قراءة في ملامح المحاكمة العادلة
بين الاتفاقيات الدولية والدستور المغربي لسنة 2011
كتبها : الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني
هذه المقالة كتبت في شهر غشت 2011، مباشرة بعد إقرار دستور 2011
وإذا كان مفهوم العدالة الخاصة قد انقرض مع الدولة منذ بدايات تشكلها ، فإن انقراضه نتج عنه ظهور مفاهيم متعددة أهمها مفهوم المحاكمة التي أخذت أشكالا متنوعة خلال كافة مراحل تطور المجتمعات ، إلى أن استقر الفكر الإنساني على مفهوم المحاكمة العادلة ، و ذلك كردة فعل على المحاكمات التي كانت تقيمها المنظومات السياسية القديمة و ما كان يرافقها من قسوة و وحشية .من المعلوم أن لأي إنسان الحق في حماية حقوقه من التعسف أو الانتهاك ، في مقابل هذا الحق يلتزم الأفراد بعدم التعدي على حقوق الغير وفق ما يقرره القانون، و هو الأمر الذي يقتضي أن يحال كل من تعدى على أي حق من حقوق الغير إلى المحاكمة أمام المحاكم المنتصبة لذلك .
و يعتبر مفهوم المحاكمة العادلة مفهوما متفردا كرس في مجموعة من النصوص، سواء على مستوى الاتفاقيات والعهود الدولية أو على مستوى الدساتير و التشريعات الوطنية .
و قد عمل المغرب منذ فجر الاستقلال على تكريس هذا المفهوم من خلال تشريعاته الوطنية ، و توج أخيرا في صورة تقرير لمبدأ المحاكمة العادلة في الدستور المغربي لسنة 2011 الذي طرح للاستفتاء في فاتح يوليوز 2011 .
فما هي المبادئ و الأسس التي اعتمدت في تكريس ذلك المفهوم ؟ و ما هو السياق التاريخي الذي ساعد على تبني مبدأ المحاكمة العادلة دستوريا ؟ و كيف نظم المشرع الدستوري الملامح العامة للمحاكمة العادلة في الدستور المغربي لسنة 2011 .
للإجابة عن تلك الأسئلة يمكن تقسيم الموضوع إلى مبحثين :
المبحث الأول : أسس مبدأ المحاكمة العادلة في المواثيق الدولية
المطلب الأول : الأسس الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
المطلب الثاني : الأسس الواردة في العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية
المبحث الثاني : ملامح المحاكمة العادلة في الدستور المغربي لسنة 2011
المطلب الأول : البنية الدستورية لمفهوم المحاكمة العادلة
المطلب الثاني : القواعد المكرسة لمفهوم المحاكمة العادلة
المبحث الأول :
أسس مبدأ المحاكمة العادلة في المواثيق الدولية
منذ أن نال المغرب استقلاله عمل على أن يكون عضوا فاعلا في المنظمات الدولية ، و أعلن عن تسبثه بالمبادئ و الحقوق التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة و خاصة ما دون في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هذه الهيئة بتاريخ 10 دجنبر 1948 . و لم يكتف المغرب بذلك الحد ، بل أكد التزامه باحترام ه\ه الحقوق من خلال مصادقته على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية لسنة 1966 و كل هذه العهود و المواثيق الدولية ما فتئت تنادي بضرورة تبني مفهوم المحاكمة العادلة من قبل الدول الموقعة و المصادقة على تلك المعاهدات و الاتفاقيات.
و قد كان لزاما على كل دولة أن تلتزم بما صادقت عليه بمحض إرادتها و في نطاق سيادتها ، و هو ما دفع بالمغرب كعضو فاعل في تلك المنظمات إلى تبني مجموعة من الإجراءات التي حاول من خلالها أجرأة مبدأ المحاكمة العادلة في كثير من تشريعاته الوطنية ، سواء فيما يتعلق بالقوانين المنظمة للحقوق و المجرمة للأفعال، أو من خلال سن القوانين المتعلقة بالإجراءات التي يتعين اتباعها في كل محاكمة على حدة .
لكن المراقبين و المهتمين بميدان القضاء و العاملين فيه يلاحظون نوعا من الانحراف في تطبيق المبادئ المتعارف عليها دوليا في هذا الصدد ، وهو ما جعلهم ينادون بضرورة إدخال مجموعة من التعديلات في القوانين الوطنية من أجل تكريس حقيقي لمبدأ المحاكمة العادلة . ولذلك فإن الحديث عن إدخال تلك التعديلات لن يكون إلا إذا نظرنا إلى ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( المطالب الأول ) دون إغفال ما كرسه العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية ( المطلب الثاني ) على اعتبار أن هاتين الوثيقتين هما عماد الأسس التي تنهل منها الأنظمة القضائية الدولية من أجل التأسيس للمحاكمة العادلة .
المطلب الأول :
الأسس الواردة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان
إذا نظرنا إلى المبادئ العامة التي جاء بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، نجد أنها لم تتطرق بصورة مباشرة للمحاكمة العادلة كمصطلح ، لكن تطرقت له من حيث جوهره و المظاهر التي ينبغي أن يتجسد بها على أرض الواقع ، ذلك أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أشار إلى ضرورة حماية كرامة الفرد و هو ما تطرقت له المادة 5 من الإعلان المذكور، والتي نصت على أنه : ” لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة. ” و قد حاولت هذه المادة أن تكون جامعة ، من حيث تبيان مظاهر الحماية التي يتعين أن يلاقيها الفرد ، و ذلك بتحريم التعذيب بكل أشكاله ، سواء أكان بمعاملة وحشية أو قاسية ، كما أنها منعت توقيع أي نوع من العقوبات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة . و من مظاهر الكرامة الإنسانية أن يكون جميع الأفراد متساوين في الحقوق و الالتزامات ، و هو ما يصطلح عليه بالمساواة أمام القانون ، أي أنه لا يمكن لأي فرد من الأفراد أن يكون فوق القانون أو يتم التعامل معه على أساس أنه مواطن من الدرجة الثانية .
بل أكثر من هذا فالتساوي أمام القانون لا يتمتع به المواطنون فقط ، و لكن كل فرد موجود فوق إقليم دولة غير التي ينتمي إليها يتساوى في الحماية القانونية مع باقي الأفراد ، و من ذلك تقرر المبدأ المنصوص عليه في المادة 7 من الإعلان المذكور و التي نصت على أن : ” كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا.
” و لعل أهم مظاهر الحماية و المساواة أمام القانون هو حق كل فرد من الأفراد في اللجوء إلى مرفق القضاء من أجل الدفاع و العمل على حماية حقه الذي يراه مهددا ، إذ بدون تمكينه من هذا الحق ، لن تكون هناك سيادة للقانون و لا مساواة بين الأفراد في ذلك . لذلك فقد أكدت المنظومة القانونية الدولية على أن الفرد يتمتع بحق اللجوء إلى المحاكم و الهيئات القضائية التي يقر بوجودها القانون من أجل حماية الحقوق الشخصية المهددة و التي يمنحها القانون للأفراد ، وفي هذا السياق جاءت مقتضيات المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و التي نصت على أنه: ” لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون. “.
و الغرض من ذلك بلا ريب هو أن تنظر في قضاياه محكمة عادلة و في جلسة ومحاكمة علنية، إمعانا في عنصر الضمان الذي قد يتهدده أي انحياز أو تجاوز في استعمال السلطة وفق ما قررته المادة 10 التي جاء فيها أنه : ” لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه. ” و في ذلك تكريس لمبدأ المساواة أمام القانون و أمام العدالة و تأكيد على أن المنشود هو إشاعة العدل و حماية الحقوق و الالتزامات ، سواء ما تعلق منها بالحق العام أو الحق الخاص ، إذ أن القانون لا يجب أن يميز في الحماية بين هذين النوعين من الحقوق كما لا يجب أن يقيم أي تمييز بين الأفراد في الحماية المقررة لتلك الحماية .
و إذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد حاول حماية الحقوق بصفة عامة وفق ما ذكر أعلاه ، فقد عمل على إفراد مجموعة من الأحكام التي تهم المحاكمات الماسة بحريات الأفراد ، و هو ما قرره في مجموعة من المبادئ التي أتى بها عندما تطرق لمبادئ المحاكمات التي تقام بمناسبة البحث و التقصي في الجرائم ، و التي يكون الهدف منها هو حماية المصالح العليا للمجتمع و ذلك من أجل إقامة نوع من التوازن بين الحقوق العامة و المتمثلة في ضرورة قمع و زجر كل انحراف في السلوك عده القانون جريمة , و بين الحقوق الخاصة التي يتعين أن يتمتع بها كل فرد متهم بخرق تلك الحقوق العامة المحمية جنائيا .
فالمنتظم الدولي بقدر اعترافه بحقوق المجتمع و ضرورة حمايتها بنوع من الحماية الاستثنائية ، أقر بضرورة الالتزام بنوع من الشروط و القيود التي تؤسس لمحاكمة عادلة لكل فرد مشتبه فيه بارتكابه اعتداء على تلك الحقوق المحمية جنائيا .
