المساحات التشريعية وسؤال محدودية القوة الفاعلة للتشريع
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
أستاذ زائر بكلية الحقوق – سلا
باحث قانوني
من المعلوم ان الفكر القانوني الحديث يستند على نظرية العقد الاجتماعي التي نظر لها فلاسفة عصر الأنوار من أمثال طوماس هوبز وجون جاك روسو وجون لوك وغيرهم من الفلاسفة الذين أثروا ولا يزالون مؤثرين في الفكر القانوني الغربي من قبيل كانط وهيكل وغيرهما.
وتقوم هذه النظرية في مجملها على مبادئ أو أفكار كبرى في مقدمتها فكرة الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة النظام انطلاقا من “مسلمة” تقول بتنازل الأفراد لفائدة الحاكم على مختلف قدراتهم و سلطاتهم في مقابل تفرد هذا الأخير بسلطة القهر و الإجبار اللازمتين لضمان سيادة القانون بما يعنيه ذلك من اختصاص بالتشريع أولا وقدرة على تنفيذه ثانيا ضمانا لآثار ذلك كله ثالثا.
ومن الآثار التي تترتب على هذه النظرية ما يتعلق بقدرة إرادة الحاكم، ممثلا في مجموع الجهات الموكول لها مسألة التنظيم والضبط الاجتماعيين، على تحكيم إرادته في سن القوانين وبالتالي فرضها على مجموع الخاضعين له ولسلطانه، وما يرتبط أيضا بعلاقة المفهومين المركزيين “القانون الطبيعي” و “القانون الوضعي” وأيهما أقوى من الآخر.
فكما هو معلوم فإن قوة “القاعدة القانونية” لا تتحقق إلا إذا وجدت لها تطبيقات على أرض الواقع وانصاع لها الأفراد والمؤسسات بكل الطرق ولو عن طريق الإجبار والإكراه مادام هذا الخضوع هو ما يشكل جوهر التنفيذ الوجداني والمادي لذلك العقد الذي اتفق على مضمونه كل أفراد المجتمع وسمي عقدا اجتماعيا.
فدور الحاكم وفق نظرية العقد الاجتماعي تبدأ بوضع “نظام قانوني” قادر على “تنظيم” المجتمع تنظيما من شأنه تحديد الحقوق والواجبات وإيضاح شروط ممارستها بالشكل الذي يفيد في تجسيد فكرة النظام الذي جاءت نظرية العقد الاجتماعي لتضع قواعده تنظيرا وتفسيرا. ومن رحم هذا الدور نشا التعريف المتداول للقانون من أنه “مجموع القواعد القانونية –المنظمة- لسلوك الأفراد في المجتمع”. كما انبرى المهتمون بالدراسات القانونية في بسط الخصائص التي تتميز بها تلك القاعدة القانونية بسطا يتماشى مع فكرة قدرة واضع القانون على إنفاذ إرادته المتمثلة في مجموع مقتضيات “القانون الوضعي” على مجموع الأفراد المعنيين بالخطاب القانوني.
لكن الناظر والمتمعن في مجموع المدونات التشريعية سيقف لامحالة عند العديد من المقتضيات التي تثير التساؤل حول قدرة واضع التشريع ذاته على بسط سلطانه على سلوك الأفراد وتصرفاتهم اليومية وما إذا كانت له القدرة على تجاوز دوره في التشريع من مجرد توثيق بعض المقتضيات التي قد توصف بالقانونية إلى خلق القانون ذاته، أم أن دوره يبقى بالرغم من كل ذلك دورا شكليا لا تأثير له على جوهر سلوك الأفراد وتصرفاتهم؟
يحيلنا هذا التساؤل على مسألة غاية في الدقة والتعقيد، تتمثل في طبيعة ردة الفعل التي يتبناها واضع التشريع عندما يهم بالاشتغال على موضوع يكون للمجتمع رأي سابق فيه، هل يملك المشرع عندئذ أن “يخلق” قاعدة تشريعية يتولى فرضها على الأفراد المخاطبين بها أم أن قوة المعتقد الموجه لسلوك هؤلاء الأفراد يجعل المشرع مستسلما لقوة الواقع مسايرا للقواعد الناظمة و المؤطرة للسلوك الاجتماعي اليومي ؟
إن الجواب على هذا التساؤل يشكل امتحانا حقيقيا لدلالة الدور الذي يلعبه مفهوم “التنظيم” الذي تتولى القاعدة “القانونية” لعبه حسب التعريف “الكلاسيكي” المتداول بين المشتغلين بالقانون. ذلك أن فكرة “التنظيم” هاته تختزل جوهر الاعتقاد بالمرور من حالة الفوضى إلى حالة النظام التي قالت بها نظرية العقد الاجتماعي، لذلك فإن دور المشرع حسب هذا التصور يتجلى في خلق القواعد “القانونية” القادرة على “التنظيم”، غير أن اصطدام هذا التصور مع صلابة موقف المجتمع من القواعد المؤطرة لسلوك أفراده يجعل من استطاعة المشرع على وضع قواعد قادرة على “تنظيم” سلوك الأفراد أمرا غاية في الصعوبة إن لم نقل مستحيلا في الكثير من الأحيان.
