الفيضانات وأزمة المسؤوليـة بين قانون الإلتزامات والعقود والقانـون 54.05
عــــرف المغرب في هـذه الأيــام الأخيـرة هطـول أمطـار غـزيـرة مـما أدى إلـى حـدوث فيضـانـات وسيــول هائلـة أغـرقــت عــدة شــوارع وأحيــاء ومنـازل وتسببت في عـدة خسائـر فـي البنيـة التحتيـة وأضرار مادية وبشرية وإقتصادية ، وهـو مـا خلـق الـرعب فـي نفـوس المواطنين ، وخاصـة الأحيـاء التي تعـرف بنيـة تحتيـة ضعيفـة ومنـازل آيلـة للسقـوط، لكونهـا بناؤهـا يعود إلـى أكثـر مـن 100 سنـة .
وهــــذا ما جعــل المغاربـة يتساءلـون عـن من سيـتحمل مسؤوليـة هـذه الخسائـر التـي تسببتهـا الأمطار الخزيرة التي عرفتهـا معظم المدن المغربية وخاصة في مواقع التواصل الإجتماعـــــي ،فنجـد منهـم مـن قـال أن هذه الأمطار الغزيرة تعتبـر قـوة قاهـرة ولا يحـق للمتضـررين المطالبـة بالتعويـض ، ومنهـم مـن قـال أن الدولـة هـي المسؤولــة عـن كـل هـذه الخـسائر والأضـرار، ومـن حـق كـل مـن تضـرر المطالبـة بالتعويـض أمـام القضـاء .
فهــل فعــلا هذه الأمطار الغزيرة التي خلفت مجموعة من الأضرار والخسائر تعتبـر قــوة قاهـــرة ؟؟؟.
فـإذا إعتبـرناهـا فعلا أنها قـوة قاهـرة كما قال البعض، فالفصل 269 من قانون الإلتزامـات والعقود ينـص على أن القـوة القاهـرة هي كـل أمر لا يستطيع الإنسـان أن يتوقعـه، كالظـواهر الطبيعيـة (الفيضانات والجفاف، والعواصـف والحرائـق والجـراد وغـارات العـدو وفعـل السلطـة)، ويكـون مـن شأنـه أن يجعـل تنفيـذ الالتـزام مستحيـــــلا. ولا يعتبـر مـن قبيل القـوة القاهـرة الأمـر الـذي كـان مـن الممكـن دفعـه، مـا لـم يقـم المـدين الدليـل علـى أنـه بـذل كـل العنايـة لدرئه عن نفسه. وكـذلـك لا يعتبـر من قبيـل القـوة القاهـرة السبـب الـذي ينتـج عـن خطـأ سابـق للمـدين.
بمعنـى أن القــوة القاهـرة هي حادث غير ممكن التوقـع ، وأنه يأتي مـن الخـارج ، ويستحيل توقيعـه ويجعـل تنفيـذ الإلتـزام مستحيلا ، وأعطى المشـرع في الفصل 269 بعض الأمثلـة عن القـوة القاهـرة ومـن بينهـا الفيضـانات …،
لكن هل هذه الأمطار الغزيرة التي تسببت في عدة خسائر وأضرار في معظم الأحياء بالمملكة تعتبر فيضان ؟،وهل تدخل ضمن الفصل 269 من ق.ل.ع ؟، ففي هذه الحالة وجب التمييز بين الفيضانات التي قصدها المشرع في هذا الفصل، وبين البركة المائية التي إجتمعت بسبب هذه الأمطار الغزيرة ، فالفيضان يعتبر ظاهرة طبيعية تحدث عندما يزيد منسوب المياه في أي نهر ، ليفوق مستوى ضفافه فيطغى عليها ، وكلما زادت سرعة جريان الماء من المنبع إلى مجرى النهر زاد الفيضان ، بمعنى أن الفيضان الذي قصده المشرع في الفصل 269 من ق.ل.ع بإعتباره ذلك الظاهرة الطبيعية الذي يكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الإلتزام مستحيلا ، في حين نجد ما تعرض له بعض المدن هو مجرد إجتماع وارتفاع لبرك مائية إجتمعت بسبب الأمطار الغزيرة نتيجة عدم تسريبهـا وسيلانها عبر البالوعات المخصصــــــة لها ….. .