و تلك القيود منها ما يرتبط بمرحلة البحث و التقصي في الجرائم المقترفة ، أو ما يرتبط بمرحلة المثول أمام المحكمة التي كلفت بالنظر في تلك الجرائم . و هكذا فقد نصت المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه : ” لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً. ” إذ بموجب هذه المادة يكون المنتظم الدولي أقر قاعدة ذهبية مفادها أن أي نوع من أنواع البحث و التقصي و التحري في الجرائم المقترفة يجب أن ينضبط لضوابط القانون ، و لذلك فلا يجب تحت أي ظرف أن يكون تعسفيا ، إذ أن مفهوم التعسف في هذا السياق جاء بمعنى التعدي على حكم القانون و ما يفرضه من أحكام من أجل بلوغ الغاية المرجوة ، و هو الأمر الذي ترك للقوانين الوطنية مهمة تنظيمه بما يتماشى و التزاماتها الدولية . و لعل ذلك التركيز على تلك الأنواع من القيود كانت رد فعل على ما شهده التاريخ الإنساني و خاصة في أوروبا من محاكمات وصفت بالوحشية و القسوة عندما كانت خاضعة للسيطرة الكنسية في العصور الوسطى و التي ورثتها من الحضارة اليونانية والإغريقية الرومانية القديمة و التي تعتبر جذورا للحضارة الغربية الحديثة .
فمفهوم المحاكمة مثله مثل باقي المفاهيم الاجتماعية يحمل في طياته دلالات فكرية وحضارية لا يمكن فصلها عن سياقها التاريخي و الإيديولوجي ، لكن التحول المفاهيمي للحضارات لابد أن يكون له أثر في الفكرة المتداولة ؛ إذ بعد أن كان الأصل في الإنسان هو عمارة الذمة و الإدانة الأصلية وفق ما يستشف من القوانين القديمة و التي سادت المجتمعات التي كانت خاضعة لحكم الامبراطورية الرومانية و الجرمانية و قبلهما الإغريقية ، أصبحت الفلسفة الغربية تقوم على فكرة أن الأصل في الإنسان هو البراءة في مجموع مظاهرها ، و قد كرس هذا المبدأ فلاسفة الأنوار الذين أسسوا للثورة الفرنسية التي قامت على شعار ” اشنقوا آخر إمبراطور بأمعاء آخر قسيس ” . ذلك الشعار الذي يجسد بشكل لا يقبل الجدل مدى المعاناة التي تحملها الإنسان الأوروبي الذي عاش الاضطهاد الديني و الطبقي الذي كان سائدا بأوروبا في حينه .
و لقد كان للحضارة العربية الإسلامية تأثير بالغ في تحول الفكر الأوروبي بخصوص مبدأ قرينة البراءة ومدى ارتباطها بالإنسان ، إذ أن البعثات التعليمية الأوروبية التي كانت ترسل للجامعات العربية الإسلامية وخاصة بالمغرب و تونس و مصر و العراق ( القرويين و القيروان و الأزهر و نيسابور و بغداد ) كان لها الأثر الأكبر في رسم معالم فكر الأنوار و بالتالي سيادة وشيوع مفاهيم صحيحة و مختلفة عن تلك التي كانت سائدة و مبنية على الحرية و البراءة ليستا هما الأصل ، فعد ذلك انتصارا للحضارة الغربية ما فتئ يتأكد مع مرور الزمان ليتوج مبدأ تم التنصيص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 10 التي نصت على أن : ” كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. لا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلك يعتبر جرماً وفقاً للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة “.
و لعل ما جاء في المادة المذكورة يناقض ما كان سائدا في الفكر الكنسي من أن الفرد بطبعه يلبس الخطيئة ( و لعل فكرة صكوك الغفران تجسد هذا النوع من الأفكار و المعتقدات ) وهو ما يناقض ما جاءت به الحضارة الإسلامية التي قامت على مبدأ ” و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ” ، أي أن الأصل هو أن الإنسان بريء الذمة في أمور الاعتقادات و ما يوجب العذاب و العقاب فكان ذلك في الأحكام العملية أولى.
و خلاصة القول في هذا الباب إن المجتمع الدولي من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حاول استثمار المشترك الإنساني في الانتفاضة ضد الظلم و الاضطهاد في كل مظاهره و خاصة في ميدان الحقوق و ما يترتب عنها من حماية و مرافق مخولة لتلك الحماية .
و إذا كان الأمر على النحو المفصل أعلاه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فإن النظر في ما اقتضته باقي العهود من شأنه أن يجعل الصورة متكاملة من حيث أسس اعتماد فكرة المحاكمة العادلة ؛ و خاصة ما جاء في العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية .
المطلب الثاني :
الأسس الواردة في العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية
من أهم العهود التي تطرقت لمبدأ المحاكمة العادلة ، نجد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية ، و الذي تطرق لهذا المبدأ و تجلياته في المواد 9 و 10 و 14 و 15 .
و بالرجوع لمضمون المواد المذكورة ، نجد أن المنتظم الدولي أعطى الأهمية لتبيان مظاهر المحاكمة العادلة ، و ذلك خلال كافة المراحل التي يمكن أن تمر منها أطوار تلك المحاكمة ، سواء أثناء فترة البحث و التحري عن الجرائم المرتكبة ، أو خلال فترة التحقيق الإعدادي ، أو حتى فترة المحاكمة ، والتي تعتبر أهم فترة تظهر فيها تجليات المحاكمة العادلة ، على اعتبار أنها المرحلة التي تبسط فيها جميع الإجراءات التي تم سلوكها من أجل مثول الشخص أمام المحكمة ، و بالتالي إتاحة الفرصة لهذا الأخير ليناقش مدى قانونية الإجراءات التي خضع لها ، أو التي تم القيام بها من أجل عرضه على المحكمة .
و من جملة القواعد المستشفة من خلال المقتضيات الواردة بالعهد المذكور نجد ؛
قاعدة اعتبار الصفة الإنسانية للشخص الموقوف : إذ أن العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية أقر هذه القاعدة كأساس للكيفية التي يتعين أن يعامل بها الشخص الموقوف من أجل البحث معه في جريمة ما ؛ و بالتالي فإن الأجهزة التي تتولى مهمة البحث و التحري يتعين عليها أن تتعامل مع الشخص المعني على أساس أنه بريء لا متهم . ومقتضى ذلك أن تتعامل الأجهزة بالحياد و التجرد ، و بالتالي تقدم الاعتبار الإنساني للشخص بدل الاعتبار الإجرامي فيه ، إلى حين تحقق أمرين : أولهما أن يثبت الفعل المقترف ، و ثانيهما أن يثبت أن الشخص الموقوف هو من اقترف الفعل المذكور .
و لعل من آثار اعتبار الصفة الإنسانية في الشخص الموقوف أن يقرر له الحق في الحرية كأصل ، و في الأمان على شخصه ، و ذلك وفق القانون و في إطاره. و في هذا الصدد نصت مقتضيات المادة 9 من العهد المذكور على أنه : ” لكل فرد الحق في الحرية وفى الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه ” . و هو ما أكدت عليه مقتضيات المادة 10 من نفس العهد ، و التي جاء فيها أنه : ” يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني.” فالاعتبار الإنساني تبعا لذلك هو دليل تمتع الشخص المبحوث معه بمحاكمة عادلة .
قاعدة انضباط الإجراءات المتخذة للقانون و المقتضيات التشريعية السارية النفاذ : و مؤدى هذه القاعدة أن تنضبط كل الإجراءات التي يتم القيام بها للضوابط القانونية التي يثبت أن التشريعات الوطنية عملت على إقرارها .
و في هذا الصدد نميز بين أمرين اثنين : أولهما الانضباط الإجرائي ، أي أن تكون الإجراءات المتخذة وفق ما يقره القانون ؛ فلا يمكن اعتقال شخص أو حرمانه من حريته إلا وفق ما أقره القانون و في نطاق الأسباب التي كرسها ( المادة 9 الفقرة الأولى ) ، كما لا يمكن الجمع بين الأشخاص المتهمين و المدانين إلا في حالات و ظروف استثنائية ، شريطة أن يعاملوا معاملة خاصة تقوم على اعتبارهم أبرياء غير مدانين ( الفقرة الأولى من المادة 10 )
و ثانيهما الانضباط لجهة الاختصاص ؛ و في هذا الصدد فإن كل شخص موقوف و متهم من أجل اقترافه لفعل ما ، يتعين أن يحال على الجهة المختصة قانونا، سواء في ذلك إن كانت تلك الجهة قضائية أو إدارية مكلفة بالشؤون القضائية بحسب الأنظمة القضائية المتبعة و المعتمدة من قبل مختلف الدول ، و هذا ما أكدت عليه المادة 9 في بندها الثالث الذي جاء فيه : ” يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعا، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية ” .
و ليس المقصود هو إحالة المتهم على القضاء فقط و إنما المراد هو أن يحال على الجهة القضائية المختصة لئلا تضيع حقوقه و تطول مدة اعتقاله من غير فائدة .
و في هذا الصدد نصت مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 14 على أنه : ” ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون ” ، و المحكمة المختصة هي تلك التي يحددها القانون الوطني ، وتلك التي يمكنها من صلاحية النظر في نوع معين من القضايا.
