تدبير الزمن القضائي بين هاجس المتقاضي و إكراه تحقيق العدالة

17 يناير 2021
تدبير الزمن القضائي بين هاجس المتقاضي و إكراه تحقيق العدالة

تدبير الزمن القضائي بين هاجس المتقاضي و إكراه تحقيق العدالة.

يجد منطق تدبير الزمن القضائي أصوله الدستورية في الفصل 120 من الدستور الذي جعل من إصدار الأحكام القضائية داخل أجل معقول حقا من حقوق المتقاضين. فلأول مرة ارتقى المشرع الدستوري بهذا المفهوم إلى مصاف القاعدة الدستورية. و هو توجه أسمى لا يعبر فقط عن ترف نظري و إنما هو مبدأ يستتبع وضع مقتضيات قانونية إلزامية تضمن احترام هذا التوجه الذي يندرج في سياق عام لضمان نجاعة قضائية. هذه النجاعة كانت محط مساءلة ضمن تشخيص واقع العدالة الذي تضمنه تقرير الميثاق الوطني لإصلاح العدالة بتنصيصه على أنه : يجري تطبيق مساطر و إجراءات قضائية تقليدية و معقدة أمام المحاكم التي تعرف تضخما متزايدا في عدد القضايا، مع ما يترتب عن ذلك من بطء في البت فيها. و توجد صعوبات حقيقية بشأن تدبير إجراءات التبليغ والتنفيذ مما ينعكس سلبا على فعالية الضبط و الأداء[1].

من هذا المنطلق ينتظر أن يتم تفعيل هذا المبدأ الدستوري في التعديلات اللاحقة بالقوانين المسطرية وخاصة قانون المسطرة المدنية و قانون المسطرة الجنائية فضلا عن قانون التنظيم القضائي و غيرها من القوانين المنظمة للمهن القانونية و القضائية. و كذا تفعيل آليات و أدوات الإدارة الالكترونية للملفات و الإجراءات القضائية.

و يلعب القاضي دورا أساسيا في تدبير الزمن القضائي باعتبار تدخله في تسيير المساطر القضائية بدءا من تسجيل مقال الدعوى إلى غاية صدور حكم فيها والإشراف على تنفيذه. وقد كثر الحديث مؤخرا عن الدور الإيجابي للقاضي و مفهوم القضاء المتحرك لتجاوز سلبيات المفهوم التقليدي للحياد[2]. غير أن مركزية مسؤولية القاضي في هذا المجال لا يمكنها أن تعفي باقي المتدخلين في إدارة العدالة سواء كانوا موظفين عموميين أم أصحاب مهن حرة.

إن حسن تدبير العدالة من حيث ضمان جودة الخدمات و ترشيد النفقات لا يمكن أن يتحقق إلا بضمان تدبير أمثل و تحكم فعال في الزمن القضائي. غير أن الأمر لا يخلو من صعوبات قانونية و واقعية لتقاطع هذه المهمة مع مبادئ المحاكمة العادلة و لاسيما ضمان حقوق الدفاع. فكيف يمكن التوفيق بين هاجس سرعة العدالة – و ليس تسرعها – وبين وجوب احترام و كفالة حقوق الدفاع؟

إن احترام حقوق الدفاع يعتبر من أهم ضمانات مبادئ المحاكمة العادلة كما هو متوافق عليها دوليا. و يشمل حق الدفاع تيسير الولوج إلى العدالة و تمكين المتقاضي من الاستعانة بمحام و ضمان استدعائه لتقديم أوجه دفاعه و مناقشة كل معطى مؤثر في القضية طبقا لإجراءات و آجالات تمكنه من الدفاع عن حقه بكيفية سليمة. و كذا تمكينه من ممارسة حقه في الطعون القضائية و كافة المساطر التي تضمن حقوقه أثناء تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في حقه.

و تندرج مختلف المساطر و الآجالات التي تضمن حق المتقاضي ضمن مفهوم أشمل تواضع الفقه المسطري على تسميته بالنظام العام الإجرائي الذي يتعين على القاضي أن يكفل ويضمن احترامه. في مقابل ذلك نرى أن هذا المفهوم يجب أن يتسم بالمرونة الكافية حتى لا يشكل عرقلة تحول دون وصول المتقاضي إلى حقوقه. ومن هنا تبرز أهمية تكوين القاضي و كفاءته و تجربته في مواجهة المساطر التي قد تبدو أنها تعسفية لممارستها بسوء نية أو بشكل يحول دون نفاذ الحق المقضي به. و لعل توجه الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة نحو اقتراح البت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي بحكم واحد بات ملزم لباقي المحاكم ومنح محكمة النقض حق التصدي و تعزيز مؤسسة قاضي التنفيذ كلها مؤشرات تندرج ضمن هذه الغاية[3].