أما فيما يخص إعتبار ذلك قوة قاهرة ، فالقوة القاهرة كما تطرق الفصل 269 من ق ل ع أمر لايستطيع الإنسان توقعه ، في حين ما وقع هو مجرد برك مائية إجتمعت بسبب الأمطار الغزيرة التي سقطت في فصل الشتاء، وفصل الشتاء معروف بتساقط الأمطار في كل سنة ، فهذا أمر عادي ومتوقع سقوط الأمطار وخاصة في فصل الشتاء ، وكما أكدت محكمة النقض في قرارهـا عـدد 608 الصادر بتاريـخ 18 أكتوبر 2017 في الملـف التجـاري عدد 378/3/2016 بقولهـا ” يتعين أن تتـوفر فـي القـوة القاهرة أو الحـادث الفجائـي ثلاثـــة شــــــروط :
- أن يكـون غيـرمتوقع /أن يكون مستحيل دفعه /أن يجعل تنفيذ الإلتزام مستحيلا استحالة مطلقة.
وحيث أن الدولـة والجماعـات والجهـات المعنية في هذه الواقعة تكــون متوقعــة ولهـــا علـــم بسقوط الأمطار ، التي تسببت في عدة أضرار وخسائر ، ممـا تكون مسؤولـة عن هـذه الأضـرار والخسائـر التي خلفتها الأمطـار الغزيرة ، طبقا للفصـل 79 من قانون الإلتزامات والعقود ،والذي ينص على أن الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضـرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها.
وينص الفصل 80 من ق ل ع كذلك على أن مستخدمو الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم أو عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم. ولا تجوز مطالبة الدولة والبلديات بسبب هذه الأضرار، إلا عند إعسار الموظفين المسؤولين عنها.
وتقوم هذه المسؤولية وفق الفصل 79 على أساس ثلاث أركان والمتمثلة في الخطأ والضرر والعلاقة السببية ، وفي هذه الحالة يجب التمييز بين الخطأ المرفقي الذي ينسب فيه الإهمال أو التقصير إلى المرفق العام ذاته وبين الخطأ الشخصي الذي ينسب للموظف ـ فالفصل 79 من قانون الإلتزامات والعقود تحدث عن الأضرار الناجمـة عن الاخطاء الإدارية ،وأنهـا لايسـأل عنها الموظفين بل تسأل عنها الدولة أو البلدية وحدهـا التي تقع المسؤولية على عاثقها وحدها . أما الفصل 80 من قانون الإلتزامات والعقود فقد تطرق إلى الأضرار الناجمة عن الأخطـاء الشخصية والتي يرتكبهـا موظفـو الدولـة والبلديات فيسألون عنها هم شخصيا ، وفـي حالـة إعسـار الموظـف المسـؤول ، فللمتضـرر المطالبة بالتعويـض مـن طـرف الدولـة والبلديـات لأن الدولة هي التي تتحمل مسؤولية موظفيهـــــا في حالة إعسارهم .
