التخلي عن الأفكار الجامدة عند تعامله مع القانون، وألا ينظر إليه من زاوية شارحة للنص فقط، وإنما يجب أن يدرس القانون من الزاوية المحللة له وتفكيك ألفاظه ومعانيه، في ضوء علم اللغة والمنطق وعلم الاجتماع أو فلسفة التأويل، ويحتاج للاتصال مع العلوم الأخرى.

 فكل هذه المواد والمجالات ستحقق لنا نتيجة مبهرة إلا وهي جودة في التفكير، التي ستحرر دارس القانون من القيود والمغلوطات، سيصبح من خلالها دارس القانون منفتحا أكثر على المجتمع وينظر إليه من موقع علوي تعطيه الصلاحية في معرفة ماذا يجري وما العمل عند وقوع إشكال.

يتناول علم القانون إشكالات وظواهر قانونية ويدرس مواضيع متنوعة تنتج عن تطبيق القواعد القانونية فعلى الباحث القانوني إتباع منهج لحل الإشكالات المطروحة أمامه، ودراسة المناهج العقلية والإجرائية ومعرفة تطبيقها على الوقائع المعروضة عليه، بالموازاة مع ذلك معرفة كيفية تحديد الإشكاليات القانونية للوصول لحل قانوني تتحقق فيه عنصر العدالة وهذا هو الهدف الرئيسي، لأن القاعدة القانونية وليدة المجتمع وتطبق على المجتمع.

أهمية الموضوع:

تتجلى أهمية الموضوع في مدى أهمية المناهج والعلوم الأخرى وتأثيرها في دارس القانون عند حله للإشكالات القانونية عندما تتعارض الجوانب النفسية والثقافية والاقتصادية مع القاعدة القانونية واجبة التطبيق.

إشكالية الموضوع:

تطرح القاعدة القانونية واجبة التطبيق عدة إشكالات عندما تتعارض لنا مع المجتمع مما يجل من عدم تطبيق الأنسب عدم تحقيق العدالة وخلق إشكالات قانونية أخرى، فالإشكالية المحورية تتمثل في ما مدى تأثير المنهج والعلوم الأخرى في حل الإشكال القانوني؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية عدة تساؤلا فرعية منها:

–         ما أهمية الإشكال في البحث العلمي نظريا و تطبيقيا؟

–         ما هو المنهج المتبع عند تعارض القاعدة القانونية مع الظروف المحيطة بها؟

–         هل يمكن ترجيح الجانب النفسي أو الثقافي عندما يعارض القاعدة القانونية؟

وسنتطرق إلى هذا الموضوع من خلال التصميم التالي:

المطلب الأول: تحديد المفاهيم المنهج والعلم

المطلب الثاني: تأثير المنهج في حل الإشكال القانوني

المطلب الأول: تحديد المفاهيم المنهج والعلم

تعتبر الظواهر الاجتماعية أشد تعقيدا من الظواهر الأخرى، إن المشاكل التي تدرس في مجال العلوم الاجتماعية تعتبر أشد تعقيدا وتشابكا وتركيبا من تلك التي تدرس في العلوم الطبيعية ويصعب ضبطها تجريبيا.

وإذا كانت هذه هي بعض الصعوبات التي تقف في سبيل تطبيق المنهج العلمي في مجال العلوم والدراسات الاجتماعية، فإن الباحثين الاجتماعيين بذلو جهودا كبيرة في سبيل التغلب على هذه الصعوبات من أجل تطبيق المنهج العلمي في مجال العلوم الاجتماعية والقانونية.

لذا سنحدد المفاهيم الأساسية ألا وهي المنهج والعلم في الفقرات الموالية

الفقرة الأولى: المنهج

إن كلمة منهج “Méthode” أو ” Method” مشتقة أصلا من اللغة اللاتينية، وكانت تعني عند “أفلاطون” معاني البحث والنظر والمعرفة وكلمة منهج في أصلها الأوروبي تعني الطريق المؤدي إلى الغرض المطلوب خلال المصاعب والعقبات.

والمنهج لغة يعني الطريق أو النظام، كما يعني “كيفية” أو “فعل” أو “تعليم شيء وفقا لبعض المبادئ بصورة مرتبة ومنسقة ومنظمة.

كما عرف المنهج في المعنى الاصطلاحي بأنه:” فن التنظيم الصحيح لسلسة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها للأخرين حين نكون بها عارفين[1].”

