التدخل القضائي في تغطية النقص التشريعي
“قواعد المطل نموذجا”
معاذ فخصي
تقديم
إن علاقة جهاز القضاء بالنصوص القانونية علاقة وطيدة، قوامها التماسك والتكامل، حيث أن النص القانوني الدولتي الصادر من الجهة المخول لها مهمة التشريع، لا يمكن تحريكه وتطبيقه إلا بواسطة الجهة القضائية التي تفصل في النزاع وفق معانيه ومضامينه.
من هذا المنطلق، يلعب القضاء في علاقته بالقانون ثلاث أدوار رئيسية، الدور الأول يتمثل في تطبيق القانون إما بالمطالبة بذلك والحرص عليه، والحديث هنا عن قضاء النيابة العامة، أو بتفعيله وإنزاله عن طريق قضاء الحكم، أما الدور الثاني فيتمثل في تفسير النص القانوني وتوضيحه، والذي غالبا ما تقوم به محكمة النقض في إطار ما يسمى بالاجتهاد القضائي، أما الدور الثالث فهو تغطية النقص التشريعي النصي للقانون، وذلك عندما يلاحظ القاضي أن هذا النص القانوني ينقصه شيء ما، نتيجة لتواثر وتوالي الإشكاليات التي يطرحها يوميا والحقوق التي تضيع بموجبه، فيتدخل القضاء كآلية وقائية مؤقتة ليطبق قواعد اجتهادية شخصية، قد تختلف من محكمة لأخرى، ومن مرتبة لأخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، نذكر منها مثلا المادة 62 من مدونة الشغل وما أفرزته من إشكالات عملية بسبب النقوص و العيوب اللفظية التي شابت هذه المادة، وكيف تدخل القضاء لإقرار شكليات ومضامين غطى معها على هذا النقض التشريعي، قس على ذلك الفصل 264 من ق.ل.ع وكيف كان يتدخل القضاء قبل إضافة فقرة لذلك الفصل، في الإنقاص من التعويض الاتفاقي إن كان مبالغا فيه، والزيادة فيه إذا كان زهيدا، وموضوع دراستنا يتمحور حول مظهر آخر من مظاهر تدخل القضاء لسد ثغرات ونقوص نصية تشريعية، المتمثل في القواعد المنظمة لمطل المدين والدائن كسبب من أسباب المطالبة بالفسخ أوالتنفيذ العيني الجبري والتعويض في الحالتين، حيث أن الواقع العملي والتعامل القضائي مع واقعة المطل، يجعلنا نقر بقاعدة أساسية ومهمة مفادها أن للمطل طبيعة قضائية أكثر منها قانونية، إذ أن دور القضاء في تحديد واقعة المطل ووصولها حاضرة وبقوة.
من هذا المنطلق يمكن طرح الإشكال العام والمتمثل في مدى حضور الدور القضائي في السمو عن القواعد القانونية المؤطرة لواقعة المطل؟ وتنبثق عن هذه الإشكالية المحورية تساؤلات فرعية تتمثل في ماهية المطل وحالاته، وأهم الآثار التي ينتجها؟ وأهم النواقص التشريعية في النصوص المؤطرة للمطل؟ وما هي تمثلات تدخل القضاء لسد ثغراتها؟
وفي جوابنا عن كل هذه التساؤلات القانونية الشائكة والجديرة بالنقاش نقترح التصميم الآتي:
المبحث الأول: قراءة في القواعد العامة للمطل.
المبحث الثاني: مظاهر النقوص النصية لقواعد المطل وتمثلات تدخل القضاء لسدها.
