قرصنة البث التلفزي لمباريات كرة القدم.. بين الممنوع قانونا والمباح مجتمعيا
مع اقتراب حلول نهائيات كأس العالم لكرة القدم، تتسابق قنوات تلفزيونية للحصول على حقوق بث المباريات من الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”، فيما تلجأ قنوات مجهولة غير تابعة لأي جهة إعلامية رسمية وكذا بعض المواقع الإلكترونية والتطبيقات، إلى قرصنة البث وعرض المباريات بشكل غير قانوني.
ولابد أن نؤكد بداية أن هذه القرصنة قد تبدو في نظر بعض متابعي كرة القدم من المجتمعات التي تعاني من الفقر، والتي لا تستطيع الاشتراك في بعض الباقات، أمرا جيدا باعتبار أن كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في العالم و تمثل متنفسا لهم خاصة في حالة تأهل منتخبات بلدانهم، حيث يستندون إلى ما يعتبرونه “دمقرطة الفرجة ومحاربة الاحتكار”.
ويساهم العديد من الأشخاص في عملية القرصنة هذه وتشجيعها كمستهلكين، من خلال مشاهدة المباريات على بعض المواقع أو التطبيقات، أو من خلال شراء بعض باقات تلفزيون الأي بي أو تلفزيون بروتوكول الإنترنت بأثمان زهيدة من بعض الباعة في الأسواق أو من يتاجرون في الفضاء السيبراني، دون أن يعوا بأن ذلك يعد جريمة ذات أبعاد تجارية، اقتصادية ودولية.
إن وضع إطار قانوني لهذا الموضوع يحتم الغوص في بحر القانون الدولي العام، من اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة، واتفاقيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، نذكر منها اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية لسنة 1886 وتعديلاتها، اتفاقية روما بشأن حماية فناني الأداء ومنتجي التسجيلات الصوتية وهيئات الإذاعة لعام 1961، اتفاقية جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة (تريبس) لسنة 1994، ومعاهدة الويبو بشأن حقوق المؤلف، فيما سنكون أمام تداخل قانوني فريد من نوعه على مستوى التشريع المغربي، القانون رقم 00-2 المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، مدونة التجارة، القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك، القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، ، قانون التبادل الإلكتروني 53.05، ومجموعة القانون الجنائي. هذه الالتقائية تحتم على كل مهتم في مجال القانون أن يكون على اطلاع بالاتفاقيات الدولية وبالقوانين الداخلية حتى لا يشكل ذلك نقصا في المعرفة القانونية خاصة أننا نعيش في عصر تكنولوجي بامتياز، عصر تزدهر فيه التجارة الدولية وتنتشر فيه باقات الترفيه أكثر من أي وقت مضى، مما سيولد نوعا من المنازعات التي لا تحتاج فقط إلى قانونيين متمرسين، وإنما إلى قانونيين خبراء في الاقتصاد والتجارة وفي الفضاء السيبراني.
ولابد أن نشير في هذا الباب إلى صورة من صور المنازعات الواقعية القائمة، ولا نجد أفضل من القضية التي راجت بين السعودية وقطر حول حقوق بث مباريات كرة القدم والتي انتهت بإصدار حكم من منظمة التجارة العالمية، وهو النزاع الذي اتخذ منحى سياسيا واقتصاديا فيما بعد.
والأمر لا يختلف في مجال صناعة الأفلام والمسلسلات، حيث نجد العديد من المواقع الإلكترونية تقرصن إنتاجات شركات عملاقة تنفق سيولة مادية ضحمة على مجال الترفيه، وهو ما يشكل منازعة إلكترونية يصعب ضبط مجالها.
إن فكرة دمقرطة الفرجة ومحاربة الاحتكار تبدو مقبولة ومستساغة من طرف المستهلكين، بدريعة أن الشخص يسعى فقط إلى الحصول على غاياته في المشاهدة والاستمتاع دون أن يؤدي اشتراكات للشركات ذات المصدر في البث أو التوزيع أو الإنتاج، ولكن القانون لا يبالي بهذه الأهواء، إذ يسعى في جوهره إلى حماية الحقوق وعدم المساس بها، وهذا ما يقودنا إلى اصطدام بين المباح مجتمعيا والممنوع قانونا، قرصنة البث التلفزي لمباريات كرة القدم أنموذجا. فإلى أي حد يمكن لسلطان النصوص القانونية أن يساهم في التصدي لظاهرة قرصنة البث التلفزي أمام تفشي فكرة دمقرطة الفرجة لدى العامة؟
مما لاشك فيه، يشكل القانون في شقه الردعي ردة فعل من المشرع على الأفعال التي لا تحظى بقبول من أفراد المجتمع والتي تكون منافية للأخلاق الحميدة، حيث أن القانون في أصله يأتي من المجتمع ويعود إليه. وتنظيم المشرع للحق والواجب هو أمر قد يبدو سهلا في الوهلة الأولى، إلا أن تفاعل واستجابة المخاطبين بالقانون قد تعترضه بعض الأفكار التي تحمل في طياتها مصالح ذاتية دون مراعاة حقوق الآخرين، ودون الوعي بأن التمتع ببعض الأمور غير المخولة قانونا يشكل اعتداء على حق الآخر، وسيكون من ضرب الخيال القول بأن وجود النص القانوني هو حل للمشكلة، بل يجب تفعيل هذا النص بصورة صارمة حتى لا يتجرأ أحد على إتيان هذا الفعل الممنوع قانونا ولو في أخف صوره، مع تقوية سبل المراقبة والمكافحة، وتفعيل آليات الحماية القانونية.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[1]. إن التمعن في هذه الآية سيقودنا إلى فكرة جوهرية وهي أنه في استهلاك المادة المقرصنة تشجيع الاعتداء على أصحاب حقوق البث التلفزي. ولتوضيح المشهد يجب طرح تساؤل ذي بعد حقوقي وأخلاقي: هل يبدو معقولا أن يتم دعم أفعال السرقة والسطو والاستيلاء؟
قد يبدو الهاجس المادي للمستهلك هو ما يدفعه إلى مشاهدة مباريات كرة القدم مجانا على بعض التطبيقات الإلكترونية أو الاشتراك بمبالغ هزيلة في باقات مقرصنة للقنوات التلفزيونية، ذلك أمام غلاء الاشتراكات في الباقات الأصلية التي تعتمد سياسة الاحتكار، ولكن التشجيع على فعل قد يحمل على كونه إرهابا اقتصاديا لن يكون أبدا شيء محمودا ولو تم تبريره بفكرة دمقرطة الفرجة ومحاربة الاحتكار.
[1] سورة البقرة، الآية 42.