وقد استخدمت كلمة أو علم المناهج لأول مرة على يد الفيلسوف “إيمانويل كانت” عندما قسم المنطق إلى قسمين: هما مذهب المبادئ وهو الذي يبحث في الشروط والطرق الصحيحة للحصول على المعرفة، وعلم المناهج الذي يهتم بتحديد الشكل العام لكل علم وبتحديد الطريق التي يتشكل ويتكون بها أي علم من العلوم. أي أن علم المناهج هو العلم الذي يبحث في أساليب البحث العلمي، والطرق العلمية التي يكشفها ويستخدمها العلماء والباحثون من أجل الوصول إلى الحقيقة، وبمعنى أوضح فالمنهج هو مجمل الإجراءات والعمليات الذهنية التي يقوم بها الباحث لإظهار حقيقة الأشياء أو الظواهر التي يدرسها.

أما المنهجية فهي فرع من فروع الإيبستمولوجيا (علم المعرفة أو فلسفة العلوم) تختص بدراسة المناهج أو الطرق التي تسمح بالوصول إلى معرفة علمية بالأشياء والظواهر. وهي تعني دراسة شتى الطرق التي يعتمدها التفكير ليصل إلى غاية ما في حقل من حقول المعرفة، أو إلى التعمق في دراسة موضوع ما. أي أنها مجموع الطرق أو الأساليب التي توجه نشاطاتنا الذهنية نحو غاية معينة.

إنما مفهوم المتعارف عليه حاليا فهو أن المنهجية طريقة للإجابة عن إشكالية أو سؤال قانوني ما أو لتحليل فكرة ما. فهي طريقة في الكتابة تقوم على عرض الأفكار بأسلوب متسلسل ومترتب ومبوب (معنون)، وتجنب العرض العشوائي وغير الموظف للمعلومات أو سردها بأسلوب غير مترابط العناوين.

فالمنهجية إذا مجرد وسيلة وليست غاية بحذ ذاتها، فهي أسلوب للتفكير المنظم وهي الحيط الخفي الذي يشد أجزاء الموضوع إلى بعضها البعض، بغض النظر عن نوع الموضوع، وهذه الوسيلة بما تتضمنه من أساليب تفكير علمية، ولدت من رحم الفلسفة، وترعرعت في كنف العلوم الطبيعية، وأصبحت في ريعان شبابها رفيقة العلوم الإنسانية.[2]

الفقرة الثانية: العلم

العلم جمع علوم: أدرك الشيء بحقيقته، العلم: اليقين والمعرفة وكلمة علم ” science ” تعني لغة: إدراك الشيء بحقيقته وهو اليقين والمعرفة.

أما العلم اصطلاحا فهو “ذلك الفرع من فروع الدراسة الذي يرتبط بالمعرفة المنظمة تنظيما دقيقا بما يسمح باكتشاف العديد من الحقائق والمبادئ والقواعد ثم الربط بينها ربطا محكما، وذلك بالأسلوب والمنهج العلمي توصلا للعديد من القوانين التي تحكمها.”

كما يعرف البعض العلم أنه:” نسق المعارف العلمية المتراكمة أو بمعنى أسلوب معالجة المشاكل (أي المنهج العلمي).

فالعلم إذا هو المعرفة المنسقة التي تنشأ عن الملاحظة والتجريب والدراسة والتي تقوم بفرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تتم دراسته… والعلم فرع من فروع المعرفة أو الدراسة خصوصا ذلك المتعلق بتنسيق وترسيخ الحقائق والمبادئ والمناهج بواسطة التجارب والفروض.

كما أن العلم ليس مجرد مجموعة مترابطة من الحقائق الثابتة المصنفة والقوانين العامة.

ومما سبق يمكن القول بأن المعرفة “La connaissance ” هي المدخل الطبيعي للعلم إذ لا يمكن الحديث عن علم بدون معرفة.

أما المعرفة فهي عبارة عن مجموعة من المعاني والمعتقدات والأحكام والمفاهيم والتصورات الفكرية التي تتكون لدى الإنسان نتيجة لمحاولته المتكررة لفهم الظواهر والأشياء المحيطة به.

والمعرفة أشمل وأوسع من العلم، ذلك أن المعرفة تشمل كل الرصيد الواسع من المعارف والعلوم والمعلومات التي استطاع الإنسان باعتباره كائنا ومخلوقا يفكر ويتمتع بالعقل أن يجمعه خلال وعبر التاريخ الإنساني الطويل بحواسه وفكره وعقله. كقيام الإنسان بالنظر والتأمل في بعض عناصر بيئته كالنجوم والكواكب ثم محاولة الإحاطة التامة بها وفهم أسرارها.