المبحث الأول
القواعد العامة للمطل
إنه وقبل الدخول والتعمق في إشكالية الموضوع الأساسية، وجب أولا وبالأساس الحديث عن القواعد العامة للمطل، لما شهدته هذه المؤسسة القانونية من تهميش ولامبالاة علمية، حيث لا نكاد نجد في مختلف وأغلب الكتب القانونية بل في أمهاتها، حضورا لكتابات تعنى بدراسة واقعة المطل وتحليل الفصول المؤطرة لها، وقس على ذلك المحاور الأكاديمية في الجامعات والكليات الحقوقية. وعموما فلا بد من تحديد ولو بإيجاز، ماهية المطل وأنواعه وحالاته (المطلب الأول) ثم أهم الآثار والنتائج القانونية التي يخلفها (المطلب الثاني).
المطلب الأول
ماهية المطل وحالاته
يختلف تعريف المطل باختلاف مركز المعني به، (الفقرة الأولى) كما تتعدد حالاته بتعدد مراكز المعني به أيضا (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى
تعريف المطل
المطل نتيجة من نتائج الإخلال بمبادئ متجذرة، على رأسها مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، ومبدأ حسن النية، والمطل في اللغة مفاده التسويف و التأخر.
أما اصطلاحا فقد استعمله الفقه الإسلامي تعبيرا عن تأخر المدين في تنفيذ التزامه، أما المطل في القانون، فالخطأ الشائع هو اعتبار المشرع المغربي قد عرف المطل في الفصل 254، وهذا خطأ، حيث أن الفصل 254 قد عرض فقط لحالات مطل المدين، ولم يعرفه تعريفا جامعا مانعا، ولتعريف واقعة المطل، وجب النظر إليها من زاويتين، زاوية المدين وزاوية الدائن، أما زاوية المدين والتي أطرها الفصل 254 وما يليه، يمكن تعريفه من خلالها أنها الواقعة المترتبة عن التأخر في تنفيذ الالتزام كليا أو جزئيا من غير سبب مقبول يمكن أن يحتج به قضاء. أما الزاوية الثانية وهي زاوية الدائن فقد أطرها المشرع في الفصل 270 وما يليه، ويمكن تعريفه من خلالها أنها الواقعة التي تنشأ من خلال رفض الدائن استيفاء الأداء المعروض عليه وفق الكيفية المحددة في السند المنشئ للالتزام، دون سبب مقبول يمكن أن يحتج به قضاء.
وقد يختلط المطل مع عدم التنفيذ وحالاته، وكثير من يذهب في توجه الخلط بينهما وإعطاءهما نفس الرتبة و المعنى، غير أنه ومن وجهة نظرنا المتواضعة نقول، أن المطل وعدم التنفيذ مختلفا المعنى، فعدم التنفيذ مصطلح عام شامل لحالات متعددة أعم وأشمل من واقعة المطل، فالممتنع عن التنفيذ لسبب مقبول هو لم ينفذ التزامه نعم، لكنه لا يعتبر في حالة مطل بمدلول الفصل 254، وقس على ذلك الحادث الفجائي و القوة القاهرة، فيمكن ونتاجا لذلك أن نكون أمام عدم التنفيذ من دون أن نكون أمام حالة مطل، مما يضرب وبالملموس التوجه القائل بالجمع في المعنى بين المطل وعدم التنفيذ.
الفقرة الثانية
حالات المطل
للمطل حالات مختلفة تحدده، ولتحديدها بدقة ووضوح، وجب تقسيمها إلى حالات مطل المدين وحالات مطل الدائن.
فبالنسبة لمطل المدين فقد حددت حالاته وفق المادة 254و355 من ق.ل.ع، هذه الحالات يختلف تحققها على حسب طبيعة الالتزام، هل هو مقترن بأجل أم غير مقترن بأجل، فإن كان الالتزام مقترنا بأجل، فيتحقق المطل عند تأخر المدين عن تنفيذ التزامه كليا أو جزئيا، مع مباشرة بعد حلول الأجل المتفق عليه، وذلك من دون أي سبب مقبول، والسبب المقبول هذا سيكون من مظاهر تدخل القضاء، والذي سنخصص له المبحث الثاني من المقال، وعموما فإذا تأخر المدين عن تنفيذ التزامه ووصل ذلك الأجل المحدد عقدا، فإنه يصبح والحالة هذه في حالة مطل منتجة لآثارها الخطيرة، وكمثال لذلك، إن تعاقد عمر مع زيد على اكتراء عمر من زيد مقهى بصيغة عقد التسيير الحر للأصل التجاري بثمن معين وأجرة على رأس كل شهر، فتأخر عمر على زيد في الأداء، فهو والحالة هذه يعتبر متماطلا بمفهوم الفصل 254 و 255 من ق.ل.ع.