قاعدة السرعة في الإجراءات : و مؤدى هذه القاعدة أن تتخذ الإجراءات القانونية على وجه السرعة مع احترام المقتضيات القانونية و التشريعية الجاري بها العمل ، انسجاما مع آثار قاعدة البراءة هي الأصل ، إذ ما دمنا نعتبر الشخص بريئا فيجب تسريع الإجراءات حتى تحفظ حقوقه ، و خاصة إخلاء سبيله متى تأكد أن لا علاقة له بالفعل المقترف و الذي هو موضوع بحث . و السرعة بدورها تتجلى في أمرين ؛ أولهما السرعة في إشعار المتهم بالفعل المنسوب إليه ، و في ذلك تمكين له من إعداد أوجه و وسائل دفاعه في الوقت المناسب ، و هو ما أكد عليه البند الثاني من المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية و الذي جاء فيه أنه : ” يتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه كما يتوجب إبلاغه سريعا بأية تهمة توجه إليه. ” و يمكن أن يتم هذا الإعلام توخيا للسرعة بكل الطرق الممكنة و كذا باستعمال اللغة التي يفهمها المتهم حتى تتضح له الصورة و الموقف الذي هو عليهما و ذلك بأن يتم إعلامه سريعا وبالتفصيل، و بلغة يفهمها، بطبيعة التهمة الموجهة إليه وأسبابها ( البند الأول من الفقرة الثالثة من المادة 14 ) ؛ و ثانيهما السرعة في الإجراءات ذاتها ، و ذلك من أجل تقليص المدة التي تتخذ فيها إجراءات البحث و المحاكمة قدر الإمكان.
و على ذلك ؛ فإن كل الأجهزة المتدخلة في عملية البحث و التحري و المحاكمة ، سواء أكانت قضائية أو تنتمي للأجهزة المساعدة للعدالة ، تكون ملزمة بتحقيق هذا الشرط و إلا أصبحت مسؤولة عن الخطأ الذي يمكن أن يترتب إبطاء إجراءات المحاكمة . و هكذا ، فإن السرعة في الإحالة : ” يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعا، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية ” ( الفقرة الثالثة من المادة 9 ) ، و السرعة في اتخاذ الإجراءات اللازمة ؛ ” ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه ” ( نفس الفقرة ) ، كما له : ” أن يحاكم دون تأخير لا مبرر له “( البند الثالث من الفقرة الثالثة من المادة 14 ) . و على كل ، فإن قاعدة السرعة في الإجراءات من شأنها التعامل مع المتهم على أساس الصفة الإنسانية فيه ، و ليس على أساس صفة الاتهام و انتظار وقت العقاب .
قاعدة المساواة أمام القانون : و معنى هذه القاعدة أن الأفراد سواسية أمام القانون و بالتالي أمام القضاء ، و لا يمكن أن يقوم أي نوع من أنواع التمييز ، سواء أكان عرقيا أو دينيا أو لغويا أو غير ذلك ؛ فالقاعدة التي تكرسها الفقرة الأولى من المادة 14 و التي تنص على أن : ” الناس جميعا سواء أمام القضاء ” ، تقضي بأن كل أشكال التمييز بين الأفراد يتعين أن تختفي في كل دولة ديمقراطية لها جهاز قضاء قوي و فعال ، و بالتالي لا يتصور وجود محاكم تختص بمحاكمة الأفراد على أساس معايير شخصية ( كالمهنة مثلا أو الصفة ) ،إذ من مظاهر المحاكمة العادلة أن يكون الناس سواسية أمام القضاء ، و بالتالي يتعين أن تضمن لهم نفس الضمانات ؛ و على رأسها ما أقرته المادة 14 من ضمانات جعلتها مشمولة بقاعدة المساواة بين جميع الأفراد . و بالتالي فإن مؤدى هذه القاعدة هو ضرورة انتفاء الامتياز الذي يتمتع به بعض الأفراد لاعتبارات خاصة .
قاعدة الحق في الفعل الإيجابي أثناء المحاكمة : و هذه القاعدة تعني أن للمتهم مجموعة من الأدوار التي يمكنه أن يقوم بها أثناء محاكمته ؛ فله أن يدافع عن نفسه أو يوكل من يدافع عنه ، كما له أن يناقش الأدلة الموجهة ضده من أجل دحضها و خاصة شهادة الشهود . و له أيضا أن يمارس حقه في الطعن ضد أي إجراء يراه ماسا بحقوقه و بمركزه القانوني ، سواء أكان ذلك الحق أو المركز أثناء المحاكمة كالاستمرار في الاعتقال من دون مبرر، أو بعد صدور الحكم ما لم تستنفذ طرق الطعن المنصوص عليها في الأنظمة القضائية المختلفة ، كما أن له الحق في الدفاع عن نفسه من أجل عدم محاكمته على نفس الفعل مرتين متى أثبت أنه سبق وأن حوكم من أجل نفس الفعل المتابع من أجله .
قاعدة الحق في الحماية القانونية للحق في المحاكمة العادلة : و يعني هذا الحق أن المتهم يتمتع بحق المطالبة بالتعويض عن أي نوع من أنواع الأخطاء القضائية غير المبررة ، وفي هذا الصدد فقد نص العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية على هذا الحق في مواطن مختلفة منها : الحق في التعويض عن الاعتقال بدون مبرر ، و هو ما نصت عليه مقتضيات الفقرة الخامسة من المادة 9 التي جاء فيها : ” لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض ” ، و نفس الشيء ينطبق على الحق في التعويض عن الخطأ القضائي الناتج عن الحكم من دون التأكد من الأدلة المعتمدة في الإدانة أو الوقائع المعروضة على أنظار المحكمة ، ما لم يكن للمتهم شخصيا يد في حدوث ذلك الخطأ ؛ و هو ما أكدت عليه المادة 14 في فقرتها السادسة عندما نصت على أنه : ” حين يكون قد صدر على شخص ما حكم نهائي يدينه بجريمة، ثم أبطل هذا الحكم أو صدر عفو خاص عنه على أساس واقعة جديدة أو واقعة حديثة الاكتشاف تحمل الدليل القاطع على وقوع خطأ قضائي، يتوجب تعويض الشخص الذي أنزل به العقاب نتيجة تلك الإدانة، وفقا للقانون، ما لم يثبت أنه يتحمل، كليا أو جزئيا، المسؤولية عن عدم إفشاء الواقعة المجهولة في الوقت المناسب ” .
قاعدة الحق في احترام القاعدة القانونية : وهذا الحق معناه أن الشخص لا يمكن أن يحاكم أو يعاقب إلا وفق ما اقتضته التشريعات السارية النفاذ ، سواء أكانت تلك التشريعات موضوعية تحدد أنواع الأفعال المعتبرة جرائم و العقوبات المقررة لها ، أو شكلية إجرائية حددها القانون و كان من شأنها اعتبار القواعد المذكورة آنفا ، و هذا ما نصت عليه أساسا مقتضيات المادة 15 من نفس العهد ، و خاصة ما ارتبط بالقاعدة الموضوعية .
تلك إذن بعض ملامح المحاكمة العادلة في المواثيق و العهود الدولية ، فكيف تعامل دستور 2011 مع هذه المؤسسة ؟ ذلك ما سوف نتناوله في المبحث الموالي .
المبحث الثاني :
ملامح المحاكمة العادلة من خلال الدستور المغربي لسنة 2011
يقتضي منا الحديث عن ملامح المحاكمة العادلة في ظل دستور 2011 أن ننظر ما هي أسس البنية الدستورية لمفهوم المحاكمة العادلة ( المطلب الأول ) ، و ما هي القواعد التي وضعها المشرع الدستوري لتكريس ذلك المفهوم ( المطلب الثاني )
المطلب الأول :
البنية الدستورية لمفهوم المحاكمة العادلة
يقصد بالبنية الدستورية لمفهوم المحاكمة العادلة ، ذلك التصور الذي حكم دسترة القواعد المؤسسة للمحاكمة العادلة على مستوى الوثيقة الدستورية ، و انطلاقا من ذلك فإننا نقصد بتلك البنية الدستورية مجموع المبادئ و المحددات التي حكمت واضعي الدستور على مستوى التعامل مع فكرة المحاكمة العادلة .
و بناء على ما تقدم ؛ فإن الناظر في الوثيقة الدستورية سيجد أن المبادئ و المحددات التي ساهمت في تشكيل مفهوم المحاكمة العادلة في دستور 2011 تنقسم إلى محددات شاملة في مقابل أخرى تفصيلية ( الفقرة الأولى ) هذا من جهة، و من جهة أخرى نجد أن واضعي الدستور حاولوا جعل الحقوق المتعلقة بالمحاكمة العادلة تدور بين الدسترة المطلقة والتقييد القانوني ( الفقرة الثانية ) .
الفقرة الأولى :
المحددات الدستورية للمحاكمة العادلة بين الشمولية و التفصيل
لا يجادل أحد في أن الدستور الجديد لسنة 2011 عمل على الرفع من شأن الاتفاقيات الدولية و جعلها إلى حد كبير جزءا من القانون الداخلي الواجب التطبيق ، غير أن الرفع من مستوى و درجة تلك الاتفاقيات ، لم يغل يد المشرع الدستوري عن الحديث عن بعض الأحكام المرتبطة بمفهوم المحاكمة العادلة بعينها .
و هكذا ، فإذا كانت الاتفاقيات الدولية قد ارتقت إلى درجة من السمو أصبح معه نفاذها جزءا من البنية التشريعية الوطنية، فإن ذلك السمو يطرح إشكالين ، أولهما أنه كان في حد ذاته كاف و مغن عن التفصيل في بعض الأحكام المرتبطة بمفهوم المحاكمة العادلة ، و ثانيهما أن سمو الاتفاقيات الدولية سمو وقتي و ليس مطلق .
فمن حيث كفاية المبادئ الواردة في الاتفاقيات الدولية في شأن المحاكمة العادلة، نجد أن المشرع لم يكن في حاجة إلى تكرار بعض الأحكام و المقتضيات التي تضمنتها بعض الاتفاقيات و العهود الدولية التي صادق عليها المغرب ؛ و بالتالي فإن أي تفصيل في تلك الأحكام هو من باب التكرار الذي ينأى المشرع بنفسه عنه في الأصل.