هذا التضاد القائم بين استئثار المشرع بسلطة وضع القواعد والمعتقد الراسخ في الوعي الجمعي لأفراد المجتمع هو الذي يولد تصورا جديدا لمفهوم القانون وينقله من كونه مجموع القواعد “القانونية” “المنظمة” لسلوك الأفراد إلى قواعد “موجهة” لذلك السلوك. فمفهوم “التوجيه” يؤدي المعنى الحقيقي المؤثر في سلوك الأفراد من خلال إعطاء ذلك السلوك المسار الأخلاقي والاجتماعي المقبول لدى عموم أفراد المجتمع قبولا متأثرا بعاملي الزمان والمكان.
إن البحث في العلاقة القائمة بين ثنائية “التنظيم” و”التوجيه” من جهة والقاعدة المؤثرة في سلوك الأفراد من جهة أخرى يعتبر منطلقا حقيقيا لإعادة النظر في مفهوم “القانون” وعلاقته بمفهوم “التشريع”، ومدخلا أساسيا لتشكل رؤية جديدة لتعاطي الدراسات القانونية مع التمثلات المؤطرة للمفهومين و نطاق كل واحد منها.
إن الأكيد في الأمر أن هناك مجموعة من القواعد التي تساهم في “توجيه” سلوك الأفراد داخل المجتمع منها ما يتعلق بالعرف أو العادات أو التقاليد أو قواعد المجاملات وما إلى ذلك من قواعد الدين أو غيرها. وكما هو معروف فإن هذه القواعد تمتاز مجملها بقبول المجتمع لها قبولا ضمنيا من غير تدخل خارجي نظرا لنشأة الأفراد عليها منذ نعومة أظافرهم انطلاقا من وسطهم الأسري مرورا بالمجتمع وانتهاء بالمدرسة ومختلف البنيات الاجتماعية التي تشكل الحاضنة الطبيعية لتشبع الأفراد بالتمثلات المجتمعية.
وكما هو متعارف عليه فإن مجموع القواعد المذكورة متداخلة فيما بينها تداخلا يصعب في الكثير من الأحيان الفصل بينها أو معرفة أيها أسبق بالوجود من غيرها، فالعرف مثلا قد يكون وليد الممارسة الدينية وكذلك ما يعتبر من صميم القاعدة السلوكية وهكذا، فيصعب حينها التمييز بين ما هو مجرد عرف أو قاعدة سلوكية مما هو قاعدة موجهة مستمدة من الدين وقواعده. لذلك فإن مجموع هذه القواعد تشكل كتلة واحدة موجهة لسلوك الأفراد قبل تدخل “التشريع” بمختلف صوره. فهل نملك في ضوء هذا التصور أن نعيد تعريف مفهوم “القانون”؟
هذا السؤال سبق لنا التطرق له في مواضيع متعددة من قبيل “تلقي القانون – الجزء الأول في المقدمات العامة ” و”صناعة القانون” و”القانون القوي” وغيرها من المقالات ذات الصلة، ولا يليق في هذا المقام إعادة ما سبق- نملك الآن التدليل على صحة اختلاف مفهوم “القانون” عن مفهوم “التشريع” من خلال مجموعة من الأدلة التي أوردها المشرع المغربي ومجموعة من المشرعين على غراره.
في البداية يجب التدقيق في التصور العام الذي يتبناه المشرع بخصوص مجموع تلك القواعد. فقد أوردها في العديد من النصوص و المدونات، لذلك يجب الانطلاق مما ورد لنرى هل المشرع اكتفى بوضع قواعد صارمة مجردة عن كل امتداد مجتمعي أم أنه وقف في الكثير من الأحيان على مضمون القواعد الموجهة لسلوك الأفراد وتعاطي معها تعاطيا من شأنه رفع الحرج عن الدور الذي يتولاه وفق نظرية العقد الاجتماعي.