أما إذا كان الالتزام غير مقترن بأجل، فالأصل في التنفيذ في هذا النوع من الالتزام، التنفيذ الفوري الحال، ودليلنا في ذلك الفصل 127 من ق.ل.ع والذي جاء فيه “ إذا لم يحدد للوفاء بالالتزام أجل معين، وجب تنفيذه حالا ما لم ينتج الأجل من طبيعة الالتزام أو من طريقة تنفيذه أو من المكان المعين لهذا التنفيذ”. فالالتزام الغير المحدد الأجل إذن، ينفذ حالا وفورا، غير أن عدم التنفيذ الفوري لا يترتب عنه قيام حالة المطل إلا إذا وجه لصاحبه إنذار صريح بالوفاء بالدين، وفقا لشكليات وطرق حددها الفصل 255 من ق.ل.ع. ومؤسسة الإنذار هذه هي كذلك من المظاهر الأساسية التي تدخل القضاء لتأطيرها كسد لنقص تشريعي مهول كان يخصها، وسنتناولها بدقة ووضوح في المبحث الثاني. وعموما فإن الالتزامات الغير المحددة الأجل والتي وجه فيها إنذار بالوفاء، يتحقق فيها المطل بعد مضي الأجل المحدد في الإنذار، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستثناءات المنصوص عليها في الفصل 256و257 من ق.ل.ع.
والحاصل أن المدين المتأخر في تنفيذ التزامه من غير سبب مقبول يعد في حالة مطل بحلول الأجل المقرر إذا كان هذا الالتزام مرتبط بأجل، أو بتوجيهه لإنذار قانوني إذا تعلق الأمر بالتزام غير مرتبط بأجل مع مراعاة الاستثناءات الواردة في القانون.[1]
هذا عن مطل المدين، أما عن مطل الدائن فقد يكون هو أيضا في حالة مطل، فتنقلب نتائج المطل من يد الدائن إلى يد المدين، ويكون ذلك في حالة رغبة المدين أداء ما عليه مقابل امتناع الدائن من قبول الوفاء بذلك من غير مبرر مقبول، ويكون ذلك غالبا في الحالة التي يتراجع فيها الدائن عن رغبته في التعاقد وإبرام ذلك التصرف لسبب من الأسباب، كتوصل بعرض أفضل من عرض المتعاقد الأول، فيمتنع عن تسلم الثمن مثلا في عقد البيع، ليطالب بعد ذلك بتحقق المطل من جانب المدين ومن تم وبالتبعية يطالب بفسخ العقد كجزاء لوقوع واقعة المطل، فيتحلل من الالتزام، غير أنه و الحالة هذه، سيسقط هذا الدائن أولا في فخ أن تسلم الثمن من التزامات البائع في عقد البيع، إضافة إلى فخ وقوعه في حالة مطل بسبب امتناعه عن تسلم الثمن، فجاء في الفصل 270 من ق.ل.ع ما يلي: ” يكون الدائن في حالة مطل إذا رفض دون سبب معتبر قانونا استيفاء الأداء المعروض عليه من المدين أو من شخص آخر يعمل باسمه على الكيفية المحددة السند المنشئ للالتزام أو التي تقتضيها طبيعته.
سكوت الدائن أو غيابه عندما تكون مشاركته ضرورية لتنفيذ الالتزام يعتبر رفضا منه”.