ومن المعارف ما يتصل بتكوين الإنسان البيولوجي والنفسي، ومنها ما يتصل بعناصر بيئته الطبيعية والاجتماعية والثقافية ويتكون البناء المعرفي العلمي من مجموعة من المفاهيم والعبارات التي يعتبرها العلماء مفيدة لتحقيق الهدف والغرض من العلم[3].

المطلب الثاني: تأثير المنهج في حل الإشكال القانوني

عندما تعرض علينا قضية جنائية، يجب علينا أن نكون على إلمام بعلم النفس وعلم الاجتماع ودراسة سلوكيات الأفراد، فكيف يعقل أن نحكم على حالة بعقوبة دون دراسة حالته وما السبب الرئيسي أو الدافع لارتكابه للجرم، وكذلك بالنسبة لقضية متعلقة بقانون الأسرة، هنا يجب الاطلاع على التاريخ، ودراسة حالة الطفل النفسية، ودراسة اقتصادية خاصة في الأحكام المتعلقة بالنفقة، ودراسة علم الاجتماع القانوني كل هذا من أجل تحقيق المصلحة الفضلى للطفل.

ويجب على دارسي القانون أن يتبع منهجا سليما من أجل تحقيق توازن بين ما درسه في القانون والعلوم الأخرى والمحيط الاجتماعي من أجل تطبيق سليم للقاعدة القانونية.

وأيضا بالنسبة للقانوني المدني، فأصل الالتزامات والعقود منبثق من الأخلاق فلو كان الإنسان ثابت في أخلاقه لما وجد القانون المدني، فهنا نلاحظ ترابط المجالات والعلوم بتطبيق القاعدة القانونية، لا يمكن إغفال أي شيء عند حل الإشكال القانوني.

الفقرة الأولى: إشكالية تعارض القاعدة القانونية مع المجتمع

يدرس طالب القانون في أول سنة دراسية له بتخصص القانون، مادة تسمى مدخل للعلوم القانونية، وحتما يتلقى فيها أساسيات الدراسات القانونية، ومنها القاعدة القانونية[4]، فهذه الأخيرة تنظم الحياة في المجتمع وتضبط العلاقات بين الأفراد، هي قاعدة سلوك تفرض أو تمنع أو تبيح سلوكا معينا. [5]ومبدئيا كل قاعدة قانونية ملزمة للأفراد المخاطبين بحكمها، لأن القانون لا يقدم النصائح، ولا يعبر عن التمنيات أو التوصيات، وإنما يضع أوامر واجبة الاحترام، وهذا ما يدفع بعض الفقهاء إلى تعريف القانون بأنه أوامر مفروضة، لكن القوة الإلزامية ليست دائما بنفس الدرجة، بل هناك قواعد أكثر إلزامية من غيرها، ولهذا يقسم القانون لقوانين امرة ومكملة.

وما يهمنا هنا القواعد الامرة، فهذه القوانين تفرض بشكل مطلق على الأشخاص وعلى المحاكم، ولا يمكن لهم استبعادها بمحض إرادتهم، وغالبية قواعد القانون العام والجنائي تدخل في هذا الصنف، فكل اعتداء على حياة الفرد يعاقب عليه بعقوبة منصوص عليها في القانون الجنائي، هذه قاعدة امرة لا يجوز للأفراد الاتفاق على استبعادها، فالمتابعة الجنائية ستتم حتى لو كان الاعتداء تم بناء على اتفاق أو برضى الضحية، التي وجدت مثلا في حالة صحية ميؤوس منها كالقتل بدافع الشفقة. فالفاعل هنا يعاقب كقاتل، وإن كان يتمتع عادة بظروف التخفيف نظرا للباعث الشريف الذي حركه، وفي نفس المعنى نجد الفصل 407 من القانون الجنائي يعاقب على المساعدة بطلب من المنتحر نفسه الذي قرر وضع حد لحياته، ففي هذه الأمثلة يطبق القانون الجنائي بالرغم من كون الباعث شريفا، وبالرغم من القبول المسبق للضحية بنتيجة الفعل، نستنتج من هذا أن القاعدة القانونية لا تتأثر مبدئيا بإرادة الأفراد.