تفيد الدراسة المتعمقة والدقيقة للمضمون التشريعي ذاته أن المشرع يسلك مسلكين اثنين؛ إما أنه يتولى وضع قواعد تشريعية صريحة لا امتداد لها في الوعي المجتمعي، وغالب هذه القواعد تتعلق بالمجال التنظيمي التقني الذي لا علاقة له بما يفيد في نشأة التصرفات القانونية، فوضع قواعد تتعلق بكيفية إبرام عقد متعلق بحق عيني أو مسألة عقارية مثلا يدخل في خانة التنظيم ليس إلا، لذلك فإن المشرع فرض في مثل هذه القواعد شكليات معينة. ولكن موضوع الحق العيني أو التصرف العقاري ذاته مسألة لا تدخل في باب التنظيم كمن يتملك أرضا مواتا مثلا أو يعمر غيره منفعة دار أو بستان فهده من مسائل الموضوع التي لا تتحكم فيها مجرد القواعد التي يتولى المشرع وضعها، وإنما تجد امتدادها في القواعد “الموجهة” لسلوك الأفراد من أعراف وتقاليد وقواعد دينية. وأما المسار الثاني الذي يتبناه المشرع في وضع القواعد فهو ما يتعلق بالتصرفات القانونية التي لها ارتباط وثيق بما يعتمل في الوعي الجمعي للأفراد.
فإذا أخذنا مثلا ما جاء في الفصل 476 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه “يجب على من يتمسك بالعادة أن يثبت وجودها. ولا يصح التمسك بالعادة إلا إذا كانت عامة أو غالبة، ولم تكن فيها مخالفة للنظام العام ولا للأخلاق الحميدة” فإننا سنقف عند الاعتراف الصريح للمشرع بما درج عليه الأفراد من عادات موجهة لسلوكهم اليومي ووجود هذه العادات واعتبارها مصدرا أساسيا ومباشرا لنشأة الالتزامات، ويبق على من يتمسك بها أن يثبت وجودها للقاضي الذي لا يفترض فيه العلم بها كما هو الحال بالنسبة للعرف. ومعنى إثبات وجودها للقاضي تعريفه بها وبما تقضي به تلك العادة. وهنا لابد من التأكيد على أن اعتراف المشرع بالعادة العامة هو الذي يجعلها جزءا من القانون لا مجرد مصدر له، إذ لو كانت مجرد مصدر فإن القاضي لا يلزم بالحكم بها لأنه لا يطبق إلا القانون. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ضرورة مراجعة فكرة “مصدرية” التشريع ومعنى هذه المصدرية.
فمصدر التشريع هو ذلك الخزان من القيم والموجهات التي يلتجأ لها واضع التشريع من أجل انتقاء ما يراه مناسبا لوضع القاعدة التشريعية. إذ أن المشرع وفق هذه الرؤية هو الذي يصنف من بين القيم والموجهات ما يراه صالحا مما لا يراه كذلك ويبني على أساس ذلك الانتقاء المضمون التشريعي الوارد في شكل مقتضيات تشريعية.
ولما كان القاضي مخاطبا أساسا بالمضمون التشريعي فإنه يقتصر على هذا المضمون كأداة لممارسة سلطته ولا يملك صلاحية العودة للقيم والموجهات الأصلية التي استقي منها التشريع ليختار منها ما يناسب وما لا يناسب لتأطير سلوك الأفراد، وعلى ذلك كله فإن التمييز بين ما يعتبر من صميم القانون مما يدخل في نطاق مصادر التشريع يبقى ذو أهمية بالغة لتحديد مضمون القانون ذاته.
إن هذا الوعي بمختلف المكونات التي تشكل كل واحدة من فكرتي القانون والتشريع هو ما يؤهلنا لإعادة النظر في مجموعة من المقولات المتداولة في الدراسات القانونية وما يرتبط منها أساسا بالتشريع ومصدره، وهل القانون يشمل ما ينص عليه المشرع فقط أو ما يعترف أيضا بوجوده؟
فلو كان القانون هو ما ينص عليه التشريع فقط لكانت القواعد التشريعية عبارة عن خطاب ذو طبيعة واحدة ولها صيغة واحدة منسجمة في ذاتها ولا تحتاج للاعتراف بمكونات أخرى – من قبيل العادة والعرف – تدخل في نطاق آخر ولها قوة منشئة أخرى غير القوة المنشئة للقاعدة التشريعية. غير أن حقيقة القواعد التشريعية تشمل ما يعبر عن الإرادة الظاهرة لواضع تلك القواعد من جهة وما يشكل اعترافا منه بقواعد أخرى سابقة في الوجود على ما تقره “إرادة المشرع”.