وذلك كله مع مراعاة استثناءات أساسية نصت عليها المادة 271،272 من ق.ل.ع وقس على ذلك مسطرة العرض والإيداع بشروطها وأحكامها وإجراءاتها إذا كان المحل مبلغا نقديا والمنصوص عليها في الفصل 275 وما يليه من ق.ل.ع.
كما يكون الدائن في حالة مطل عند امتناعه عن أداء التزام مقابل محدد وفق السند المنشئ للالتزام، فهو موقف سلبي منه ينتج عنه تبوث واقعة المطل شأنه في ذلك شأن المدين، ويكون ذلك غالبا في إطار ما يسمى بالالتزامات المتقابلة.
المطلب الثاني
آثار المطل
لا يمكن الحديث عن المطل دون الحديث عن آثاره ولو بإيجاز كبير، فالأهم في تحقق واقعة المطل سواء من جانب الدائن أو المدين هو الآثار التي يرتبها و الحقوق والآليات التي يعطيها لصاحب الحق في استعمالها.
وعموما فقد جاء في الفصل 259 من ق.ل.ع ما يلي: ” إذا كان المدين في حالة مطل كان للدائن الحق في إجباره على تنفيذ الالتزام، مادام تنفيذه ممكنا، فإن لم يكن ممكنا جاز للدائن أن يطلب فسخ العقد، وله الحق في التعويض في الحالتين”. انطلاقا من هذا الفصل، فآثار المطل اتجاه الدائن تتمثل في التنفيذ العيني الجبري أولا، ثم الفسخ إن لم يكن التنفيذ العيني ممكنا، ويقوم الحق في التعويض في الحالتين معا.
بالنسبة للتنفيذ العيني الجبري، فهو حق للدائن في اللجوء إلى الطرق التي أقرها القانون لتنفيذ التزاماته جبرا على المدين، فمادام التنفيذ ممكنا، فيجوز للدائن جبر مدينه على التنفيذ وفقط شروط وطرق ووسائل محددة قانونا، ويشترط لقيام التنفيذ الجبري العيني أن يكون القيام بالتنفيذ ممكنا، وأن يتم ذلك بطلب من الدائن أو المدين، وأن يقوم الدائن بإنذار المدين بالتنفيذ العيني.
أما الوسائل القانونية المحددة لقيام التنفيذ، فتتمثل في الغرامة التهديدية من خلال صدور حكم يلزم المدين بتنفيذ التزامه عينا في مدة محددة، وإذا تأخر في التنفيذ كان ملزما بدفع غرامة عن كل يوم أو أسبوع أو شهر تأخير حسب الأحوال. ومن الوسائل أيضا الإكراه البدني، ويتمثل في حبس المدين مدة معينة بهدف دفعه إلى البحث الجدي عن الإمكانيات الكفيلة بتأمين أداء دينه، أو هو إكراه المدين على تنفيذ التزامه عن طريق الضغط على إرادته بحبسه حتى يمتثل[2]
وتبقى الحجوز من أهم الوسائل القانونية لجبر المدين عن التنفيذ، وذلك بعد صدور حكم قضائي بالتنفيذ فيطالب الدائن آنذاك بإيقاع الحجز بأنواعه وأحكامه على أموال الدائن لاستيفاء مبلغه.