ومـن خلال الفصل 79 من ق ل ع نجده يحمل المسؤولية للدولة والبلديات عن الأضرار الناتجة عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم، ومن هذا المنطلق يحـق لكـل من تضـرر بسبب هذه البرك المائية جراء الأمطـار الغـزيـرة بسبب عدم تسريبها عبر البالوعات المخصصة لها ، أن يطالب بالتعويض نظرا لعدم إعتبارها قوة قاهرة هذا من جهة ومن جهة تانية قيام مسؤولية الدولة بناء على توفرها على ثلاث أركان وهي الخطأ وهو الركن الأهم في المسؤولية وهو إخلال بإلتزام قانوني ، والضرر وهو الركن التاني في المسؤوولية قد يكون مادي أو معنوي وأن يكون محققا ومباشر، والركن الثالث وهو وجود العلاقة السببية بين الخطأ والضرر ، وهذا ما صار عليه القضـاء الإدري بحيث قام بتكييــف هذه الواقعة طبقا للفصل 79 من قانون الإلتزامات والعقود ، فبالرجوع للقرار عـدد 251 بتاريخ 23/01/2014 في الملـف رقم 807/12/2010 الصادر عن المحكمـة الإداريـة بالربـاط جـاء فيـه على أن الأمطار الغزيـرة والإستثنائيـة المسببة للفيضـان لا تشكـل قـوة قاهـرة وإنـما قرينة على ترتب المسؤوليـة ، لكون وقوعهـا في فصـل الشتـاء مـن الأمـور المتوقعـة وليسـت قـوة قاهـرة أو سببـا أجنبيـا لإعفـاء مـن المسؤوليـة ، الشـيء الـذي تتحمل معـه الدولة التعويـض مـع تشطيـر مسؤوليـة الحـادث مـع الأطـراف المتسببـة .
وجـاء كذلـك فـي المـلف عـدد 584/7112/2015 الصـادر بتـاريخ 02/06/2016 عـن المحكمـة الإداريـة بأكادير ” حادثــة وفاة جراء الفيضانات – إهمال وتقصير من جانب الدولة في حماية المواطنين – تعويض . إلتزام الدولة بواجب حماية الحق في الحياة وسلامة الأشخاص وممتلكاتهم طبقا للفصلين 20و 21 من دستور المملكة ، يلزم الدولة بتوفير كافة الوسائل الكفيلة بحماية هذه الحقوق في مثل هذه الأحداث كزوارق الإنقاذ والمروحيات وغيرها من الوسائل الكفيلة بحماية وبتحقيق سلامة المواطنين والتدخل لإنقاذهم في حالات الكوارت الكوارث الطبيعية والمشابهة والتي يتطلب وضعها رهن إشارتهم بعين المكان قبل وقوع الحوادث خاصة في حالات التي تكون فيها نشرات إنذارية سابقة ، وعدم توفيرها لها شكل خطأ مرفقيا بمفهوم الفصل 79 من قانون الإلتزامات والعقود ويتجلى في سوء سير المرفق في أداء مهامه مما يبرر الحكم بالتعويض لجبر الضرر .
وبحيـث أن هـذه الأمطار الغزيرة كانت متوقعة ومنتظرة مما تكون مسؤولية الدولــة ثابتــة ولامجــال للقــوة القاهــرة لأن الأمــر يتعلــق بخطــأ مصلحــي موجــب للتعويـض ، ويمكن قيامه أيضا على أساس نظريـة المخاطـر التـي تلـزم المـدعي بصفتـه متضــرر بإثبـات خطـأ الدولـة أو الجماعـات ، وهنا مـن حـق أي متضـرر أن يطالـب بالتعويـض مـن طـرف الجهـة المسؤولـة عـن ذلـك ، ويتـم تقديـر هـذا التعويـض باللجـوء الـى الخبـرات وذلـك لتحديـد قيمـة الضـرر الحاصـل وفـق الفصـــل 63 وما يليـه مـن قانون المســطرة المدنيـــة .