ففي تصدير الدستور ، نجد أن الفقرة ما قبل الأخيرة منه تنص على ” جعل الاتفاقيات الدولية ، كما صادق عليها المغرب ، و في نطاق أحكام الدستور ، و قوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة ، تسمو ، فور نشرها ، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات ، مع ما تتطلبه تلك المصادقة ” .
فبالقراءة المتأنية لهذه المقتضيات يمكن استجلاء مجموعة من الأحكام التي تؤطر لنا كيفية التعامل مع الاتفاقيات الدولية، سواء فيما يتعلق بالمبادئ و المحددات المؤطرة لمفهوم المحاكمة العادلة ، أو غيرها .
و هكذا ؛ فإن أول ما يمكن أن يثير الانتباه في هذا المقتضى الدستوري هو تقييد سمو الاتفاقيات الدولية بوجود ثلاثة شروط هي :
شرط النشر؛
و في ذلك حد من إمكانية الالتجاء التلقائي للاتفاقيات الدولية بمجرد المصادقة عليها ، و قد أورد المشرع الدستوري هذا الشرط انسجاما مع مسطرة التشريع التي تبناها ، و ما يمكن أن تفضي إليه من رقابة دستورية قبلية لمضمون الاتفاقيات الدولية. و هكذا ؛ فإن العلاقة بين أحكام الاتفاقيات الدولية و مفهوم المحاكمة العادلة لن تتضح إلا من خلال المقتضيات التي تؤسس للإجراءات الواجبة الاحترام من قبل الهيئات و الجهات القضائية الموكول إليها أمر إنفاذ القانون داخل التراب الوطني و التي تتضمنها تلك الاتفاقيات ؛ إلا أن القضاء يكون ملزما باحترام المسطرة الدستورية التي وضعها الدستور نفسه قبل الأخذ بأحكام تلك الاتفاقيات.
و إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن الطبيعة القانونية للأحكام الواردة في الاتفاقيات الدولية والتي لها علاقة بمفهوم المحاكمة العادلة ، و هي أحكام تشريعية ، أي أحكام تدخل من حيث الأصل فيها في دائرة القانون الواجب التطبيق ، فإن كل مقتضى وارد في الاتفاقيات الدولية ، و الذي قد يؤثر على البنية الدستورية لهذا المفهوم يجب أن يخضع لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 55 من الدستور ، على اعتبار أن تلك المعاهدات أو الاتفاقيات يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية من جهة ، و من جهة أخرى فهي تهم حقوق و حريات المواطنين و المواطنات ، و بالتالي فإن المصادقة على تلك الاتفاقيات لا يمكن أن تتم إلا بعد الموافقة عليها بقانون ، و هو ما يجعل عملية المصادقة رهينة بالمسطرة و الإجراءات المتبعة في إصدار القانون نفسه ؛ و التي من أهمها عملية النشر في الجريدة الرسمية كما هو وارد في الفقرة الثانية من الفصل 50 من الدستور .
و عليه فإن القضاء لا يكون ملزما بالأخذ بالأحكام الواردة في الاتفاقيات الدولية إلا في حدود ما تم نشره في الجريدة الرسمية بعد استكمال شروط النشر .
و من الملاحظ أن المشرع الدستوري ، جعل سمو الاتفاقيات الدولية ينتج أثره بمجرد النشر ، و هو ما عبر عنه بالفورية ، أي أن القضاء يجب أن يعمل على تطبيق الأحكام الواردة في تلك الاتفاقيات متى تم نشرها و استوفت كافة الشروط الملزمة لتطبيقها . و هنا لا بد من التذكير بأهمية مراعاة مسألة التراتبية في الأخذ بالقواعد القانونية ، فهل يمكن القول بأن القاعدة الواردة في الاتفاقية الدولية أسمى من القاعدة التشريعية ؛ أم أنه لابد من تدخل المشرع العادي لإضفاء القوة القانونية لأحكام الاتفاقية الدولية ؟ إن الجواب على هذا التساؤل هو ما يحيلنا على ضرورة الإشارة إلى الشرط الثاني .
شرط ملائمة التشريع الوطني مع ما تتطلبه المصادقة ؛
هذا الشرط يستشف من عبارة ” تسمو ، فور نشرها ، على التشريعات الوطنية ، و العمل على ملائمة هذه التشريعات ، مع ما تتطلبه تلك المصادقة ” هنا يمكن استكمال الصورة التي تصبح بها الاتفاقيات الدولية نافذة . ذلك أن المشرع هنا وضع لنا أمرين متلازمين ، أولهما الأثر الفوري للاتفاقية الدولية من حيث السمو على القانون الوطني ، وثانيهما ضرورة التدخل التشريعي من أجل ملاءمة التشريعات الوطنية مع المقتضيات الواردة في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها .
و لذلك فإن المصادقة على الاتفاقية الدولية ، لا تكفي لوحدها من أجل نفاذها و جعلها ملزمة للأفراد و القضاء ، وإنما زيادة على نشرها كما سبق ، يتعين ملاءمة التشريعات الوطنية مع المقتضيات الواردة في الاتفاقية .
و من خلال اتحاد الشرطين المذكورين ، يتضح أن المشرع قرن سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية بالنشر و الملاءمة ، حتى إذا ما اختل أحد الشرطين تبقى المقتضيات التشريعية الواردة في القانون الداخلي نافذة على غيرها إلى حين التدخل التشريعي من أجل الملاءمة. و هنا يطرح السؤال لماذا جعل المشرع الدستوري السمو مقرونا بالشرطين المذكورين ؟
إن المستقرئ لأحكام الفقرة ما قبل الأخيرة من تصدير الدستور ، لا يجد عناء كبيرا في التعرف على بعض المحددات التي وضعها المشرع من أجل المصادقة على تلك الاتفاقيات ، و هو ما يشكل جوهر الشرط الثالث لسمو الاتفاقية الدولية على القانون الداخلى ، و بالتالي تطبيق المقتضيات و الأحكام الواردة بها و التي لها علاقة بالمحاكمة العادلة .
شرط احترام أحكام الدستور و قوانين المملكة و الهوية الراسخة ؛
هذا الشرط يستمد قوته من سيادة الدولة المغربية ، ذلك أن هذه الأخيرة باعتبارها سيدة نفسها ، في إطار قواعد القانون الدولي العام ، لها بكامل إرادتها أن تصادق أو لا تصادق على المعاهدات أو الاتفاقيات ، كما لها أن تنسحب منها بمحض إرادتها ، و بالتالي فإن أية مصادقة على أي اتفاقية أو معاهدة لا يمكن أن يمس سيادة الدولة المغربية ، و يجرد مؤسساتها الدستورية من شرعية الفعل التشريعي . و لذلك فإن أية مصادقة يجب أن تخضع لشكليات و إجراءات تلك المصادقة ، وفق ما قرره الدستور نفسه و في نطاق ما يجري به العمل في قوانين المملكة ، كما يتعين أن تأخذ المصادقة بعين الاعتبار الثوابت المكونة للهوية الوطنية الراسخة ؛ تلك الهوية التي أسس لها المشرع الدستوري في الفقرة الثانية من التصدير ، و حماها بمقتضيات الفصل 175 من الدستور عندما استثنى أحكامها من أية مراجعة . و بالتالي يتضح أن هناك قيودا قد تعترض مسألة المصادقة على الاتفاقيات الدولية ، و هذا ما يبرر إمكانية اللجوء لمسطرة التحفظ عند المصادقة ، و هو أمر لابد من أن يؤخذ بعين الاعتبار عند الأخذ بفكرة السمو بعد تحقق شروطها .
هذا من جهة إمكانية الأخذ ببعض الأحكام المؤسسة لمفهوم المحاكمة العادلة كما وردت في الاتفاقيات الدولية وفق المسطرة العادية . لكن لجوء المشرع إلى التفصيل في بعض الأحكام المكونة للبنية الدستورية لمفهوم المحاكمة العادلة قد يفهم منه أنه تدارك منه لما يمكن أن تتعرض له بعض المقتضيات الواردة في الاتفاقيات الدولية ،كما هو الأمر بالنسبة لإمكانية الطعن في دستورية بعض المقتضيات القانونية التي تمس بالحقوق و الحريات و التي صودق عليها و تمت ملاءمة التشريعات الوطنية مع مقتضياتها وفق ما ذكر أعلاه .
و بالتالي فإن مسألة شمولية أحكام الاتفاقيات و المعاهدات الدولية ، و مدى إمكانية جعلها لوحدها مؤطرة لمفهوم المحاكمة العادلة ، يمكن أن تنطوي على مخاطر كثيرة ، لذلك حسنا فعل المشرع الدستوري لما لجأ إلى فكرة التفصيل في بعض المبادئ المؤسسة للمحاكمة العادلة .
و هكذا فإن التنصيص ، مثلا ، على عدم جواز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص ، و من قبل أية جهة كيفما كانت ، و منع ممارسة التعذيب بكافة أشكاله ( الفصل 22 ) ، أو الإشارة إلى أن مسألة الاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي أو السري من أخطر الجرائم التي يعاقب عليها بأقصى العقوبات ( الفصل 23 ) ، يعتبر من باب التفصيل الذي يتعين أن يرفع تلك الحقوق إلى مرتبة القاعدة الدستورية للتأكيد على أهميتها و لجعلها معيارا بحد ذاتها تقاس به القوانين و التشريعات الوطنية التي تؤطر مفهوم المحاكمة العادلة ، و بالتالي تتيح للأفراد إمكانية الرقابة البعدية على تلك الأحكام و القوانين عن طريق الرقابة الدستورية ، حتى تضمن السلامة الجسدية و المعنوية ، و خاصة بمناسبة سلوك المساطر و الإجراءات القضائية.