ومن آثار المطل الأساسية أيضا مؤسسة الفسخ، فالأصل كما بينا هو الإجبار على التنفيذ، لكن الرتبة الثانية أعطاها المشرع للفسخ، وذلك بالأساس في الحالة التي يكون فيها التنفيذ غير ممكن، فمن حق الدائن هنا المطالبة بفسخ العقد بعلة وقوع واقعة المطل، فالفسخ بهذا المعنى جزاء مدني يضع حدا للعلاقة العقدية نتيجة الإخلال بمقتضيات الاتفاق المقرر في السند المنشئ للالتزام، ويتمحور الفسخ الناتج عن واقعة المطل أساسا في الفسخ القضائي، وذلك بمدلول الفصل 259من ق.ل.ع و الذي جاء في فقرته الأخيرة “ لا يقع الفسخ بقوة القانون وإنما يجب أن تحكم به المحكمة” وذلك كقاعدة عامة، لكن يمكن أن يتمحور ضمن الفسخ الاتفاقي في الحالة التي يتفق فيها الطرفان عقدا على فسخ العقد بقوة القانون في حالة عدم التنفيذ أو التأخر فيه كما هو مبين صراحة في الفصل 260 من ق.ل.ع. ويشترط في الفسخ أن يكون العقد ملزما للجانبين وأن يخل أحد الطرفين بالتزاماته، وأن يكون طالب الفسخ قد نفذ التزاماته الواقعة عليه أو مستعد لتنفيذها.
أما عن التعويض فهو حق ومكنة يمكن أن يطالب به في الحالتين معا سواء في الفسخ أو التنفيذ العيني الجبري.
المبحث الثاني
مظاهر النقوص النصية وتمثلات تدخل القضاء لسدها.
بعد هذه التوطئة الوجيزة لواقعة المطل، من توضيح لماهيته وحالاته وآثاره، سنحاول الآن تبيان أهم مظاهر النقص التشريعي المؤطر للمطل، وكيف تدخل القضاء لحلها وتجاوزها والخروج عن النص فيها، ومنها ما تم تداركه وفق نصوص خاصة، ومنها مازال اليوم على حاله في غموض وتضارب واضح بين النص القانوني و للعمل القضائي.
المطلب الأول
مؤسسة الإنذار بين النص التشريعي والعمل القضائي
إن المشرع وهو يحاول الحفاظ على الغاية و السببية من وراء إنشاء ذلك الالتزام، والذي يتمثل في وصول المتعاقدين لتنفيذ ذلك العقد واستفاء كل منهما ما في صالحه من منفعة أو مال أو غيرهما، كان لزاما عليه وضع قواعد ومقتضيات يغلب فيها القوة القانونية النصية عن الارادة الشخصية للمتعاقدين، ونذكر هنا مهلة الميسرة، والآجال المتعددة واستثناءات مبدأ النسبية وغيرها، ومن صور وتجليات رغبة المشرع في الحفاظ على المعاملات مؤسسة الإنذار.
والإنذار في معناه الدقيق تعبير صريح عن إرادة الدائن الذي يطلب تنفيذ الأداءات المستحقة له، ومن تم فهو وسيلة لإتباث مطل الطرف المتخلف عن تنفيذ التزامه. ويعتبر الإنذار الوسيلة الأسمى لإتباث واقعة التماطل سواء كان الالتزام محدد الأجل ام غير مقترنا بأجل، وقد وضع المشرع للإنذار ضوابط وشكليات تختلف باختلاف محله، كما حدد الفصل 255 من ق.ل.