من سيادة القانون إلى السيادة بالقانون

10 مايو 2020
من سيادة القانون إلى السيادة بالقانون

من سيادة القانون إلى السيادة بالقانون

طارق زهير

 دكتور في الحقوق

محام بهيئة الدارالبيضاء

يمر النص القانوني كنتاج تشريعي بأزمة على مستويات العديد من النظم القانونية على مختلف مشاربها الاديولوجية ، فاصبح القانون غير عاكس أو ممثل لإرادة الأفراد في إقرار قواعد الزامية تنظم علاقاتها الجماعية و المجتمعية، بقدر ما أضحى أداة أو ألية تقنية للحكم ، قد تصير أحيانا دعامة تعتمدها ليس الأغلبية فقط لتمرير ما يناسبها من قوانين، بل كذلك الاوليغارشية التي قد تستغل فراغا او نقصا تشريعيا لتمرير ما يحمي مصالحها من قوانين و لو كان ذلك على حساب حقوق الأفراد الدستورية .
و من بين الأزمات التي يعاني منها القانون ، أزمة عدم قبول الفرد و العقل الجماعي لنص قانوني ما سواء كان فكرة ، أو بلور في مسودة أو صار نافذا، و غالبا ما يكون مردها جهل الفرد بالقانون ، الناجم إما عن الكم الهائل من النصوص القانونية التي يتم سنها في ميادين شتى يغيب فيها التفكير المجتمعي عند إعدادها ، إعداد قلما يتخذ شكل مقترحات بل يأتي في شكل مشاريع تهيأ في مختبرات تقنينية لا تعتبر ،أو بالأحرى لا يدخل في ناموس عمليتها التقنينية إرادة الشعب و اختياره لتنظيم منحى ما في وقت ما و بشكل يحقق معه إجماعا عليه، او توافقا نسبيا يوازن بين مختلف مصالح مكونات المجتمع.
لا ريب أن هذا الكم الهائل من التقنين ، يجعل التشريع محط تشكيك في قدرته على استيعاب أثاره على الفرد و المجتمع،خصوصا، أمام ضعف التكوين الحقوقي و القانوني ، كما يتعذر أحيانا حتى رجل الحقوق تتبعها و ادراك لغتها ، فما بالك بالانسان العادي ، و من ثم كيف يتسنى قبول مضمونها و تبني مقتضياتها.
و غالبا ما تعتبر القوانين فئوية، لمّا تعدها جهة ما لمصلحة ضيقة لفئة ما،ليس فقط بمفهوم أن فئة ما كانت وراء إعدادها ، بل عندما تكشف دراسة أثارها الجهة المستفيدة من أبعاده التطبيقية.
لكن الأنكى من كل ذلك، هو عندما يصير القانون آلية للسيادة، أي سيادة فكر على حساب فكر آخر ، طرف في المجتمع على طرف آخر سواء أكان أقلية أو أغلبية ، تحكّم فئة في فئة أخرى أو فئات أخرى ، و قد يصير هاجس السيادة بالقانون محور أزمة الثقة في القانون و سلامة سريرة مقننيه، و بالذات،عندما يفهم،أو يعم إحساس إما حدسي فطري أو ناتج عن انتشار حكم قيمي مسبق ،بأن النص القانوني المزعوم تقنينه، هو تقنين انتقامي من وقائع أو حالة من الاظطراب في علاقات المجتمع تضررت منها فئة ما ، تتهم بأنها من قننته أو ساهمت في ذلك، أو دعمت من وراء الستار تقنينه ، و لو كانت نية من هم فعلا وراء إعداده سليمة تهذف إلى الحد من ظاهرة مجتمعية سلبية.
من هذا المنطلق، لا يكون للمجتمع و بالتالي الفرد أي دور ، كما عالج ذلك علماء الاجتماع القانوني ظاهرتي التقنين و التشريع ،فيصير نصا مفروضا لا تقبل عدالته، ما دام الفرد يرى فيه نصا مفروضا عليه ، مس بحق أو حقوق يكفلها له الدستور و القانون ، و الأشد في ذلك ، هو عندما تكون هذه الأحاسيس و الأحكام تتقاسمها فئة عريضة من المجتمع.