ففي العديد من المقتضيات التشريعية نجد أن المشرع يعمل على الاعتراف بالعادة والعرف وقواعد الشريعة الإسلامية باعتبارها جزءا من المضمون التشريعي الذي يجوز للقاضي أن يستند عليه للنظر في الخصومات التي تعرض عليه؛ وفي هذا الصدد يمكن أن نضرب لذلك العديد من الأمثلة.
فقد يعتبر المشرع قواعد الشريعة الإسلامية ذاتها جزءا لا يتجزأ من المضمون التشريعي فينص على ذلك صراحة.
ففي الفصل 200 من قانون الالتزامات والعقود يقرر المشرع قاعدة تفيد أن: “حوالة الحق تشمل توابعه المتممة له، كالامتيازات، مع استثناء ما كان منها متعلقا بشخص المحيل وهي لا تشمل الرهون الحيازية على المنقولات والرهون الرسمية والكفالات إلا بشرط صريح. وتشمل الحوالة دعاوى البطلان أو الإبطال التي كانت للمحيل ويفترض فيها أنها تشمل كذلك الفوائد التي حلت ولم تدفع، ما لم يشترط غير ذلك أو تقضي العادة بخلافه، ولا يطبق هذا الحكم الأخير على المسلمين. ” ففي هذا المقتضى التشريعي كما هو واضح فإن المشرع حدد محل الحوالة سواء ما يدخل فيها مما لا يدخل فيها وجعل ذلك المحل محكوما بعدم مخالفته لأمور ثلاثة أولها الشروط المعبر عنها من قبل طرفي الحوالة وثانيها العادة التي قد تحدد محلا مختلفا عن المحل المذكور في الفصل وثالثها ما يتعلق بالفوائد التي يجب أن تبقى خاضعة من حيث الحكم لقواعد الشريعة الإسلامية عندما استثنى تطبيق حكم الفوائد القانونية على المسلمين. ويمكن القول بأن مثل هذا الاستثناء هو نفسه ما أكده المشرع في الفصل 870 من نفس القانون الذي ينص على أن : “اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه سواء جاء صريحا أو اتخذ شكل هدية أو أي نفع آخر للمقرض أو لأي شخص غيره يتخذ وسيطا له”.
ولعل هذا الاعتبار لقواعد الشريعة الإسلامية لا يتوقف عند الحديث عن الفوائد وإنما يمتد لمواضيع ومجالات أخرى كما يفيد ذلك الفصل 986 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه: “تبطل بقوة القانون، بين المسلمين كل شركة يكون محلها أشياء محرمة بمقتضى الشريعة الإسلامية، وبين جميع الناس كل شركة يكون محلها أشياء خارجة عن دائرة التعامل. ” أو ما جاء في الفصل 484 من نفس القانون الذي يقضي بأنه: “يبطل بين المسلمين بيع الأشياء المعتبرة من النجاسات وفقا لشريعتهم مع استثناء الأشياء التي تجيز هذه الشريعة الاتجار فيها، كالأسمدة الحيوانية”.
إن اعتبار قواعد الشريعة الإسلامية جزءا لا يتجزأ من المضمون التشريعي يؤكد بالملموس بأن هناك جوانب من الموجهات السلوكية التي يقف أمامها المشرع عاجزا عن إقرار قواعد مخالفة لما درج عليه الأفراد في معيشهم اليومي، لكن هذا العجز لا يتجسد في الاقتصار على قواعد الشريعة الإسلامية فقط وإنما يمتد عند التعامل مع العرف والعادة كما يظهر في العديد من المقتضيات التشريعية مثل ما نص عليه الفصل 500 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه: “…2- تسلم الأشياء المنقولة بمناولتها من يد إلا يد أو بتسليم مفاتيح العمارة أو الصندوق الموضوعة فيه، أو بأي وجه آخر جرى به العرف… ” أو ما نص عليه الفصل 578 الذي جاء فيه: “إلا أنه إذا جرى العرف على أن يحصل أداء الثمن داخل أجل محدد أو في أقساط معينة، افترض في المتعاقدين أنهما ارتضيا اتباع حكمه ما لم يشترطا العكس صراحة.”