و خلاصة القول في هذا الباب أن المبادئ و المحددات المؤطرة لفكرة المحاكمة العادلة منها ما هو مستمد من الاتفاقيات و المعاهدات الدولية مباشرة ، و منها ما هو منصوص عليه في الدستور و مفصل فيه كما هو الأمر مثلا بالنسبة لمبدأ قرينة البراءة ، و الذي تم التنصيص عليه مرتين بالفصلين 23 و 119 و مبدأ الحق في المحاكمة العادلة المنصوص عليه في الفصلين 23 و 120 ، و مبدأ الحق في ولوج مرفق القضاء ( الفصل 118 ) … إلخ من الحقوق التي فصل فيها المشرع الدستوري ، عوض الاكتفاء بما ورد في الاتفاقيات الدولية بشأنها .
لكن الدستور لم يكتف بما ذكر مما يرتبط بمفهوم المحاكمة العادلة ، و إنما لجأ إلى جعل الحقوق المؤسسة للبنية الدستورية لمفهوم المحاكمة العادلة تدور بين الدسترة و التقييد القانوني .
الفقرة الثانية :
المحددات الدستورية للمحاكمة العادلة بين الدسترة و التقييد القانوني
إن جعل المحددات القانونية الكبرى لمبدأ المحاكمة العادلة على المستوى الدستوري تدور بين الدسترة و التقييد القانوني ؛ يعني أن المشرع الدستوري عمد إلى تقنيتين في إيراد المؤسسات الكبرى التي تؤسس للمبدأ المذكور .
أولى تلك التقنيتين تتمثل في كون المشرع الدستوري أورد حقوقا و مبادئ عامة تؤطر بينة المحاكمة العادلة ، و تشمل تلك الحقوق و المبادئ كل ما له ارتباط بما يتمتع به الأطراف عند التجائهم لمرفق القضاء ، وأغلب تلك الحقوق و المبادئ تم التنصيص عليها في الفرع المتعلق ب ” حقوق المتقاضين و قواعد سير العدالة ” من الدستور ، و هي حقوق يمكن القول بأن الهدف منها هو تيسير الولوج لمرفق القضاء بما يضمن المساواة بين الأفراد تجسيدا لما جاءت به الفقرة الأولى من الفصل السادس من الدستور، و التي تنص على أن : ” القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ، و الجميع ، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين ، بما فيهم السلطات العمومية ، متساوون أمامه ، و ملزمون بالامتثال له “. و معلوم أن المساواة أمام القانون تعني في شق منها المساواة أمام القضاء ، و بالتالي ضرورة تمتيع الأفراد بحقوقهم كاملة عند مثولهم أمامه ، و هو ما دفع بالمشرع الدستوري إلى ترك بعض المبادئ مطلقة من غير تقييد ، ضمانا لجعل التشريعات الأدنى قوة من الدستور قابلة لاستيعاب كل القواعد القانونية التي تساهم في تكريس و ترسيخ مبدأ المحاكمة العادلة ، إذ لو كان التدقيق حاضرا في الصياغة الدستورية لتعذر الأمر فيما يتعلق بذلك التكريس ، لأن كل من يعنيه الأمر يملك بموجب الدستور نفسه إمكانية إلغاء كل مقتضى تشريعي يخالف ما حدده المشرع بدقة عن طريق الطعن في دستورية القوانين، و بالتالي فإن التأسيس الكامل لفكرة المحاكمة العادلة على مستوى الدستور تصبح في مهب الريح . لكن جعل بعض القواعد و الحقوق عامة لا يعني أن الدولة يمكن أن تتساهل في مجموعة من الأمور ن و خاصة ما ارتبط منها بالأمن العام، الشيء الذي يفرض على المشرع الدستوري أن يضع قواعد دستورية تضمن الحقوق و الحريات ، لكن يلجأ لتقييدها بمقتضى قانوني أقل من القاعدة الدستورية من حيث القوة ، و هو ما يشكل جوهر التقنية الثانية .
إن التقنية الثانية التي سلكها المشرع الدستوري في تأسيس فكرة المحاكمة العادلة ، هي تقنية التقييد ، أي أنه لم يورد حقوقا مطلقة و عامة ، و لكن عمل على تقييدها بمقتضى قانوني معين . و لعل تلك الطريقة التي اتبعها المشرع الدستوري تنطوي على أمرين ؛ أولهما أنه يقعد لكون القانون هو الذي يكون حاكما في أي مقتضى تشريعي مما قيد دستوريا بنص القانون ، بمعنى أن الدستور جعل ” قاعدة التقييد القانوني ” تقنية في حد ذاتها لا تسمح للأطراف بالطعن في مدى دستورية بعض القواعد القانونية حتى و لو انتهكت حرياتهم أو خصوصياتهم التي تعتبر حقوقا خالصة لهم ، و أما الأمر الثاني فهو أن يشرع الدستور نفسه لإمكانية الحد من بعض الحقوق من غير أي حرج ، لكن في إطار ما يساهم في حماية و ضمان الأمن و السلم الاجتماعيين .
و من بين الأمثلة التي عمل فيها المشرع على تقييد بعض الحقوق الدستورية المؤسسة للمحاكمة العادلة بالفصول 22 و 23 و 24 و غيرها من الفصول التي قيد فيها المشرع التمتع ببعض الحقوق ، و هكذا فإذا كانت حرية الأفراد مقدسة ، فإن ذلك التقديس يجد حدا متى تعلق الأمر بأشخاص اقترفوا جرائم توجب الحد من حرياتهم ، و في هذا الصدد قرن المشرع الدستوري جواز إلقاء القبض على الأفراد و اعتقالهم و متابعتهم و إدانتهم وفق الإجراءات التي يتص عليها القانون ( الفصل 23 الفقرة 1 ) . كما أن حرمة الاتصالات الشخصية مضمونة دستوريا لارتباطها بخصوصيات الأفراد إلا أن انتهاك تلك الحرمة قرنت بوجود قواعد قانونية تجيز ذلك ( الفقرة الثالثة من الفصل 24 )، و هو نفس الأمر المتعلق بحرمة المسكن ( الفقرة الثانية من ذات الفصل ) .
و لذلك فالمشرع الدستوري عمد إلى جعل الحقوق و المبادئ المؤسسة للمحاكمة العادلة تدور بين الإطلاق و التقييد وفق ما تقتضيه محاولة الموازنة بين المصالح الخاصة للأفراد و الحماية اللازمة للمجتمع و أمنه .
و إذا كانت رغبة المشرع الدستوري أكيدة في تكريس فكرة المحاكمة العادلة، فإن ضمان تحققها على مستوى الواقع يستدعي وجود قواعد واضحة تعزز ذلك المبدأ .
المطلب الثاني :
القواعد المكرسة لمفهوم المحاكمة العادلة
إن القواعد المكرسة و الحامية لفكرة المحاكمة العادلة كما نص عليها الدستور يمكن تقسيمها إلى فئتين ، الأولى تخص السلطة القضائية ذاتها ( الفقرة الأولى ) حتى يتسنى لها أداء دورها على أحسن وجه ، و أما الثانية فقد أوكلت للمتقاضين ( الفقرة الثانية ) من أجل المساهمة في ضمان احترام مبدأ المحاكمة العادلة .
الفقرة الأولى :
السلطة القضائية ضامنة للمحاكمة العادلة
إن من بين ما استجد في دستور المملكة المغربية لسنة 2011 ، رفعه القضاء إلى مرتبة سلطة ، حيث تمت مساواته من هذا الجانب مع السلطتين التشريعية و التنفيذية ( الفصل 107 ) ، و هو الشيء الذي أعطى للقضاء أهمية قصوى جعلت منه ضامنا و حاميا لحقوق الأشخاص و الجماعات و حرياتهم و أمنهم القضائي ( الفصل 117 ) . لكن هذه المهمة الملقاة على عاتق السلطة القضائية لن تتحقق إلا بوجود أدوات و آليات تساعد القضاء على القيام بمهامه تلك .
و لعل أهم الآليات التي مكن منها الدستور الجديد القضاء كسلطة ؛ تتمثل في الحماية من التأثير على القرار القضائي ، و الالتزام بتطبيق القانون .
من حيث الحماية من التأثير على القرار القضائي :
عمل المشرع الدستوري على وضع مبادئ حماية السلطة القضائية من أي تدخل في شؤونها ، و بالتالي في نوع و طبيعة و مدى القرارات التي قد تأخذها بمناسبة النظر في القضايا و المنازعات المعروضة عليها .
و هكذا نجد أن الفصل 109 من الدستور ينص على أنه : ” يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء ، و لا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ، و لا يخضع لأي ضغط “. إن القراءة السليمة لهذا النص تفيد أن المشرع الدستوري عمل على وضع القواعد الأساسية لحماية المهمة التي أنيطت بالقضاء ، إذ أنه اعتبر كل تدخل أو ما قد يعتبر تدخلا في الشأن القضائي ممنوعا ، و معنى المنع أن يخضع صاحبه للجزاء المقرر قانونا ، و هو ما قد يكرس قواعد تشريعية في شكل تجريم لمثل تلك السلوكات التي قد تنتهك هيبة و حرمة القضاء و السلطة القضائية . و معلوم أن أية محاكمة عادلة لن تكون كذلك إلا إذا أنصفت الأطراف و أرجعت الحقوق و ضمنت المساواة أمام القانون ، و هو الأمر الذي لن يتحقق إلا بانتفاء كل أشكال التأثير على الجهة التي ستصدر القرار في النزاعات المعروضة عليها ، و بالتالي فمتى ثبت أن جهة ما أو شخصا بعينه قام بأعمال من شأنها التأثير على القرار القضائي فإنه يكون عرضة للمساءلة القانونية عن طريق العقاب الذي يقره القانون ، و هو ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من الفصل 109 و التي جاء فيها : ” يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة” .