ع شكليات الإنذار الموجب لإتباث حالة المطل وطرق تبليغه التي وسعها رغبة في الوصول للغاية السالفة الذكر، والأساس عندنا هو توضيح ذلك التضارب ما بين النص و الواقع العملي والقضائي، فبالرجوع إلى النص القانوني وبالضبط الفصل 255 نجده ينص على ما يلي “يصبح المدين في حالة مطل بمجرد حلول الأجل المقرر في السند المنشئ للالتزام فإن لم يعين للالتزام أجل، لم يعتبر المدين في حالة مطل، إلا بعد أن يوجه إليه أو إلى نائبه القانوني إنذار صريح بوفاء الدين …”ومفاد ذلك أن تحقق حالة المطل، تكون في الالتزامات المحددة الأجل مباشرة بعد وصول الأجل المحدد من دون التنفيذ الكلي لذلك الالتزام، وهذا أمر فيه نقاش وجدل كبيرين، حيث يصطدم غالبا مع قواعد مترسخة تجعل منه فارغا من محتواه، خاصة في بعض الالتزامات المحددة الأجل دون غيرها، فالواقع العملي والقضائي، بل وحتى المنطق يفرض ضرورة توجيه إنذار صريح محدد لأجل معين كتبليغ وإعذار من الدائن للمدين بتنفيذ التزامه أولا، ثم بعد امتناعه يتحقق واقعة المطل وتقوم، وذلك بغض النظر عن طبيعة الالتزام هل هو مقترن بأجل أم لا، فكيف يعقل أن يؤدي المدين التزامه بعد يومين أو ثلاث من الوقت المحدد ليصطدم بجزاءات قاسية تصل إلى الفسخ و التعويض، كما أن افتراض حسن النية كمبدأ عام يجعل من هذا المدين محميا بغطاء هذا المبدأ ما لم يتبث العكس، وحل هذا كله وتجاوزه يقوم بإسقاط مؤسسة الإنذار كضابط أساس، فالمشرع المغربي كرس ذلك في الالتزامات الغير المقترنة بأجل، وجعل من الإنذار شرطا أساسي لوقوع حالة المطل، عكس الالتزامات المحددة الأجل، وهو ما نتحفظ عنه من وجهة نظرنا الخاصة، خاصة في بعض الأنواع من العقود التي يكون الالتزام فيها محدد الأجل وتستوجب الإنذار، وعلى رأسها عقد الكراء، فالقاعدة العامة الحاكمة للكراء هو “أن الكراء مطلوب لا محمول”، ومفاد ذلك أن المكري وجبه طلب الوجيبة الكرائية لا أن ينتظر المكتري لاستيفاءها، فهو التزام مطلوب وليس محمول، وتعتبر النفقة أهم صورة من صور الالتزام المحمول، والتي يقع على عاتق الزوج أداءها من دون استمرار المطالبة بها من طرف الزوجة، وبذلك فالطريقة الوحيدة لتكريس قاعدة أن الكراء مطلوب لا محمول هي الإنذار. وبشأن ذلك اعترف القضاء أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة ورتبة بأن الكراء لتحققه وجب ضرورة توجبه إنذار للأداء رغم وصول الأجل المحدد، فجاء في قرار للمجلس الأعلى محكمة النقض حاليا ” أن المكتري يصبح في حالة مطل إذا توصل بالإنذار ولم يؤدي ما بذمته خلال الأجل المحدد”[3]، وتضاربت محكمة النقض مع نفسها قرار آخر واعتبرت “أنه وطبقا للفصلين 254و255 فإن المشتري أصبح في حالة مطل بمجرد عدم أداء بقية الثمن في الأجل المتفق عليه من دون ضرورة سابق إنذار”[4]
لكن التوجه الأساس و المجمع عليه هو اشتراط الإنذار في الالتزامين سواء المقترن بأجل أو الغير المقترن بأجل، فجاء في قرار لمحكمة الاستئناف بتازة ما يلي ” وحيث إن ما عابه الطاعن على الحكم الابتدائي يبقى غير منتج، ذلك لأن أداء الكراء من الواجبات الملقاة على عاتق المكتري، وأن حصول التبليغ بشأن إنذار الأداء والذي لا ينكره الطاعن يبقى التماطل على ضوءه تابثا، ومن ثم تبقى الاستجابة لفسخ علاقة الكراء قائمة، وهو ما استجاب إليها الحكم الابتدائي وكان على صواب[5]، فاستدلت المحكمة هنا بتبوث واقعة التماطل وقيامها ليس بوصول الأجل، بل بتوجبه إنذار أقر الطاعن توصله به.