ولم يقتصر المشرع على الأخذ بالعرف في قانون الالتزامات والعقود وإنما عمل به في تشريعات أخرى من قبيل مدونة التجارة التي تزخر بالعديد من الأمثلة التي تعترف بالعرف وتجعل منه جزءا من المضمون التشريعي من قبيل المادة 427 التي تنص على أنه: “على الوكيل بالعمولة أن ينفذ بنفسه الأوامر التي يتلقاها. ولا يجوز له أن ينيب عنه وكيلا آخر بالعمولة إلا إذا خول له العقد أو العرف أو ظروف العملية، هذه الصلاحية صراحة. ” أو المادة 661 التي جاء فيها أنه: “إذا كانت الأشياء مما تتعرض عادة بطبيعتها لنقص في الوزن أو الحجم بمجرد نقلها، فلا يسأل الناقل إلا بقدر النقص الذي يزيد عما جرى العرف بالتسامح فيه. “
وفي المادة 11 من مدونة الشغل نص المشرع على أنه: “لا تحول أحكام هذا القانون دون تطبيق مقتضيات الأنظمة الأساسية، أو عقد الشغل، أو اتفاقية الشغل الجماعية، أو النظام الداخلي أو ما جرى عليه العرف من أحكام أكثر فائدة للأجراء. “وهو المقتضى الذي يؤكد على قوة العرف وأسبقيته على القانون في بعض المواطن، أو ما ورد بالمادة 345 من مدونة الشغل التي ألزمت المحكمة بالأخذ بما يقضي به العرف في حالة عدم الاتفاق على أجر معين بتنصيصها على ما يلي: “إذا لم يحدد الأجر بين الطرفين وفق المقتضيات الواردة في الفقرة أعلاه تولت المحكمة تحديده وفق العرف. “
ونفس المنحى سارت عليه مدونة الأسرة من قبيل ما نصت عليه المادة 205 من أنه: “من التزم بنفقة الغير صغيرا كان أو كبيرا لمدة محدودة، لزمه ما التزم به، وإذا كانت المدة غير محدودة، اعتمدت المحكمة على العرف في تحديدها.”.
إن الأمثلة على مواطن اعتبار الأحكام المستمدة من العادة أو العرف أو الشريعة الإسلامية متعددة ومتنوعة لا تكاد تخلو منها العديد من التشريعات الجاري بها العمل. وما ضربناه من أمثلة لا يعدو أن يكون مجرد إشارات مساعدة على تجسيد ذلك الضعف الذي تبديه إرادة المشرع في المواطن التي تحظى فيها الموجهات الاجتماعية العامة للسلوك الفردي اليومي بالقبول والأولية على أية موجهات أخرى، الشيء الذي يفسح المجال لجعل القواعد السلوكية والأخلاقية المستندة للعادات والأعراف وقواعد الشريعة الإسلامية جزءا لا يتجزأ من المضمون التشريعي.
وتجدر الإشارة إلى أن ما تناولناه من مواطن تظهر فيها موجهات السلوك الفردي بصورة صريحة لا يشكل ذلك المظهر الوحيد الذي تضعف فيه إرادة المشرع أمام قوة الموجهات الاجتماعية وإنما تمتد تلك المواطن إلى الحالات التي تكون فيها القاعدة التشريعية مجرد ترجمة لما درج الأفراد عليه مند زمن.
إن ذلك النطاق المتمثل في مجموع الموجهات السلوكية المستمدة من العادات والأعراف وقواعد الشريعة التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع والتي تنافس الوظيفة التشريعية هو ما يمكن أن نسميه ب “المساحة التشريعية”، وهو مفهوم يدل على قدرة قوى أخرى غير مجرد إرادة المشرع على توجيه سلوك الأفراد بالشكل الذي يلائم الوسط الاجتماعي ويحدد موجبات التغير زمانا ومكانا ويساعد على وجود قواعد مرنة من شأنها ضمان الانسجام بين الواجب على الأفراد والمألوف لديهم، وهو أيضا مفهوم يشكل منطلقا مهما للنظر في محدودية فكرة “العقد الاجتماعي” وما قامت عليه من افتراض سبقية الفوضى على النظام كمقدمة لتمكين الحاكم ممثلا في مجموع السلطات وعلى رأسها السلطة التشريعية من مفاتيح التنظيم واختصاصه بها، كما يشكل أرضية مناسبة لممارسة النقد على المسلمات التي دأبت الكتابات على تبنيها بصورة آلية.