و قد يزداد هذا الشعور الاعتباطي الرافض للنص القانوني ، عندما يثار نقاش مجتمعي يولد لدى المخيل الجمعي أن مؤامرة أو تدبيرا دبر في كولسة ما ، من أجل تمرير ذلك النص القانوني الغاصب للحقوق ، فما بال المتتبع إذا كانت بعض من هذه الحقوق أو أهمها هي الحق في الرأي و التفكير ،و خصوصا حق التعبير عن الرأي المخالف أو الرأي الناقذ، هذا الأخير يدخل في زمرته الحق في اتنقاذ السلطة ، الحق في الدعوة إلى المقاطعة كألية ديمقراطية لمواجهة الرأسمال غير المواطن أو تحفيز ذلك المواطن و تشجيعه من خلال دعوة الجمهور على الإقبال على منتوجاته المحترمة لمعيار توازن الجودة و الثمن مثلا، ألية تبنتها الثكثلات المهيكلة أو العفوية للمستهلكين ،و أحيانا الفئات المعارضة لتوجه سياسي أو اديولوجي من أجل الحد من امتداده و اثاره السلبية على قيم و مبادئ المجتمع.
و على إثر ما أسلف ، فان البيئة التي يقنن من أجلها مثل هذه النصوص القانونية ، تلفظها،ليس أحيانا لعدم جدواها ، بل لأن منسوب الثقة فيها ضئيل ،إن لم نقل منعدم ، مرده إلى الخلفية أو الغاية اللتين كانتا وراء تهيئته،ما يفسح مجالا لأسئلة ناقذة ايحائية لا يحمذ عقباها، فتكون انطلاقة منطقية للتشكيك في نية النص و كل النصوص المقننة التي قد تهيئها الجهة المنظور إليها بعين الربا و التخوف.
أكيد، أن لحرية التعبير حدود ، و لكن رسم خطوط حمراء لها ، قد تتخذ أحيانا شكلا غير واضح المعالم، تتفاقم معه مشاعر التخوف من سلب الحرية ، و من ثم وأد كل إرادة تهدف على النقذ البناء ،و خفت صوت كل من لا يوافق أو يعارض تصورا أو توجها أو وضعا ما.
هذا الوضع لا يمكن أن يضفي على النص القانوني بعدا ديمقراطيا ،كلما كان هناك تغييب لمنهاج التقنين التشاركي،يفتح فيه نقاش عمومي،يعبد الطريق للنقاش التشريعي المبني على تصورات المجتمع ،و إلا فسيعم تخوف مشروع لدى كل فرد ،يتولد له انطباع عفوي نفساني أن حقوقه الاساسية في خطر، مما سينعكس سلبا على الدور الذي يتعين عليه أن يلعبه كفرد ايجابي حامل لأفكار انتقاذية خلاقة تنحبس تحت وطأة الخوف من المسائلة.
لا غرو،أن النص القانوني يكون فعالا و فعليا عندما يحسن اختيار مصطلحاته ، يوحد مفاهيمه ، فتدقق معانيه، و تضبط اثاره ، و العكس يصير عندما يكون فضفاضا يجعل المواطن يخاف من كابوس كل ما من شأنه، خصوصا،عندما تكون ظرفية عرضه على النقاش الحكومي قد أخطات الميعاد ، الأمر الذي سيصعب معه الظفر بالنقاش التشاركي الفعال للمواطن كان عاديا أو رجل حقوق أو قانون.
إن ترتيب الأوليات، تدبير الأزمات،خصوصا في اللحظات العصيبة التي يمر منها المجتمع ، تقتضي ليس التفكير بمنطق الردع و الزجر و الترهيب بالنص القانوني الجزائي، بقدر ما تقتضيان فتح النقاش العمومي بشتى الوسائل و صوره بغية حوار وطني تشاركي يبادر فيه الفرد كقوة اقتراحية لتعزيز النص القانوني أو طرح تعديلات عليه ، فيكون القانون نافذا في المخيل الجمعي قبل ان يكون في الواقع العملي ، عكس الحالة التي يفرض عليه قانون يمس في العمق سلوكا اعتاده و يهدد حقا أو حقوقا من حقوق الأساسية .
لب القول:إن الصياغة، اللغة، الأسلوب ، الظرفية و الطريقة ،لم يوفق فيها نسبيا مهيئي مشروع قانون 22ــــ 20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاحتماعي و شبكات البث المفتوح و الشبكات المماثلة،مما يجعل مشروعا القول ان هذا المشروع يتعين أن يناقش بعدما تمر الجائحة و تطمئن الأنفس ، فتصير الظروف المجتمعية مناسبة تفاديا لجدال و سجال عقيمين حول النوايا و تفاصيل جزءيات اسباب النزول، هذه الأخيرة يعشعش فيها الشيطان كما يقول المثل المأثور، فتجعله ليسا لسيادة القانون بل للسيادة بالقانون.