إن هدر الزمن القضائي المتمثل أساسا في البطء في إصدار الأحكام القضائية و تبليغها و تنفيذها من شأنه أن يسائل عدالتنا كمشروع مجتمعي يرنو إلى ضمان الحقوق و الحريات وتحقيق التنمية البشرية وجذب الاستثمار و تقوية الاقتصاد. ذلك أنه لا يمكن أن ننظر إلى العدالة بمنظار الحق المطلق أو المجرد بمعزل عن باقي الآثار الجانبية على الفرد و الدولة. فتكلفة بطء العدالة باهظة جدا، ومن شأن هذا البطء أن يرهق ميزانية الدولة في عالم يتوجه أكثر فأكثر إلى ترشيد النفقات غير الضرورية لضمان تنافسية الاقتصاد و تفادي عجز موازناتي يهدد بركود اقتصادات الدول. فما هي الغاية المرجوة مثلا من تكرار الاستدعاء الورقي كل مرة بواسطة موظف أو مهني مرصود لهذه الغاية في الوقت الذي يمكن الاستغناء عن هذه الإجراء المكلف بتبليغ الكتروني فعال و ناجع علما بأننا صرنا نعيش في مجتمع يستعمل الوسائل الالكترونية في مختلف المجالات؟ و ما هي الغاية من ممارسة التقاضي على درجتين في القضايا البسيطة؟ و ما هي الغاية من وضع شروط شكلية لتقديم

الدعوى إذا كان بوسع المحكمة العمل على تداركها إما بتنبيه الأطراف إلى ذلك أو بالحرص على تحقيق تلك الشروط مباشرة كإدخال من يجب إدخاله في الدعوى و لاسيما فيما يتعلق بالإدارات العمومية مثلا؟

و لا شك أن التنظيم القضائي للمحاكم و كيفية إدارتها ينعكس سلبا أو إيجابا على تدبير الزمن القضائي. فسواء تعلق الأمر بعلاقة الرئاسة مع النيابة العامة، أو علاقة مؤسسة الرئيس بمهام كتابة الضبط أو علاقة المسؤولين القضائيين بصفة عامة بأجهزة وزارة وإدارة العدل – من حيث توفير الوسائل المادية و اللوجيستيكية و التقنية اللازمة – أو علاقة النيابة العامة بالضابطة القضائية؛ كل ذلك من شأنه أن يسهم في تدبير أمثل للزمن القضائي بما يحقق سرعة تدبير الملفات و معالجتها. و بطبيعة الحال فإن توفير قاعدة إحصائية للمعطيات على الصعيد الوطني و المحلي و تحليلها سيؤدي إلى مقارنة عمل مختلف المحاكم و المصالح المرتبطة بها في كيفية تدبير عامل الزمن و الوصول إلى استنتاجات بخصوص الطريقة المثلى لتفادي عوامل البطء و يصار إلى تعميم التوصيات بشأنها من دون أن يؤثر ذلك على استقلال القضاء.

إن المفاهيم الحديثة لتدبير الإدارات و المقاولات لا شك و قد أصبح لها تأثير كبير على تسيير مختلف القطاعات و منها مجال القضاء الذي لا يمكنه أن يعيش خارج مفاهيم العصر الحديث. لذا يتعين إحداث قطيعة مع بعض المفاهيم التقليدية في القوانين الإجرائية بما يرفع العديد من العراقيل المسطرية التي تحول دون الوصول إلى الحق داخل أجل معقول. ولا شك أن الأزمة التي نتجت عن تفشي جائحة كوفيد 19 قد كشفت عن أعطاب العدالة التي ظلت حبيسة الإجراءات المسطرية المعقدة و ضرورة التواجد الحضوري، ودفعت بالجهات المسؤولة عن إدارة الملفات إلى التعامل بمرونة مع العديد من المقتضيات المسطرية والشكلية و لو في خرق واضح لبعض المقتضيات القانونية. و لا أدل على ذلك الاتفاق الذي حصل بين المسؤولين القضائيين عن تدبير المركب القضائي للمحكمتين الإدارية و التجارية و محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط[4]و الذي خلص إلى سن عدة تدابير للحيلولة دون تعطيل الإجراءات و تأخير البت في القضايا.

وقد دفعت الحاجة الملحة إلى تغيير طريقة معالجة الإجراءات القضائية بوزارة العدل إلى تقديم مشروع مستقل لتعديل باب من أبواب قانوني المسطرة المدنية و المسطرة الجنائية على وجه الاستعجال ويتعلق الأمر باستعمال الوسائط الالكترونية في الإجراءات القضائية[5]

الذي من المنتظر أن يخضع لنقاش قانوني معمق من طرف جميع الفاعلين في المجال القانوني والقضائي قبل عرضه للمناقشة والتصويت من طرف البرلمان.

خاتمة:

إن رهان تدبير الزمن القضائي يعتبر تحديا لقياس مدى نجاعة تسيير العدالة في زمن استقلال السلطة القضائية. وهو رهان يفرض تنزيل مقاربة تشاركية و تفعيل تعاون وثيق بين مختلف المتدخلين في مجال العدالة بما يترجم مبدأ التعاون بين السلط في أفق خدمة المتقاضي و ضمان حق المواطن في عدالة قريبة و ناجعة و سريعة وغير مكلفة.