تقديــم:
تشرفت بالمشاركة في الندوة العلمية الدولية عن بعد التي نظمتها الودادية الحسنية للقضاة ومكتبها بمحكمة النقض مع شركائها يوم الأربعاء 30 دجنبر 2020 حول موضوع: ” ذاكرة القضاء العبري وارتباطه بالهوية المغربية والوحدة الترابية للمملكة “.
وجدير بالذكر أن المنظومة التشريعية بالمغرب تحمي حقوق اليهود المغاربة وتراعي حريتهم الدينية وخصوصياتهم الثقافية في إطار من التعايش والتسامح والوئام والاحترام المتبادل باعتبارها مبادئ رئيسية تجسد التقاليد الحضارية المتأصلة للمغاربة التي سبق التأكيد عليها في العديد من الخطب والرسائل الملكية السامية، إضافة إلى الإطار القانوني المتمثل في الظهائر والمراسيم الشريفة والقرارات الوزارية التي تنظم القضاء العبري باعتباره جزءا لا يتجزأ من الهوية المغربية، هذا عن فضلا عن دستور 2011 الذي اعترف في ديباجته باللغة العبرية كمكون رئيسي ورافد من روافد الهوية والثقافة المغربية. فما هي إذن مكانة القضاء العبري ضمن التنظيم القضائي للمملكة، وتأثير اجتهاداته ومصادره على العدالة العبرية المغربية؟
ولعل الجواب على ذلك يقتضي منا تناول هذا الموضوع من خلال محورين اثنين كالتالي
المحور الأول:
مكانة القضاء العبري ضمن التنظيم القضائي للمملكة
وتتمثل في كون القضاء العبري أو المحاكم العبرية التي تسهر على فض النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمغاربة اليهود، تم إعادة تنظيمها بما في ذلك التوثيق الإسرائيلي في المنطقة الجنوبية من المملكة المغربية بمقتضى الظهير المؤرخ في 12 ماي 1918، وكذا الظهير المؤرخ في (15 فبراير 1928) بشأن تنظيم المحكمة العبرية والتوثيق العصري في طنجة، إضافة إلى الظهير الخليفي المؤرخ في (20 مارس 1928) بشأن تنظيم المحاكم العبرية والتوثيق الإسرائيلي في المنطقة الشمالية.
وبعد حصول المغرب على الاستقلال أصبح التنظيم العبري منذ 23 فبراير 1957 على الشكل التالي:
تم إحداث المحاكم العبرية الأولية المؤسسة بموجب الظهير الشريف الصادر في 11 شعبان 1336 الموافق 22 ماي 1918 وعوضت بالمحاكم العبرية الإقليمية التي أصبحت فيما بعد ابتدائية والتي عينت مقراتها ودوائر اختصاصها.
كما تم حذف وظيفة الحاخام المفوض وعوضت بمحاكم الحاخامات الحكام المفوضين وعين مقر كل منها.
وقد تم إدماج محاكم الشمال في مجموعة النظام القضائي العبري للمغرب وأصبحت المحاكم العبرية تختص فقط في الأحوال الشخصية وخصوصا ما يهم الزواج في الشريعة العبرية وشروط صحته، وطريقة الإشهار عن الزواج وعقده، ومعيار الذمة المالية للمرأة المتزوجة، وأهليتها، وما تسترجعه بعد انحلال ميثاق الزواج وحالات تعدد الزوجات والزواج المختلط بالإضافة إلى الطلاق وكل ما يرتبط به من حقوق ونظام الإرث والتركة والهبات والوصايا.
وهنا، تبرز أهمية الذاكرة والتاريخ التليد والحاضر المضيء والمستقبل الواعد، للمكون القضائي العبري كفضاء للغنى الروحي والثقافي الكبير للهوية المغربية في تنوعها وتعددها، الذي راكمت معه العدالة العبرية زخما حقوقيا كبيرا وكنزا ثمينا من الاجتهادات القضائية ذات الصلة بالأحوال الشخصية لليهود المغاربة، تعتبر مرجعا للمهتمين، ونبراسا للباحثين، يهتدى بها في العديد من المواضيع القانونية والقضائية ذات الصلة بهذه الفئة المتميزة من المجتمع المغربي.
المحور الثاني:
تأثير مصادر واجتهادات القضاء العبري على العدالة العبرية المغربية
أولا: في قضايا الأحوال الشخصية
تنص الفقرة الأخيرة من المادة الثانية من مدونة الأسرة المغربية على أن اليهود المغاربة تسري عليهم قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية.”
ومعلوم أن هذه الاستثناء التشريعي الصريح يكرس الوضع القانوني المتفرد لهذه الفئة من المجتمع المغربي الذي تزخر بتراكمات تنظيمية تشريعية وقضائية تاريخية تعكس الغنى الروحي والثقافي الكبير في تنوعه وتعدده.
