الجريمة والثورة الرقمية (الجزء الأول)
ما من شك أن الثورة الرقمية التي يعرفها العالم حالا قدمت للبشرية خدمات كثيرة كنظيراتها الزراعية والصناعية والتكنولوجية، وساهمت في رفع مؤشرات السعادة بين الناس، وحققت تميزا للجنس البشري على جميع المستويات، إن في السياسة، أو الطب، أو الإدارة، أو القيادة، وفي باقي مفاصل وهياكل الأنظمة. لهذا فإن كان من اللازم الاحتفاء بحدث ما أو أمر معين ساعد الإنسانية، ونئى بها إلى معالي الإنجازات بعد الانكسارات التي لحقتها منتصف القرن الماضي، فلا نستطيع أن نرشح ونقدم غير الرقمنة والتكنولوجيا.
على ذلك؛ يسعف أي مهتم بتتبع ومواكبة السلوكات الاجتماعية التي تطبع النشاط البشري في حياته اليومية، وبما تفرضه عليه وتلزمه به الرقمنة من سهولة التحكم، وسلاسة الانتقال من فضاء إلى أخر، وتبسيط إنجاز أية عملية أو ممارسة في وقت قصير، وبتكلفة أدنى وبجهد أقل بكثير مما كان يقدم على توفيره دون الاحتكام إلى الآلة، أو اعتماد التقنية التي توفرها الرقميات. ونحن كذلك بحصرنا لهذه التسهيلات والتيسيرات التي استخصلت من نتاج التكنولوجيا لا نكون قد أتينا على جموعها وإنما بنذرها وبأقلها وببعض مما أرخت به علينا فضول المعرفة وشغف البحث.
والجريمة كغيرها من السلوكات المجتمعية استبانت تطورا في أساليبها بتطور التكنولوجيا، وارتقت مظاهرها من الجمود والتقليد إلى التجديد والمرونة، وطرحت مذاهبها ونماذجها المستحدثة على صانعيها وروادها من المجرمين فاستعانوا بأحدث الأدوات الرقمية في تنفيذهم للجريمة، حينئذ خلفوا أضرارا جسيمة وضعت جهازي الأمن والعدالة في المحك، وامتحنتهما في البداية، بل وتحدتهما تحديا نديا وعصيا، ولا أجد في علة هذ التحدي والرغبة في المبارزة الأمنية إن صح التعبير إلا يقين الجناة وإيمانهم العميق في جدارة معداتهم الرقمية وقدرتها على إخفاء هوياتهم، وأيضا سعيهم في تضليل البحث الجنائي دونما ترك أي أثر مادي أو رقمي، وبالتالي إهدار جهود الأمن ورجال النيابة العامة والقضاء في تقويم أي انحراف قد يتشكل في مشهد جريمة معينة.
إزاء هذا التهديد ذو الطابع الرقمي تسارعت جل التشريعات الجنائية إلى تعديل قوانينها الزجرية بإضافة مقتضيات تمنع الجرائم التي تنفذ بشكل إلكتروني ووضعت لها عقوبات رادعة للحد منها وتحديدها عند نشأتها مخافة نموها ونمائها وبالتالي تتعقد عملية رصدها والتصدي لها. واللافت للانتباه في هذه الحيثية أن القوانين الجديدة استهدفت أولا تجريم صنف معين من الجرائم الإلكترونية كجرائم الهجمات السبيرانية، وهي تلك الهجمات التي كانت تستهدف الأمن المعلوماتي للبنوك والشركات المالية وشركات التأمين، بمعنى أن الغاية من إنجاز هذه الجرائم هي تحصيل عائدات مالية عن طريق قرصنة الحسابات البنكية التي تمسكها تلك المؤسسات، فحينها لم يتمكن تسجيل اعتداءات إلكترونية تمس الأفراد أو تسيء إليهم إساءات جسدية أو حتى نفسية.
على أن هذه اليقظة التشريعية تلاها تنبه لأجهزة العدالة الجنائية فسابقت بدورها الزمن في تقفي الآثار الرقمية لهذه الجرائم، وانتهت الأبحاث فيها إلى وضع اليد على المتسببين في توجيه الضربات السبيرانية وحققت فيهم الجزاء الوارد في القانون. وهنا أقف عند هذا السرد وأفتح نافذة على التوقع الذي ساد بعد هذا التأطير القانوني، والشاهد عندي أن المجتمع الدولي والمغربي تحديدا أعلنا وألمحا ثقة كبيرة في قدرة الأمن والقضاء في ردعهما للجريمة الرقمية عند بداياتها، ولم يكن ليتحقق ذلك دون إعمال نفس الوسائل التي كانت في أيدي الجناة من تقنية وتمكن من برامج الرصد والتموقع وتحليل بصمة الوجه والصوت، وظن الجميع أن الجريمة الإلكترونية ستقف عند هذا الحد، وأنها سوف لن تجاوز السطو على ودائع البنوك وتحويلها لحسابات بنكية أخرى؛ لكن خلافا لهذه القراءة القاصرة وحماسها المبالغ أعلنت الجريمة الإلكترونية عن ازدهارها وإقدامها، فامتدت تنفيذاتها إلى معظم الجرائم التقليدية إلا ما نجا منها بحكم خصائص أركانها المادية التي تتطلب فعلا مباشرا من الجاني حتى تنهض هذه الجريمة أو تلك.
موازاة لهذا التغير في نمط التعامل مع هذا الوجه الجديد للجريمة الذي انكب على أحدث المنجزات في عالم التكنولوجيا ولم يعب منها للأسف – أي الجريمة الرقمية – غير أدوات التوجيه مثلما هو في التجسس والتتبع غرضا في الإيلام بالضحايا والتشهير بهم، واختراق حياتهم وبيئتهم الخاصة والجهر بها علنا تحت وطأة التهديد والتخويف، وبمقابله ظهرت بعد بروز هذه اللوثة الجرمية تفسيرات وتأويلات جنائية تروم إحداث تصنيف جديد للجرائم من حيث طرق اقترافها، فوقع التمييز بين الجريمة المباشرة والجريمة غير المباشرة، فالأولى تستدعي تدخلا للجاني أو الجانح بالقول أو الفعل أو حتى بالامتناع وفق حالاته القانونية، أما الثانية فلا تتطلب حضور المجرم وتقابله مع الضحية حتى يحدث فيه فعلته بل يكفي فيه إخضاعه وإذلاله وإيذائه باستعمال آليات التواصل كالكمبيوتر والهاتف وجهاز التقاط وتسجيل الصوت والصورة والتشويش والتزييف على مستوى الملامح بالصورة والفيديو، وبها تتحقق الجريمة عن بعد دون مواجهة وبدون الاستعانة بعامل بشري أو جهة خارجية تناول الشخص وتساعده في جرمه وبلائه.
بهذا العرض وفي سبيل إنشاد والتماس تصديات أمنية وممانعة قضائية لهذه الجريمة يحق للقارئ أن يتساءل كغيره السؤال التالي: كيف لأجهزة العدالة الجنائية أن تتصدى للجرائم الرقمية؟