لكـن ماذا إذا كان المرفق الذي تسبب في هـذه الأضرار مـفوض لشـركة ما بـواسطة عقـد التدبيـر المـــفــــوض .؟؟؟
فمعظم المدن المغربية الكبيرة بالمغرب نجد مرافقها مفوضة لشركات قصد التدبير وخاصة قطـاع المـاء والكهربـاء وتطهيـر السائـل والإنـارة العموميـة وذلك بواسطة عقد التدبير المفوض ، وبالرجوع للقانون 54.05 المتعلق بالتدبير المفـوض للمرافق العامـة ، والذي عرف عقد التدبير المفوض في المادة 2 على أنه “عقد يفوض بموجبه شخص معنوي خاضع للقانون العام يسمى (المفوض) لمدة محددة ،تدبير مرفق عام يتولى مسؤوليته إلى شخص معنوي خاضع للقانون العام أو الخاص يسمى” المفوض إليه ” يخول له حق تحصيل أجرة من المرتفقين أو تحقيق أرباح من التدبير المذكور أو هما معا ،
بمعنـى أن المفوض إليه عنـد عـدم قيامه ـ بالمهـام المخـولة له كإصـلاح وصيانـة وتنظيـف البالوعــات المتعلقـة بصـرف الميـاه والصـرف الصحـي وإعادة إصلاح البالوعـات الـتي تتعرض للإهمال بسبب النفايات والتربة والحصى وغيرهـا ممـا تسبـب ذلـك فـي إغلاقها لكـون ميـاه المطر تـراكم وغمـرت الأرض وارتفـع حجـم الميـاه مـما تسبـب فـي عدة أضرار وخسائر… يكون المفوض إليه قد إرتكب خطأ تسبب في ضرر للساكنة مما يكون هو المسـؤول عـن تعـويض المتضـررين ، لأن هـذا الأمـر مـن إختصاصه، وذلـك طبقـا للمـادة 24 مـن القانـون 54.05 والـذي نصـت علـى أنـه يدبـر المفـوض إليـه المرفـق المفـوض علـى مسؤوليته ومخاطره ويشمله بالعناية اللازمة ، وكذلك جاء في المادة 28 من نفس القانون على أنه يجب على المفوض إليه ، إبتـداء من دخول عقد التدبير المفوض حيز التنفيذ ، أن يغطي طيلة مدة العقد . مسؤوليته المدنية والمخاطر التي قد تترتب على أنشطته بواسطة عقود تأمين مكتتبة بصفة قانونية .
ومن خلال القانون 54.05 يتبين لنا أن المفوض إليه يقوم مقام الدولة وذلك في حدود إختصاصاتها ومسؤول عن الأضرار والخسائر التي تسببتها بعض المرافق المسؤول عنها بموجب هذا عقد ، وهنا يمكن للمتضرر في هذه المطالبة بالتعويض في مواجهة المفوض إليه مع إدخـال شـركة التأمين لكي تحل محلها في التعويض طبقا للمادة 28 من القانون 54.05 ، والدولة في هذا الشأن يبقى إخصاصها وفق هذا القانون مراقبة وتتبع التدبير المفوض طبقا للمادة 17 و 18 من القانون 54.05 .
أما الخسائر والأضرار والأخطاء الأخرى والتي لاتدخـل ضمـن إختصاصــات المفوض إليه تبقى الدولـة هـي المسؤولـة عنهمـا وفـق الفصـل 79 من قانـون الإلتزامـات والعقـود ، والمطالبة بذلك يكون أمام المحاكم الإدارية لكونها تنظـر في دعـاوي التعويـض عـن الأضـرار الـتي تسببهـا أعمـال ونشاطـات أشخـاص القانـون العـام طبقـا للمـادة 8 من القانـون 41.90 المحـدث بموجبـه للمحاكـم الإداريـة ، وذلـك بواسطـة مقـال مكتـوب يوقعـه محـام مسجـل فـي جـدول هيئـة مـن هيئـات المحاميـن بالمغـرب .
فهــذا مـا يتعـلـق بالأضـرار الـتي خلفتهـا الأمطار الغزيرة فـمـاذا عــن المنـازل التــي تعـرضـت للسقــوط وخاصــة المنــازل الــتي كانـت آيلـة للسقـوط ؟.