كما هو معلوم لا قانون بغير مجتمع ولا مجتمع بدون قانون، ولذلك فالقانون يتفاعل مع المجتمع ويتطور بتطوره الثقافي والحضاري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ومن ثم فالقانون لا يمكن أن ينظر إليه باعتباره وحدة ذات كيان مستقل قائم بذاته بل يجب أن يدرس من خلال الظروف الاجتماعية التي يظهر فيها والدور الذي يقوم به داخل المجتمع.[6]

 تدور في ذهننا العديد من الأسئلة عند دراستنا للقاعدة القانونية. هل كل ما ندرسه موافق للواقع؟ وهل يمكن لنا مخالفة القاعدة القانونية التي ليس لها استثناء لكي نحقق التطبيق العادل للقانون؟ ماذا لو كانت القاعدة القانونية تعارض المجتمع؟ عندما تعارض القاعدة القانونية المحيط بها، نقع في المحظور، بدلا من حل الإشكال القانوني المطروح علينا، نخلق إشكالات أخرى والتي قد تكون أصعب من الأولى.[7]  فالنتيجة هي وجود شارخ بين القانون والحياة وهذا المستوى يجعل من المجتمع في حالة شك من تطبيق القانون، وتهز الثقة في إمكانية حماية مصالح وحقوق المجتمع بالقانون، وأحيانا أخرى رفض القانون من قبل المجتمع. [8]فالغوص نحو الشكلية المفرطة يؤدي إلى الابتعاد عن الإنسان والغوص في هذه الشكلية. فقد جعلت الشكلانية من القانون أداة لا تحقق العدالة في غايتها، وهذا أمر غير سليم، فليس من المنطقي إذن أن تفصل القاعدة القانونية على العدالة والأخلاق، أوعن العلوم الأخرى، تبتغي تحقيق أثر اجتماعي دون أي مراعاة لسلوك الإنسان الاجتماعي الذي يتميز بالتطور.

الفقرة الثانية: المنهج المعتمد في حل الإشكال القانوني

لماذا نتصرف كما نفعل؟ إنه سؤال طرحه الفلاسفة منذ قديم الزمان أعمال دوسوفيسكي، فرويد، مثل رواية “الجريمة والعقاب” وكتاب “مافوق مبدأ اللذة” أعظم نوابغ التاريخ أدهشهم تقلبات سلوك الإنسان. لذا حين نعجز عن تحديد الدافع فورا، لا يجب أن نهرع أو نفزع، إنها أحجية، لكن يمكن حلها إن اتبعنا منهجا سليما.

فرجل القانون الذي لا يتبع منهجا سليما لن يستطيع أن يكون فعليا رجل قانون لن يستطيع فهم الدوافع الحقيقية للفعل، مما يؤدي به حتما لعدم التطبيق السليم للقاعدة القانونية، مما يخلق لنا إشكالات أخرى. فماذا لو كانت القاعدة القانونية واجبة التطبيق تتعارض مع الجوانب الأخرى النفسية والاجتماعية والثقافية؟ ما العمل عند عدم وجود بدائل أخرى؟ هل يمكن لرجل القانون الترجيح بين الجانب النفسي أو الثقافي لكي يطبق القاعدة القانونية؟ 

كل هذا يتعرض له دارس القانون أو رجل القانون في الوسط العملي، فيستعصي عليه إجاد الحل السليم، ويجعله في مهمة صعبة من أجل تطبيق القاعدة القانونية على نحو عادل، لاسيما في مجال قضاء الأسرة وقضاء الأحداث، وبالخصوص في الأحكام المتعلقة بالأطفال.

تتجلى هذه الصعوبات في كون هذه القاعدة القانونية قد لا تكون في مصلحة الشخص، خاصة عند عدم وجود استثناءات أو بدائل على القضايا المعروضة على القاضي. وقد تتعارض القاعدة القانونية مع الظروف المحيطة في المجتمع كما أشرنا سابقا.

 فكل هذا يفرض عليه أن يصبح ملما بدقة عالية بمحيطه، أن يخرج للواقع ألا يكون حبيسا لغرفة مغلقة، أن يفهم علم الاجتماع، علم النفس الجنائي، علم الإجرام، علم السياسة، علم الاقتصاد، التاريخ … يجب عليه الإلمام بكل شيء وبكل مجال، لأن المجتمع يتطور بسرعة شديدة، خصوصا مع الثورة التكنولوجيا الحالية، فعامل واحد يتغير اليوم يؤدي بنا غدا بوقائع وأحداث وأفعال جديدة لم يتصور أحد أنها قد تحدث.

