الجريمة والثورة الرقمية
إن نفوذ الجريمة داخل المجتمع أمر لا بد منه ولا محيد عنه حتى نشير على استبيان سلوك الإنسان وتناغمه مع قواعد الطبيعة، هكذا أراد الطبيب والشاعر والروائي الروسي الشهير أنطون تشيخوف في روايته البوليسية الشيقة (دراما في الصيد) أن يبرز لنا ما للجريمة من فضائل وعوائد – وهو بذلك لا يشجع عليها – على صيرورة النظام العام وثباته، لأنها تساءل العدالة وتدعو إلى إنشاء يقظات أمنية، وتطوير أساليب وحيل التصدي لمختلف التجاوزات، وبذلك يحصل تفادي لأي ارتخاء أو تراجع لأدوات الردع والقمع الزجري نحو محاصرة السلوكيات الإجرامية على اختلافها وافتراقها.
هذا التبصر التحليلي الذي ينشد التأكيد على محورية ووجودية الجريمة، يوافق في رؤيته تطورها وتطبعها مع مستحدثات الميديا والتكنولوجيا واندماجهما معا، وهو ما أشرت إليه في سابق التمهيد وأنا أعرض بالدلالة لكرونولجيا الجريمة الرقمية بأن ألمحت أن الجريمة الرقمية cybercriminalité هي نفسها صورة من صور مرونة السلوك البشري إزاء المتقلبات الطارئة عليه بما فيها تأثيرات الثورة الرقمية وما صاحبها من ملامح جرمية جديدة.
من أجل ذلك تجتهد أجهزة العدالة الجنائية في إعمال الجزاء القانوني في حق أي شخص اجترح لجريمة رقمية معينة، أو مجرد محاولته ذلك حسب ما يقضي به القانون الجنائي أو القوانين الخاصة، ولإنجاز العقوبة التي يقررها ويبتغيها القانون يستدعي أولا تعزيز التحريات المنجزة من قبل فرق الشرطة القضائية المختصة بغرض جمع الأدلة عنها ثم مواجهة المشتبه فيهم بها، وعند إيجابيتها وصدقيتها يتدخل القضاء (نيابة عامة – قضاء التحقيق – قضاء الحكم) لإمضاء العقوبات المقررة في القانون، ولأن أجهزة العدالة الجنائية هي مكلفة فقط بإنفاذ القانون وفرض حاكميته، فهي تبقى غير مسؤولة إطلاقا عن نظر القانون للجريمة الرقمية ومسائلتها واستفسارها عن جدية العقوبات المنزلة، لأن هذا العمل يندرج ضمن اختصاص السلطة التي أنشأت النص وسنت العقوبة ووافقت عليها وارتضتها، وهنا أخص بقصدي سلطة التشريع، فالحديث عن صناعة العقوبات والجزاءات لردع الجريمة الإلكترونية والحد من غلوائها يسبق مناقشة تدخل الأمن والقضاء والمجادلة في أدوارهما.
لذا فإن مجادلة القانون الجنائي وفصوله المجرمة والمعاقبة على مختلف صنوف الجرائم المرتكبة بطريقة رقمية، يقودنا إلى التعريض في المسوغات التي قادت التشريع المغربي إلى معالجة الجريمة الإلكترونية، ودعنا نقول إن شئت الجرائم المرتكبة بطريقة رقمية، ففي البداية لم يرد في القانون الجنائي ولا في النصوص الخاصة ما يهم الجريمة الإلكترونية أو ما يتصل بها من عقوبات، بحيث ظل القانون الجنائي يطبع على الجريمة مسحة تقليدية لا في التعريف ولا في أدوات التنفيذ ولا في وسائل الإثبات، بالرغم من صدور الاتفاقية الدولية المتعلقة بالجرمية الإلكترونية (بوادابست) The Budapest Convention المصادق عليها في لجنة الوزراء بمجلس أوروبا في 08/11/2001 وهي تعد – أي هذه الاتفاقية – النواة الأولى في هيكلة مختلف القوانين التي همت الجريمة الإلكترونية، وبنودها صورت إلزاما على الدول الأعضاء والدول المنضمة – بما فيها المغرب لاحقا – في ملاءمة قوانينها الوطنية مع جميع التدابير الموصى بها في صلب الاتفاقية، أذكر منها على سبيل العرض لا الحصر: ضرورة تجريم الدول الأعضاء لفعل إنتاج مواد إباحية للأطفال بغرض توزيعها عبر نظام الكمبيوتر، منع حيازة مواد إباحية عن الأطفال داخل نظام الكمبيوتر، وجوب تجريم أعمال الاحتيال للحصول بدون حق على منفعة اقتصادية ذاتية او لفائدة الغير Les arnaques digitales، تجريم أعمال التدخل في بيانات الكمبيوتر بغير حق وبتعمد.
على أن ما يسترعي الاهتمام بعد توقيع هذه الاتفاقية الدولية من قبل دول مجلس أوروبا، أن المغرب لم يصادق عليها إلا بتاريخ 29/06/2018، ولم تدخل حيز التطبيق إلا في 01 أكتوبر من نفس السنة أي بعد 17 سنة تقريبا من إصدارها، وعلى ما يبدوا أن هذه المرحلة لم تكن للانتظار أو للتوجس أو التريث إلى حين التأكد من فعاليتها وإسهامها في ممانعة الجريمة الإلكترونية، لأن الواقع يؤكد تفاعل القانون الجنائي المغربي مع خطورة الجرائم الإلكترونية ولو لم ينضم لأي اتفاقية من هذا القبيل، وخذ مثالا على ذلك في القانون رقم 07.03 المتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات الذي صدر بتاريخ 11/11/2007 أي قبل توقيع المغرب على اتفاقية بودابست بـ عشر سنوات.