من خلال كل ذلك يتضح أن ما بين النص القانوني و العمل القضائي تناقض و تضارب، وقد انتبه المشرع لذلك وكرس التوجه القضائي الغالب، وغلب المنطق على النص، فاعترف في القوانين الخاصة الصادرة حديثا ونخص بالذكر القانون 49.16 المتعلق بكراء العقارات أو المحلات المخصصة للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي، والقانون رقم 67.12 المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري والمكتري للمحلات المعدة لسكنى أو الاستعمال المهني. فجاء في الفصل 23 من القانون 67.12 ما يلي “يمكن للمكري في حالة عدم أداء وجيبة الكراء والتكاليف التابعة لها المستحقة، أن يطلب من رئيس المحكمة الابتدائية الإذن له بتوجيه إنذار بالأداء إلى المكتري. « وجاء في المادة 25 من نفس القانون ما يلي “يحدد الإنذار أجلا لا يقل عن خمسة عشر يوما يبتدئ من تاريخ تبليغ الإنذار لتسديد المكتري ما عليه من المبالغ غير المؤداة إما مباشرة بين يدي المكري أو من ينوب عنه مقابل وصل، أو وضعها بحسابه البنكي أو بإيداعها بصندوق المحكمة أو بأي وسيلة تثبت الأداء وتاريخه.” ، كما جاء في المادة 33 من القانون 49.16 ما يلي “في حالة عدم أداء المكتري لواجبات الكراء لمدة ثلاثة أشهر، يجوز للمكري، كلما تضمن عقد الكراء شرطا فاسخا، وبعد توجيه إنذار بالأداء يبقى دون جدوى، بعد انصرام أجل 15 يوما من تاريخ التوصل، أن يتقدم بطلب أمام قاضي الأمور المستعجلة، لمعاينة تحقق الشرط الفاسخ وإرجاع العقار أو المحل.” ليصبح الإنذار شرط صحة لقيام حالة المطل، ولو في هذا النوع من العقود التي تعتبر أهم صورة من صور الالتزامات المقترنة بأجل، في ضرب صريح للفصل 255 من ق.ل.ع، وتنويه واضح للعمل القضائي وتكريس لمبادئه. وبذلك فالالتزام المحدد الأجل وخاصة في عقد الكراء يتحقق المطل فيه بعد توجيه المكتري للمكري إنذارا بالأداء.
وتجدر الإشارة إلى أن التنفيذ الجزئي داخل الأجل لا يطيح بواقعة التماطل بل تبقى قائمة ومنتجة، والمعتقد أن الوفاء داخل الأجل بجزء من الالتزام ينفي واقعة التماطل اعتقاده خاطئ ومخطئ لإرادة المشرع. وهي من الأمور التي تدخلت محكمة النقض في توضيحها.
المطلب الثاني
السبب المقبول بين الغموض النصي والتوضيح القضائي.
جاءت عبارة السبب المقبول في الفصل 254، حيث نص الفصل على أنه “يكون المدين في حالة مطل، إذا تأخر عن تنفيذ التزامه كليا أو جزئيا من غير سبب مقبول” فجاءت عبارة السبب المقبول لتحمل في طياتها عبئا وأثرا كبيرا. حيث وبمعنى المخالفة إن توفر للمدين سبب مقبول سيزول مع ذلك احتمال وقوعه في خالة مطل ويزول معه كل الآثار والنتائج المترتبة عن ذلك، من تنفيذ عيني وفسخ وتعويض، ورغم ما لهذا الفصل وهذه العبارة من أثر فعبارة السبب المقبول جاءت مرنة وفضفاضة، ولم يخصص المشرع لها شرحا واضحا، خاصة أنه في مقابل الأسباب الارادية للمطل هناك الأسباب الغير الارداية، والتي تتمثل في الحادث الفجائي و القوة القاهرة، مما دفع البعض إلى تكييف عبارة السبب المقبول بوجود حادث فجائي أو قوة قاهرة، غير أن هذا القول ومن وجهة نظرنا المتواضعة هو قول ضيق، إذ أن المشرع وفي نصوص ق.