السؤال المطروح هنا هل يمكن التغاضي عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق متى بدا للقاضي عدم عدالتها، دون أن يتهم بأنه خرق الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على أنه يجب على القاضي خاصة أو المحكمة عامة أن تبث في حدود الطلبات ولا يسوغ لها أن تغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات، أم يطبق التشريع الأجنبي باتخاذ جميع التدابير الملائمة لتشريعها الداخلي؟

تجب الإشارة أن من المقومات التي جاء بها دستور 2011، حسب الفصل 110 ألا يلزم القضاة إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون. نستخلص من هذا النص أنه لا يجب التشبث الحرفي والالي بالنصوص التشريعية، فهذا يؤدي بنا للإضرار بمصالح الأفراد وحقوقهم. فمن الضروري أن يقوم القاضي بتمحيص الوقائع تمحيصا يجعله يصل للتكييف القانوني الملائم، للوصول إلى حكم.

وفي هذا السياق يمكننا أن نضرب مجموعة من الأمثلة القانونية التي تتعارض فيه القاعدة القانونية مع المجتمع.

نص المشرع المغربي في المادة 175 من مدونة الأسرة على أن زواج الحاضنة الأم، لا يسقط حضانتها في الأحوال الاتية:

1-       إذا كان المحضون صغيرا لم يتجاوز سبع سنوات، أو يلحقه ضرر من فراقها.

2-       إذا كانت بالمحضون علة أو عاهة تجعل حضانته مستعصية على غير الأم.

3-       إذا كان زوجها قريبا محرما أو نائبا شرعيا للمحضون.,

4-       إذا كانت نائبا شرعيا للمحضون.

فمن خلال النص القانوني أعلاه يتضح أن حضانة الأم تسقط عندما تتزوج من زوج ليس قريبا محرما أو نائبا شرعيا، وتنتقل للأب الذي قد يكون متزوجا، فهل من المنطقي أن زوجة الأب ستحضن الطفل كأمه، هذا لا يمكن بتاتا فلا أحد يعوض مكانة الأم، أليس من المنطقي أن المصلحة الفضلى للطفل أن يحضن من طرف أمه، وغياب الأم في حياة الطفل حتما سيؤدي به لأضرار اثارها لا تختلف عن اثار التعذيب والضرب، كما قال أفلاطون ” لم أجد الطمأنينة في أي مكان إلا في حضن أمي” ، فهل يمكن في هذه الحالة  أن نرجح الجانب النفسي للطفل لكي نطبق القاعدة القانونية؟

كمت تنص المادة 178 من مدونة الأسرة على أنه: “لا تسقط الحضانة بانتقال الحاضنة أو النائب الشرعي للإقامة من مكان لآخر داخل المغرب..” يتضح من النص أن انتقال الحاضنة أو النائب الشرعي للإقامة خارج المغرب يؤدي لإسقاط الحضانة، فهل هناك فرق بين الانتقال داخل المغرب أو خارجه؟ هل الانتقال بالطفل المحضون خارج المغرب سيسبب له ضرر؟

حتما ليس في جميع الحالات، فبعض الأحيان سيكون في مصلحة الطفل هذا الانتقال من جميع الجوانب النفسية والتعليمي. [9]حيث قضى المجلس الأعلى سابقا بأنه “شرعت الحضانة لمصلحة المحضون، كما هو الراجح. وهذه المصلحة على محتكم الموضوع أن تلتمسها في كل قضية.” ولذلك رفض طلب النقض الذي تقدم به الأب ضد حكم المحكمة التي وازنت فيه بين مصلحة المحضون وهي عند أبيها غير المتزوج وبين مصلحتها وهي عند أمها المطلقة التي انتقلت بها إلى بلد اخر، فقررت أن مصلحتها تكون عند أمها. كما قرر المجلس الأعلى سابقا أن ” الحكم الذي لن تبين فيه مصلحة نقل المحضون يكون ناقص التعليل وهو يوازي انعدامه”. وفي باب الحضانة حسب ما جاء في المادة 186 من مدونة الأسرة التي تنص على ” تراعي المحكمة مصلحة المحضون في تطبيق مواد هذا الباب” أي فهنا على القاضي تطبيق منهج سليم لحل التداخلات النفسية والاقتصادية في تطبيقه للقاعدة القانونية.