ويستمد التشريع القضائي العبري المغربي مصادره فضلا عن التوراة والتّلمود، من قوانين ذات طبيعة مغربية صرفة، سبق لأحبار يهود مغاربة أن سطروها، وفق ما تقتضيه خصوصية تطبيق الديانة اليهودية بالمغرب، لكونها تتفرع عن معاملات شرعية يهودية مغربية غاية في التفرد، وتكشف الوجه الأخر لتميز هذه الفئة من المجتمع المغربي.
كما عرف القضاء العبري المغربي في مجال الأحوال الشخصية تطورا بسبب وفود بعض اليهود الإسبان المعروفين “بالميكوراشيم” إلى المغرب الذين بادروا إلى إدخال بعض التعديلات على النصوص المنظمة لهذا المجال.
وهنا نخلص إلى القول أن ” الطاكونيت ” كاجتهاد قضائي عبري مغربي قد ضيق من إمكانية تعدد الزوجات بشروط مشابهة – إلى حد ما – لما تضمنته مدونة الأسرة المغربية من تعديلات خصوصا المواد من 40 إلى 44 ذات الصلة باشتراط العدل بين الزوجات وضرورة توفر الراغب في التعدد على الموارد الكافية لإعانة الأسرتين من نفقة وإسكان ومساواة في جميع أوجه الحياة، وصلاحية المحكمة بعدم الإذن بالتعدد إلا إذا ثبت لها مبرره الموضوعي الاستثنائي وتوفرت شروطه الشرعية مع تقييده بشروط لفائدة المتزوج عليها.
ثانيا: في تنظيم المحاكم العبرية وتسيير العمل أمامها
بعد إلغاء كل المحاكم الدينية المسلمة منها واليهودية بمقتضى قانون توحيد القضاء والمغربة والتعريب بتاريخ 26 يناير 1965 بادر المواطنون المغاربة اليهود إلى حل نزاعاتهم المدنية إلى المحاكم العادية امام المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف والمجلس الأعلى وفق القانون المغربي.
ومعلوم ان مجال اختصاص الغرفة العبرية بالدار البيضاء يتعلق بجميع القضايا ذات الصبغة الشرعية التي يكون أطرافها يهودا يحملون الجنسية المغربية، من قبيل الزواج والطلاق وأحكام النفقة والإرث والوصية، وهي مواضيع ذات طابع فقهي يهودي محض، هذا الأمر يجعل جميع قضاتها من كبار الحاخامات والأحبار اليهود في المغرب.
وتضم الغرفة خمسة قضاة كلهم أحبار لهم تكوين ديني يهودي بالمغرب ويعينون بظهير. هذا فضلا على أن الغرفة العبرية بالبيضاء هي الوحيدة في العالم التي تطبق القانون العبري علما بأن إسرائيل تعمل بالقانون المدني المطبق من طرف قضاة مدنيين.
بالإضافة إلى القضاة تتوفر الغرفة العبرية على خمسة عدول لديهم تكوين عدلي ديني يهودي مغربي، ولهم أماكن خاصة داخل الأحياء التي يقطن بها المغاربة اليهود بشكل مكثف . وتتجلى مهمتهم في كتابة المحررات القضائية الشرعية مثل عقود الهبة والوصية والإراثة. هذه المحررات العبرية يتكلف القضاة الأحبار بترجمتها.
إلى جانب العدول العبريين المعتنقين للديانة اليهودية، يوجد محامون يهود مختصون في الأحكام القضائية العبرية، يوفرون خدمة الدفاع عن المغاربة اليهود المتقاضيين، غير أن الغرفة العبرية لا تشترط في المحامين أن يكونوا يهودا، وهو ما يتيح للعديد من المحامين العاديين إمكانية الترافع في قضايا معروضة على الغرفة العبرية.
وختاما، ينبغي التأكيد على أن القانون العبري، باعتباره مكونا أساسيا في التشريع المغربي، يعطي النظام القانوني والقضائي الوطني تفرده وريادته على المستوى العالمي، في ظل عدالة عبرية خاصة باليهود المغاربة تنسجم مع الاستثناء التشريعي الوارد ضمن مقتضيات المادة الثانية من مدونة الأسرة الجديدة، وتؤكد على أن اليهود المغاربة كانوا دائما ولا زالوا أحد روافد الهوية والثقافة المغربية، التي ترتكز على قيم الود والتعايش والتسامح في مغرب الأمن والاستقرار، والنماء والازدهار، الذي يقوده برؤية حكيمة ومتبصرة، مولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية دام له العز والنصر والتمكين.