وغاية في تعزيز الإطار القانوني لمحاربة الجريمة الإلكترونية تم التوقيع أيضا على الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنيات المعلومات من قبل المملكة المغربية بتاريخ 21/12/2010 وذلك بصفتها عضوا بجامعة الدول العربية، ومن خلال الاطلاع على فصول هذه الاتفاقية نلحظ تناغما قريبا بين فصولها وما شرعته اتفاقية بودابست.
إن القانون الجنائي المغربي وفق بيانه وبنائه الحالي لم يعرف إطلاقا الجريمة الإلكترونية محافظا في ذلك على دأبه الثابت في تجاوز التعريفات ومناولة هذه الوظيفة إلى الفقه والقضاء، فالشاهد أن التعريف يبقى آلية علمية معرفية أكثر منها قانونية، ولأن الغرض من القانون – تحديدا النص الجنائي – هو التجريم والعقاب، تجد في مجمل التعريفات التي يوظفها كونها تعريفات وتفسيرات وظيفية تتأكد لنا في الغالب من فصول القانون الجنائي على الشكل التالي (كل شخص يقوم بـ… يعد مرتكبا لجنحة.. ويعاقب بـعقوبة..) بمعنى أوضح أن الجريمة تعرف عمليا وليس اصطلاحا وهذا هو المطلوب من المشرع لأن هذا التراجع منه يجنبه نقد التعريفات، وينئى به عن الانزلاق في أزمة التضخم الجنائي كميا.
وبرجوعنا في الملاحظة لمنصوص الفصل 607-3 من القانون الجنائي وما يليه إلى غاية الفصل 607-11 نتبين أن القانون رقم 07.03 لا يعالج جميع الجرائم الإلكترونية بل يحصرها فقط في الجرائم المتعلقة بالتدخل في بيانات الكمبيتور أو كما سمتها اتفاقية بودابست بـ (التدخل في البيانات)، وبالتبعية فإن القانون المذكور لا يعد قانونا للجرمية الإلكترونية كما اعتبر ذلك جموع من الفقه المغربي عندما نشر هذا القانون لأول مرة في الجريدة الرسمية، وإنما يعد تجريما جزئيا لمخالفة أوصت بها اتفاقية بودابست ودعت إليها أيضا الاتفاقية العربية لمحاربة جرائم تقنية المعلومات.
ومن جهة ثانية يصح القول ان المنحى الذي أخذ به القانون الجنائي المغربي في عدم تفريعه لباب أو قسم ينفرد بالجريمة الالكترونية يعد توجها صائبا وحصيفا، لماذا، لأن المقصود من الجريمة الإلكترونية هو توظيف واستخدام مجموع الوسائل التي لها علاقة بالميديا (حاسوب، هاتف، كاميرات، أدواة التسجيل والتنصت، لوحة رقمية، كاميرات الدرون..) في تنفيذ معظم الجرائم، إلا إذا ما استثنينا بعضها مما يشترط نشاطا ماديا أو عضليا (جرائم الضرب والدم والعرض) وما دونها يقبل التنفيذ عبر الوسائط الإلكترونية. فجنحة التهديد مثلما ترتكب بالمواجهة المباشرة يمكن للمهدد فيها أن ينال من ضحيته عبر بعثه لرسائل نصية أو إجراء مكالمة هاتفية، وفي جنحة النصب لا يستبعد الجانح في الكثير من الأحيان مخاطر اكتشاف خداعه وطرح احتياله لو التقى بضحاياه واقعا، فيستغني عن ذلك ليقرر التواصل معهم افتراضيا من خلال ما توفره له الرقميات والتكنولوجيا.
لا بد من التنبيه أيضا في معرض مناقشة السياق القانوني لهذه الجريمة ما لها من مخاطر على أمن الأفراد والنظام العام ، وهذا يتجلاه ويتبينه الباحث الجنائي فيما يتقدم إليه من نوازل وفيما يعرض عليه من أقضية، فالخطورة الأولى التي تلحظ على مستوى صناعة الجريمة هي سرعة تنفيذها ونفاذها، ولعل السرعة تعد من خواص ومحصلات الثورة الرقمية، ثانيها فسح المجال أمام الجناة لإخفاء هوياتهم وحجبها عن رقابة العدالة وباقي الأجهزة المكلفة بالتحري، فخلف الجريمة الإلكترونية غالبا ما نشهد شخصا يعمل من وراء حاسوب أو شاشة صغيرة، الأمر الذي يطيل فترة البحث ويمدد التحقيق ونحن نسعى وراء إقامة الإثبات طالما أنه جوهر الحق العام ومسناه، ضف إلى ذلك أن تقفي الأثر الرقمي أعسر وأشق من اجتثاث الأثار المادية.
وإذا كانت المعتقدات والآراء السائدة هي التي توجه سلوكيات الناس وتؤثر في غرائزهم بدرجة أولى من المعرفة كما أثبت ذلك المؤرخ والكاتب الفرنسي غوستاف لوبن في كتابه (الآراء والمعتقدات)، فإن الرأي الذي أخذ ينبلج ويسود في أوساط المجرمين يصور في مناعة الجريمة الإلكترونية وصمودها أمام أدوات التحقيق والإحراز التي يوفرها القانون لأجهزة العدالة الجنائية.
يتبع..