كما جاء في الفصل 165 من مدونة الأسرة على أنه:” إذا لم يوجد بين مستحقي الحضانة من يقبلها، أو وجد ولم تتوفر فيه الشروط، رفع من يعنيه الأمر أو النيابة العامة الأمر إلى المحكمة، لتقرر اختيار من تراه صالحا من أقارب المحضون أو غيرهم، وإلا اختارت إحدى المؤسسات المؤهلة لذلك.” ألا يعقل أن عدم قبول الحضانة سيضر حتما بمصلحة الطفل، فما سيكون مصيره؟ نظرا لما للأسرة من أثر كبير في تقويم سلوك الفرد. [10] فاعتبار الحضانة حقا للحاضن وتمكينه من إسقاطها ولو في ذلك مضرة للمحضون، من المسائل التي تتنافى مع فسلفة الحضانة بحد ذاتها.

نمر الان لقانون المسطرة الجنائية حيث تنص المادة 481 من قانون المسطرة الجنائية على أنه:” يمكن للمحكمة أن تتخذ في شأن الحدث واحدا أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب الاتية:

1-       تسليم الحدث لأبويه أو للوصي عليه أو للمقدم عليه أو لكافله أو لحاضنه أو لشخص جدير بالثقة أو للشخص المكلف برعايته؛

2-       إخضاعه في مؤسسة عمومية أو خاصة للتربية أو التكوين المهني ومعدة لهذه الغاية؛

3-       إيداعه في معهد أو مؤسسة عمومية أو خاصة للتربية أو التكوين المهني ومعدة لهذه الغاية؛

4-       إيداعه تحت رعاية مصلحة أو مؤسسة عمومية مكلفة بالمساعدة؛

5-       إيداعه بقسم داخلي صالح لإيواء جانحين أحداث لا يزالون في سن الدراسة؛

6-       إيداعه بمؤسسة معدة للعلاج أو للتربية الصحية؛

7-       إيداعه بمصلحة أو مؤسسة عمومية معدة للتربية المحروسة أو للتربية الإصلاحية.

يتعين في جميع الأحوال أن تتخذ التدابير المشار إليها أعلاه لمدة معينة لا يمكن أن تتجاوز التاريخ الذي يبلغ فيه عمر الحدث ثمان عشرة سنة ميلادية كاملة.”

فمن خلال هذا النص يتضح أنه على القاضي المكلف بالأحداث أن يطبق القانون وفق المصلحة الفضلى للطفل، فقضاء المختص بالأحداث، ليست مهمته السعي لإثبات ارتكاب الحدث للجريمة فحسب، إنما بهدف التعرف على المشكل والظروف التي أدت به لارتكاب الجريمة، واتخاذ تدابير مناسبة لمعالجة الحدث من أجل تهذيبه وإصلاحه.

 ذلك لأن الأحداث الجانحين في واقع الحال، هم ضحايا لظروفهم الاجتماعية السيئة التي دفعتهم إلى ما ارتكبوه من أفعال تعد جرائم قانونا مع ما هم عليه من نقص في الادراك وضعف في الارادة وقصور في النضوج الاجتماعي. كما صاغ (لندسي قاضي الاحداث) جوهر هذا المفهوم بقوله ” عندما يسرق طفل دراجة، ليس المهم بالنسبة للمجتمع أن يعرف مصير الدراجة، ولكن المهم أن يعرف بمصير الطفل”.

فالجانح اليوم هو المجرم الخطير غدا لذا يجب حمايته. فالسؤال المطروح هنا هل يمكن للقاضي اتخاذ تدبير اخرى غير المذكورة في الفصل السابق؟


[1]  ادريس الفاخوري، أسس البحث العلمي ومناهجه، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الرابعة، 2018، ص 16.

[2]  زهير شكر، المنهجية في دراسة القانون، مكتبة زين الحقوقية و الأدبية، الطبعة الأولى 2010، ص 21.

[3]  إدريس الفاخوري، أسس البحث العلمي و مناهجه، مرجع سابق، ص 20.

[4]  محمد جلال السعيد، المدخل لدراسة القانون، الطبعة الثالثة 2016، ص 41.

[5]  محمد جلال السعيد، مرجع سابق، ص 43.

[6]  ادريس الفاخوري، المدخل لدراسة العلوم القانونية، الجزء الأول نظرية القانون، السنة الجامعية 1991-1992، ص 11(8).

[7]  أحمد السكسيوي، القانون أفقا للتفكير، مقاربات متعددة، أفريقيا الشرق 2022، ص 13.

 أحمد السكسيوي، مرجع سابق، ص 19[8]

[9]  عبد المجيد غميجة، موقف المجلس الأعلى من ثنائية القانون والفقه في مسائل الأحوال الشخصية، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، سنة 2000، ص 274.             

[10]  عبد المجيد غميجة، مرجع سابق ص 268.