ل.ع عندما يتحدث عن استثناء القوة القاهرة والحادث الفجائي يذكر ذلك بصريح العبارة، كما أنه وإن كان يدخل في عبارة السبب المقبول ذلك فهو تحصيل حاصل ، لأن المشرع نظمها نصا، واعتبرها سببا من أسباب انتفاء المسؤولية والتعويض[6]، وبذلك فعبارة السبب المقبول تحمل في طياتها العديد من الأسرار الغامضة التي يمكن استخراجها منها، مما يوحي إلى نقص تشريعي في هذه المسألة، لأجل ذلك تدخل القضاء لتغطية هذا النقص ليوضح ويفسر المدلول الواسع لعبارة السبب المقبول الواردة في الفصل 254 من ق.ل.ع، ويكرس من جديد خلاصة أن للمطل طبيعة قضائية أكثر منها قانونية، فعبارة السبب المقبول تبقى خاضعة للوقائع والسلطة التقديرية للمحكمة، وغالبا ما يكون تفسيرها له علاقة بعنصر الزمن ووقت التنفيذ، حيث اعتبرت المحكمة التجارية في حكم فريد لها أن المكتري الذي أدى السومة الكرائية خارج الأجل الوارد في الإنذار بمدة وجيزة جدا، لا يتحققه معه التماطل وهو سبب مقبول لدفعه، فإن نحن اتبعنا قواعد المطل فالأجل قد حل، بل إن الإنذار قد وجه كتكريس لما سبق توضيحه، وبذلك تقع واقعة التماطل، لكن تمسك المدعى عليه بدفع المطل بعلة أنه أدى التزامه مباشرة بعد مضي يومين مثلا من انتهاء الأجل المحدد في الإنذار هو سبب مقبول دافع لنفي التماطل عليه.
خاتمة.
إن تحقق الأمن القانوني رهين بالتدخل القضائي في توضيح وتفسير الغموض الذي يصيب بعض النصوص القانونية، فيلعب القاضي دور الموضح والمفسر والمنبه للمشرع بأن هذا الفصل أو ذاك يزعزع شيئا ما مبدأ الأمن القانوني، ليصبح وتبعا لهذا المبدأ لزاما على المشرع تعديل هذه الفصول وتوضيحها وفقا للتوجه القضائي ونتائجه، وهذا التعديل يعزز ويمهد لتحقيق مبدأ آخر يتمثل في الأمن القضائي، حيث يصير ذلك التوجه الذي آل أليه القضاء ملزما لجميع القضاة بعد تأطيره وتقنينه نصا، وتعتبر قواعد المطل أهم تجلي لذلك، فإحجام بعض النصوص القانونية المؤطرة له على توضيح وتكريس بعض المبادئ المنبثقة من الواقع جعلنا نؤكد على قاعدة أساسية أدرجناها في التقديم وكذا في صلب المقال ونختم بها مقالنا، مفادها ” أن للمطل طبيعة قضائية أكثر منها قانونية”.
[1] – الأستاذة فاطمة لبزور، المطل في تنفيذ الالتزام في القانون المدني والعمل القضائي، بحث نهاية تمرين الملحقين القضائيين فترة التدريب 2011-2013 ص 26.
[2] – سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني،2، في الالتزامات، المجلد الرابع، أحكام الالتزام، مطبعة السلام القاهرة 1992 ص 120.
[3] – قرار محكمة النقض بتاريخ 12 يونيو 1989، مجلة القضاء والقانون، عدد 42و43 سنة 1989 ص 17.
[4] – محكمة النقض الغرفة المدنية، القرار رقم 1177 يناير 88/4/27 الصادر في الملف المدني عدد 98021، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 43/42 نونبر 1998 ص17
[5] – قرار عدد 277، صادر عن محكمة الاستئناف بتازة، بتاريخ 2011/09/02 الغرفة المدنية عدد 2011/235، منشور ببحث نهاية التمرين للملحقة فاطمة لبزور (مرجع سابق) ص 25
[6] – انظر الفصل 268 من ق.ل.ع