إن الأمر الذي يسترعي الانتباه في هذا المقتضى هو أن المشرع الدستوري ميز بين التأثير المشروع و التأثير غير المشروع . و الفرق بينهما هو أن التأثير المشروع يتجسد في كل إجراء أوجبه القانون و كان من شأنه أن يجعل القرار القضائي رهينا برأي أو تدخل بعض الجهات غير القضائية ، إذ في مثل هذه الحالة يعتبر عدم احترام القاضي لهذه الإجراءات في حد ذاته خرقا للقانون يعرض قراراته للجزاء المقرر قانونا ، و أما ما دون ذلك فيعتبر من قبيل التأثير غير المشروع و هو المعني بالمقتضى المذكور.
و ما دفع المشرع الدستوري للإشارة إلى التأثير غير المشروع هو أن استغلال أي جهة أو شخص لمركزه أو نفوذه يشكل نوعا من الضغط و الإكراه ، يجعل القاضي في حيرة من أمره ، أيلتزم الحياد و يحقق شروط المحاكمة العادلة أم يميل في قراره لمصلحة طرف دون آخر ؟ و لا يخفى على أحد ما في ذلك من مجانبة لأبسط شروط المحاكمة العادلة .
و لذلك فإن أهم آلية مكن منها القضاء هي آلية الحماية من الضغط و التأثير في القرار القضائي . لكن هذه الآلية لن تكتمل إلا بتنفيذ القاضي ما عليه من التزامات في هذا الصدد . و من بين هذه الالتزامات ضرورة التبليغ بكل ما من شأنه تهديد استقلالية القرار القضائي ، ذلك أن الدستور ألقى على عاتق القاضي ذاته واجب تبليغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية كل أمر يعتبر بمثابة تهديد لاستقلاله ، أو من شأنه أن يزيغ به عن التزام الحياد . و في هذا الصدد ، فقد مكن الدستور القاضي من سلطة تقديرية بموجبها يعود للقاضي نفسه أمر تقدير مدى حجم التهديد الذي قد يتعرض له قراره القضائي ، و بالتالي فهو الذي أوكل له أمر تصنيف كل تدخل هل هو من قبيل المشروع أو غير المشروع .
و هكذا فقد ألزم القاضي كما سبقت الإشارة لذلك بتبليغ كل أمر من شأنه تهديد الاستقلال الواجب للقرار القضائي إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، و في حالة تخلف القاضي عن التقيد بهذا الالتزام ، فإن ذلك يعتبر خطأ جسيما يوجب التعرض للعقوبات التأديبية المناسبة ؛ هذا فضلا عن المتابعات القانونية و القضائية المحتملة و التي قد يتعرض لها القاضي الذي أخل بالتزام التبليغ .
ومما ذكر يتضح أن مسألة حماية القرار القضائي أولاها الدستور أهمية ظاهرة ، و جعلها ركنا ركينا و قاعدة مهمة من قواعد تكريس مبدأ المحاكمة العادلة التي لن تتحقق من غير تحقق استقلال حقيقي للسلطة القضائية ، و بالتالي للقرار القضائي . وهكذا يتضح لنا أن الدستور حاول جعل السلطة القضائية ذاتها ملزمة بضمان استقلاليتها ، إلا أن تلك الاستقلالية لا تعني بأي وجه من الوجوه ألا يتقيد القاضي بضوابط القانون ، و أن يكون هو نفسه الخارق للقانون ؛ لذلك فإن المشرع الدستوري طوق القاضي التزاما دستوريا له أهميته القصوى ، و يتمثل في الالتزام بتطبيق القانون .
من حيث الالتزام بتطبيق القانون ؛
يعتبر الالتزام بتطبيق القانون واجبا على القضاة ، بموجب الدستور الجديد ، سواء تعلق الأمر بقضاة الحكم أو بقضاة النيابة العامة ؛ إذ عمل المشرع الدستوري على التنصيص على هذا الالتزام في الفصل 110 من الدستور ، و الذي ينص على أنه : ” لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون . و لا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون . يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون . كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها . ”
وكما هو معلوم ، فإن الجديد الذي أتي به دستور 2011 ، هو أن ألقى على عاتق قضاة النيابة العامة مهمة تطبيق القانون؛ ذلك أن الدساتير السابقة كانت تكتفي بإلزام قضاة الحكم بهذا الواجب فقط . و في هذا الصدد يجدر التنبيه إلى أن هذا المنحى الذي نحاه المشرع الدستوري استجاب للتوصيات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة بشأن المبادئ المتعلقة باستقلال القضاء ؛ تلك التوصيات التي ما فتئت تؤكد على ضرورة تمكين القضاة ( قضاة الحكم و قضاة النيابة العامة ) من وسائل الاشتغال ، و على رأسها الإمكانيات التي تساعدهم على إنفاذ القانون .
و على هذا الأساس ، نلاحظ أن المشرع المغربي لم يكتف فقط بتذكير القضاء الجالس بأن على عاتقه واجب تطبيق القانون ، بل ألزم قضاة النيابة العامة كذلك بنفسه الواجب . إلا أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق هو؛ إلى أي حد يمكن تمثل التزام القاضي بصفة عامة بمسألة تطبيق القانون ؟
بالنظر إلى المقتضيات الدستورية المذكورة ، نجد أن مسألة تطبيق القانون كواجب ملقى على عاتق القضاة لم تبق أمرا مطلقا ؛ و لكن قرن المشرع الدستوري ذلك الواجب بأمرين ؛ أولهما التطبيق العادل للقانون متى تعلق الأمر بقضاة الأحكام، بينما تطبيق القانون بالنسبة لقضاة النيابة العامة مقيد في بعض الحالات بضرورة الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة .
ففيما يتعلق بقضاة الأحكام ؛ يتمثل تطبيق القانون في ضرورة احترام المبادئ الأساسية المرتبطة بضمان محاكمة عادلة لكل ماثل أمام القضاء ، و من بين مظاهر تلك الضمانة احترام المساطر و المقتضيات القانونية المرتبطة بالإجراءات أو بمراكز الأطراف أمام القضاء و خلال المخاصمة القضائية ، و بالتالي ترتيب الجزاء المناسب على كل إخلال بذلك . و إذا نظرنا في المقتضيات ذات العلاقة بالمحاكمة العادلة ، سواء في الدستور أو التشريع العادي، نجد منها ما هو مشمول بجزاءات قانونية ملزمة للقاضي و لا سلطة له في تقدير مدى إضرارها بحقوق الأطراف ، و بالتالي فمتى تحقق من وجود أي خرق مرتبط بتلك المقتضيات لم يكن له من خيار إلا أن يطبق الجزاء القانوني المحدد سلفا ، و هو بذلك يتقمص دور الرسول في إنزال الحكم القانوني على الإجراءات ضمانا للمحاكمة العادلة ، بما يعنيه ذلك من ضمان للتوقع الذي يجد أساسه في النص القانوني ، و هو ما ينفي وجود الارتجال و التعدد في القرار بشأن النقطة القانونية الواحدة ، و ما يعني كذلك الاستقرار في الرأي القانوني ، وهما أمران لازمان لتحقق ما يصطلح عليه الأمن القضائي و القانوني .
لكن الذي نجده في النصوص القانونية ، هو أن مقتضياتها ليست مشمولة كلها بجزاءات بعينها ، و من ثم يصبح مشروعا التساؤل عن دور القاضي في مثل هذه الحالات ؛ هل يلتزم بالجزاءات العامة المقررة في بعض النصوص القانونية و يعمل على تطبيقها على كل خرق قانوني ، أم أن الأمر موكول لفطنته وتقديره فيما يتعلق بإنفاذ القانون ؟
إن مشروعية هذا التساؤل تجد سندها في التنصيص الدستوري على فكرة التطبيق العادل للقانون ؛ إذ أن المشرع الدستوري الذي أسس لمبدأ العدل في تطبيق القاعدة القانونية ابتغى من وراء ذلك أن يستحضر القاضي روح القانون و هو بصدد تطبيقه . و معنى ذلك أن القاضي أصبح له دور كبير في تقدير مدى قدرة القاعدة القانونية على تحقيق العدل بمفهومه العام ، و ليس بمعناه الضيق المتمثل في الحفاظ على المصالح و المراكز القانونية الفردية .
إن فكرة التطبيق العادل للقانون تنطوي على ركيزة أساس تتمثل في ضرورة الحفاظ على حقوق أطراف الخصومة القضائية و عدم المساس بها ، و ذلك من غير إهمال للمصالح العليا للمجتمع . إذ أن الحكم القضائي مهما تكن طبيعته أو الأطراف المخاطبين به ، فهو حكم له آثاره على الواقع الذي يجد فيه ارتداد صداه ، وهو بذلك ليس نسبيا كما هو المعتقد في المبادئ العامة للقانون ، و لكن أثره يسري على المنظومة الاجتماعية ككل .
و من ثم فقاضي الحكم بتطبيقه للقانون ، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أمرين ؛ أولهما مراعاة القواعد القانونية ذات الارتباط بالنظام العام ، التي ارتأى المشرع ذاته أن يكفلها بجزاءات ، فتلك لابد من مراعاتها تطبيقا للقانون ، و ما دونها فهو موكول لفطنة ذات القاضي الذي يتعين عليه مراعاة مدى مساسها بحقوق الأطراف المتنازعة من جهة ، و مدى ضمانها للحق في السلم الاجتماعي الذي هو الغاية من إيقاع العقاب على المخالف للقانون من جهة ثانية . فأي إخلال بهذا المعادلة يكون مجافيا لفكرة التطبيق العادل للقانون و بالتالي تهدر حقوق المجتمع ككل .
و إذا كان قاضي الحكم ملزما بتطبيق القانون على شرط تحقيق العدل في ذلك التطبيق ، فإن قاضي النيابة العامة ، و إن كان ملزما هو كذلك بتطبيق القانون ، فإن حريته تبقى مقيدة بضرورة اتباع التعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن الجهة التي يتبع لها .
و هكذا ، و بغض النظر عن النقاشات الرائجة حول تحديد طبيعة الجهة التي يتبع لها قاضي النيابة العامة في إطارالدستور الجديد . فإن الجديد هو أن المشرع الدستوري ألزم قاضي النيابة العامة بضرورة تطبيق القانون ؛ و هو أمر يفهم منه إلزامية احترام القواعد المؤسسة لفكرة المحاكمة العادلة ؛ إذ أن قاضي النيابة العامة في آخر المطاف هو قاضي موكول إليه أمر إنفاذ القانون ، و لكن في إطار حدود معينة لابد و أن تراعي مسألة ضمان استقرار و أمن المجتمع ، وهو ما يعد سندا لفكرة تطبيق السياسة الجنائية بمفهومها الواسع .
و لما كانت السياسة الجنائية في صورتها الحالية ، محكومة بتوجهات عامة تصوغها الدولة من أجل تحقيق أهداف محددة مرتبطة بالأمن و الاستقرار ، فإن آلياتها تتعدد بتعدد المتدخلين في إنزال تلك السياسة على أرض الواقع . و بالتالي ، ففي الجانب القانوني، إذا كان وزير العدل لا يزال هو المكلف بموجب المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية بالسهر على تطبيق السياسة الجنائية ، فإن مهمته تلك لا تتم إلا بموجب التعليمات التي تصدر عنه للنيابات العامة قصد توجيهها في عملها من أجل ضمان حسن سير التنفيذ . لكن قد تكون تلك التعليمات مخالفة في بعض الأحيان للقانون و ما يمليه من أجل ضمان و تكريس المحاكمة العادلة ، هنا يتدخل قاضي النيابة العامة من أجل مراقبة مدى احترام تلك التعليمات للقانون أم لا .
و هكذا ؛ فأول ما يقتضيه المقتضى الدستوري أن تكون التعليمات كتابية ، و ثاني الأمور أن تكون موافقة للقانون .
فمن حيث التعليمات الكتابية ، فقاضي النيابة العامة ملزم بتبرير القرارات التي يتخذها في كل خطوة يقدم عليها ، وهو بذلك مسؤول عن كل قرار مخالف للقانون و مراقب في ذلك من الجهة التي يتبع لها في إطار التسلسل الهرمي الذي يطبع عمل النيابة العامة ؛ إلا أنه قد يكون في بعض الأحيان ملزما بتنفيذ التعليمات الصادرة إليه من رؤسائه ، و في ذات الوقت يكون مجبرا على ضرورة تطبيق القانون؛ فكيف له التوفيق بين هذا و ذاك؟
مما لا شك فيه أن قاضي النيابة العامة في هذه الحالة يكون ملزما بالإدلاء بما يثبت تنفيذه للتعليمات الصادرة إليه من رؤسائه ، و لن يكون له دليل على ذلك إلا الأثر الكتابي، و من هنا نص المشرع الدستوري على التعليمات الكتابية كضمانة لقاضي النيابة العامة من أجل رفع الحرج عنه إثناء قيامه بمهامه .
إن قاضي النيابة العامة كغيره من القضاة ، يجب عليه العمل على تطبيق القاعدة القانونية ، بالقدر الذي أوكلت له مهمة ضمان الحقوق و الحريات التي يتمتع بها المواطنون . و لذلك يتعين أن تضفى الصبغة القانونية على عمله في كل تفاصيله، لا فرق في ذلك بينه و بين ما يقع على عاتق قاضي الحكم ، و بالتالي فأي تعليمات صدرت إليه يتعين أن يخضعها للرقابة القبلية و يرى مدى قانونيتها.
إلا أنه في هذا الصدد يجب التذكير بأن الرقابة التي منحها المشرع الدستوري لقاضي النيابة العامة على التعليمات الكتابية الصادرة له من رؤسائه ليست مطلقة ، بل إن هناك محددات تضبطها ؛ تلك الضوابط تجعلنا نميز بين ما هو محدد بالنص القانوني و ليس فيه أي هامش للتقدير ، و بين ما هو مرتبط بمجموعة من المتغيرات التي تؤطر عملية إنزال القاعدة القانونية على أرض الواقع ، و بين هذا و ذاك يتعين أن يراعي قاضي النيابة العامة فكرة تطبيق القانون و ألا يتخذ من هذا الأمر مطية للعصيان . و في هذا الصدد متى اقتضت موجبات السياسة الجنائية مثلا اتخاذ قرار الاعتقال ، فإن التعليمات الصادرة إليه بهذا الشأن يتعين أن تنفذ ، ذلك أن قرار الاعتقال تدخل فيه مجموعة من المعطيات ، وبالتالي لابد من أخذها بعين الاعتبار ، و هو أمر ليس مخالفا للقانون ، إذ أن المشرع نفسه عمل على ربط مسألة الاعتقال بمجموعة من الضمانات ، و هو أمر ليس مرتبطا بالقانون نفسه و إنما بالواقع المتحرك .
تلك إذن بعض ما يقتضيه واجب تطبيق القانون من قبل قضاة الأحكام و كذا قضاة النيابة العامة ، مع اعتبار الضوابط التي تنظم ذلك الحق ، و في كل ذلك زيادة على الحق في حماية القرار القضائي ، ضمان يكرس فكرة المحاكمة العادلة . إلا أن القضاء ليس وحده هو الضامن للمحاكمة العادلة ، و إنما المتقاضون أيضا أوكل لهم المشرع الدستوري مهمة المساهمة في تكريس تلك الفكرة .
الفقرة الثانية :
المتقاضون مساهمون في ضمان احترام الحق في المحاكمة العادلة
إن كل نظام قانوني قائم على أسس ديمقراطية يقتضي رقابة مواطنة على كل الأجهزة التي تتولى التسيير و التدبير لشؤون المواطنين و الأفراد ، و لذلك فقد كان من المتصور أن ينحو المشرع الدستوري منحى تمكين المواطن من مجموعة من الآليات التي تمكنه من المساهمة في ضمان الحق في المحاكمة العادلة .
و قد تضمن دستور 2011 مجموعة من الحقوق التي ستمكن المتقاضين من تقويم كل انحراف أو زيع عن طريق تكريس المحاكمة العادلة ، و أهم تلك الحقوق الحق في التعويض عن الخطأ القضائي ، و كذا الحق في الطعن في دستورية القوانين التي قد تطبق عليه ، بالإضافة إلى تقرير مبدأ القوة الملزمة للأحكام القضائية .
و هكذا ، فقد نص المشرع نص على الحق في التعويض عن الخطأ القضائي في الفصل 122 من الدستور و الذي جاء فيه أنه : ” يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة ” . و إذا كان مجال الخطأ القضائي غير محدد ، فالتشريع العادي هو المناط به مهمة توضيحه أو للممارسة القضائية تبيان معالمه ، فإن الأكيد أن هذا الحق ينطوي على مجموعة من العوائق التي قد تعترض المتقاضي ، و التي من بينها أن يكون الخطأ في المحاكمة ليس ناتجا عن فعل القاضي المباشر ، و إنما عن الإجراءات التي تقوم بها الأجهزة المساعدة للقضاء ، ذلك أن الأصل في عمل القاضي هو النظر في ما يعرض عليه من قضايا من أجل الفصل فيهاوفق ما يقتضيه القانون ، و بناء على الأدلة و الوثائق و الوقائع المعروضة عليه فقط . و على ذلك فإنه في مثل هذه الحالات لا مجال للحديث عن الخطأ القضائي ، و إنما يتعين على ذي الشأن أن يعمل على البحث عن مصدر الخطأ الذي عصف له بحقه .
و بناء على ما ذكر ، فإن الخطأ القضائي يمكن تعريفه بأنه ” انحراف في الحكم الصادر عن هيئة القضاء في قضية معينة و فق ما يقتضيه القانون و ما ينسجم مع وقائع النزاع ” ، ذلك أن الأصل في القاضي أن يتولى مسألة التطبيق السليم للقانون على كل نزاع عرض عليه ، و بالتالي فليس له أن يرتكن لتدخل الأطراف في مسألة التكييف أو تحديد المسار القانوني الصرف للقضية ، فهو الأصل في تحديد الوجهة السليمة للقضية و بالتالي فإن الحكم الذي يصدر في النزاع يعتبر ثمرة مجهود القاضي في تفعيل القاعدة القانونية ، و تتويجا لتضافر مجموعة من العوامل التي يتعين على القاضي التعامل معها على أساس جوهرها كما هي مجسدة أمامه .
لكن التزام القاضي بالتطبيق السليم للقانون بذاته ، يتأثر بمجموعة من العوائق و العراقيل التي تحول دون الوصول إلى الحقيقة القضائية التي يطمح الجميع إلى أن تتماهى مع الحقيقة القانونية .
و ذلك ، لأن العملية القضائية لا يتدخل فيها القاضي بمفرده ، و إنما هي نتاج و ثمرة تضافر عمل مجموعة من الجهات و الأفراد الذين لهم علاقة مباشرة بالقضية؛ فالضابطة القضائية و المحامي و الخبير و غيرهم مسؤولون ، في حدود تدخلهم، عن مآل القضية . كما أن للطرف ضحية كان أو متهما أو شاهدا جزء ليس باليسير في تحديد مآل القضية ، إما نتيجة لأخطاء أو جهل قد يقعون فيها. ففي مثل هذه الحالات يتعذر على المتضرر التمسك بالحق في التعويض عن الخطأ القضائي ، ذلك أن القاضي في الأصل لم يرتكب أي خطأ سوى إنزال الحكم القانوني على ما راج أمامه . فمن يتحمل إذن مسؤولية الخطأ الذي تعرض له المتقاضي ؟ و كيف للمتضرر أن يحمي حقه ؟ هذا الحق الذي بناء على ما سلف ، لا يزال محتاجا لبحث حتى تتضح معالمه و المسطرة و الإجراءات المواكبة للمطالبة به ، و الكل في انتظار تدخل تشريعي مستقبلي . لكن بالرغم من كل ذلك ، فالقرار القضائي إلى حين ثبوت خطأه ، يتعين أن يكون محترما من قبل الجميع ، هذا ما يطرح مسألة القوة الملزمة للقرار القضائي .
إن القوة الملزمة للقرار القضائي تعتبر مقياسا يقاس به مدى احترام الأفراد للسلطة القضائية ، و بالتالي فقد حاول المشرع الدستوري من خلال التنصيص على هذه القوة في الفصل 126 من الدستور ، أن يضع المتقاضين أمام مسؤولياتهم اتجاه السلطة القضائية ، إذ لا سبيل لتحقيق العدالة بمجرد النطق بالأحكام ، و إنما قوة الفصل القضائي تكمن في مدى قدرة الأجهزة المكلفة بالتنفيذ على تنفيذ قرارات القضاء .
و هكذا فإن المحاكمة العادلة لن يكون لها معنى ما بقي الإفلات من العقاب قائما ، حيث يتفنن الأفراد في ابتكار أساليب التهرب من تنفيذ المقررات القضائية . و المشرع الدستوري لما نص على مسألة القوة الملزمة للقرارات القضائية ، يكون قد جعل النيابة العامة أمام مسؤوليتها الوطنية في الحفاظ على حقوق الأفراد و حرياتهم، و لأنها بما تملكه من وسائل موضوعة تحت إشرافها ستساهم بشكل فعال في تكريس مفهوم الأمن القضائي . و لعل من أهم الآليات التي تتمتع بها النيابة العامة نجد الشرطة القضائية التي أصبحت بموجب الدستور تحت الإشراف المباشر للنيابة العامة ،و هو ما كرسه مشروع قانون المسطرة الجنائية موضوع الدراسة و المناقشة. فقوة الإجبار و الإكراه التي تمتلكها النيابة العامة من أجل إخضاع الجميع لحكم القضاء ، و خاصة ما يتعلق بالدعوى العمومية و ما تؤول إليه من مآلات ، تجعل القرار القضائي محصنا و مقدسا ؛ لكن التدخل التشريعي في هذا الصدد يبقى مطلوبا من أجل الرفع من كل الأفعال المحتقرة للقرار القضائي إلى مرتبة الجريمة المعاقب عليها ، و ذلك انسجاما مع دسترة القوة الملزمة للقرار القضائي ، إذ في هذه الحالة يتعين علينا الانتقال من مرحلة الالتزام التلقائي بالقرار القضائي إلى مرحلة حماية احترام هذا القرار . فمن المعلوم أن النيابة العامة لا تملك إمكانية التدخل مادام ليس هناك أي منفذ قانوني لبسط سلطتها في هذا الشأن ، و بالتالي فالتدخل التشريعي كفيل بسد هذه الثغرة من أجل ضمان إرجاع الحقوق لذويها ، و بالتالي تحقيق الغاية المرجوة من المحاكمة العادلة .
و أما بخصوص القوة الملزمة للقرار القضائي في مواجهة الإدارة ، فإن دولة المؤسسات و سيادة القانون تقتضي بالضرورة أن تعمل الإدارة على الخضوع لسلطة القضاء لا أن تكون عاملا معرقلا لنفاذ قوة القرار القضائي ، وبالتالي فمادامت الإدارة ذات سلطة ، فإن الأفراد مهما نالوا من حقوق عن طريق القضاء لن يجدوا سبيلا إلى الاستفادة منها ماداموا ميواجهون رفض الإدارة في تنفيذ تلك القرارات ، و خاصة إذا تعلق الأمر بالموظفين الذين سبق اتخاذ قرارات تأديبية في حقهم لارتكابهم أخطاء اعتبرت مهنية و رتبت عليها متابعة جنائية . ففي هذه الحالات يتعين على الإدارة أن تأخذ بعين الاعتبار الموقف القضائي عند اتخاذ القرار التأديبي ، و بالتالي فإن احترام القانون يعني أن تتريث الإدارة في اتخاذ أي قرار ضد الموظف إلى حين النطق بالمقرر القضائي في شأن الواقعة المنسوبة للموظف . و في هذا الصدد يمكن أن ندرج توجه المشرع منذ 2003 عندما ألغى ضرورة إشعار الوكيل القضائي كشرط للمتابعة ، تحت طائلة التصريح بعدم قبول المتابعة .
و لذلك فالمشرع الدستوري لما أقر قاعدة القوة الملزمة للقرار القضائي ، يتعين عليه أن يكمل المهمة من أجل تمكين الأفراد من المساهمة في تكريس هذه القوة الملزمة ، و بالتالي فإن أي تدخل تشريعي يبين المساطر و الإجراءات و القواعد القانونية اللازمة لإجبار الأفراد على احترام المقررات القضائية يبقى مطلوبا لتكريس القاعدة الدستورية من جهة ، و من جهة أخرى من أجل تمكين المتقاضين من المساهمة في العملية القضائية ، ليس فقط قبل صدور الحكم و إنما بعده كذلك .
و إذا كان التدخل التشريعي ، مطلوبا على النحو المفصل أعلاه من أجل احترام القرار القضائي، فإن احترام مطابقة القاعدة القانونية للقاعدة الدستورية هو ما يتوخاه كل فرد واع بدور القانون في تنظيم المجتمع و العلاقات بين الأفراد ، و بالتالي يحدد القواعد المنظمة لمساطر اللجوء لمرفق القضاء من أجل التقاضي وفق الشكل و القاعدة المرعية دستوريا .
و في هذا الصدد فإن المتقاضي ، و من أجل أن يساهم في حماية وتكريس مفهوم ا لمحاكمة العادلة ، أصبح يملك آلية مهمة من آليات الرقابة على العمل التشريعي ، و تتمثل تلك الآلية في الرقابة البعدية على مدى دستورية القوانين التي قد يحاكم بها أو يواجه بها خلال أية محاكمة . لذلك فإن المشرع الدستوري عمل على تمكين الأفراد من إمكانية الطعن في مدى دستورية القوانين متى تعلق الأمر بمقتضى قانوني أثير بمناسبة دعوى معروضة أمام أنظار القضاء . و لعل هذه الإمكانية تعتبر أهم ما مكن منه المتقاضي من أجل المساهمة في ببلورة قواعد راقية من أجل تكريس مفهوم المحاكمة العادلة ؛ ذلك أن المتقاضي يتعين عليه أن يراعي مجموعة من الأمور من أجل الدفع بعدم دستورية القانون أثناء النظر في النزاع القضائي ، و من تلك القواعد محاولته التأليف بين مقتضى القواعد الواردة بالاتفاقيات الدولية و مدى مصادقة المغرب عليها مع القواعد الواردة في القانون الوطني هذا من جهة ، و من جهة أخرى ، يتعين اعتبار مبدأ العدل في المطالبة بالنظر في مدى دستورية القاعدة القانونية . فمن مقتضى الزيغ عن تكريس فكرة المحاكمة العادلة أن يتم اللجوء إلى الطعن في دستورية القانون من أجل تحقيق مصلحة خاصة أو مركز قانوني ضيق ، ففي مثل هذه الحالات يتعين أن يتم التصدي لمثل هذه الإرادات بموجب القانون . و لعل التدخل المنتظر للمشرع من أجل سن القانون التنظيمي الذي سينظم شروط و إجراءات تطبيق مقتضيات الطعن في دستورية القانون سيحل هذا الإشكال ضمانا لمبدأ المراقبة العادلة و المعقولة لمدى التقيد بفكرة المحاكمة العادلة سواء من قبل القضاء أو من قبل باقي الأجهزة المتدخلة .
تلك إذن بعض الجوانب التي يساهم من خلالها الأفراد و المتقاضون في تكريس فكرة المحاكمة العادلة ؛ و التي إذا ما تم التمكن منها فإن الجميع سيصبح ملزما بالمساهمة في بلورة و تكريس مفهوم المحاكمة العادلة حتى تصبح واقعا معيشا و أمرا مألوفا .