قرارات محكمة النقض والهامش القضائي المفتوح
يختلف أسلوب تحرير الأحكام تبعا للتقاليد القضائية المتبعة في كل بلد، ومن استقراء ما هو منشور، يمكن القول بأن هناك منها ما يميل إلى الإسهاب، وأسلوب يميل إلى الإيجاز[1]. فالقانون المدني بالشكل الذي اتخذه في القرن التاسع عشر هو قانون استنباطي، إنه ينطلق من المبادئ العامة المؤدية إلى استنباط الحلول الخاصة ، حيث في الأغلب تتموضع القواعد على مستوى عال من العمومية ، و ما تبقى لا ينتمي إلا للتطبيق و لا يتم الاهتمام به إلا بشكل أقل بكثير من الاهتمام بالمبادئ، فالقاضي لا يهتم كثيرا بتبرير ما يقدمه من حل انطلاقا من خصوصيات الحالة التي يعالجها بمقدار اهتمامه بربطه بمبدأ عام ، و يشكل الإيجاز بالنسبة له كما هو الأمر بالنسبة للمشرع شكلا من أشكال الأبهة .
وعلى العكس من ذلك تكمن عبقرية نظام” الكمنلو” في قدرته على ايجاد الحل لما هو أكثر دقة من المشاكل و بالشكل الذي يرضي توجه العقل ، فعندما يقدم حلا لمشكلة دقيقة فإنه لا يعيد إنتاج مثل هذا الحل في قضية مشابهة إلا إذا لم يجد أي سبب للتخلي عنه ، أما إذا كان الأمر على عكس ذلك ، أي إذا وجد سببا للتخلي عن الحل السابق فإنه يعمد إلى صياغة حل جديد من خلال شرحه لما يبرر هذا التمايز و بشكل مسهب ، مؤسسا بذلك لولادة قاعدة جديدة تكون هي أيضا قاعدة دقيقة[2].
إن صورة النظام القضائي و القانوني اللاتيني ، كما هي في دول القانون المدني، معروفة جدا ، فما تتبناه هذه الايديولوجيا هو أن يكون الشعب وحده القادر على صنع القانون، إذ لا بد من الفصل الدقيق بين السلطات الدستورية، كما لا بد من أولوية لا يجادل بشأنها أو لا تحتمل الجدال بالنسبة للمشرع، مما يؤدي بالتالي إلى إعطاء القاضي دورا سلبيا ، إذ على المشرع خلق القوانين و القاضي تطبيقه[3] ، و كأنه آلة لتفريخ الأحكام .
هذه الايديولوجيا تعبر عن نفسها بشكل خاص في القرارات القضائية ، فهذه الأخيرة تكون مصاغة ضمن قالب معروف :
- حيث أن المحكمة، و حيث أن المواد من …. (ق.ل.ع مثلا) .
- و حيث أن …
- لهذه الأسباب فإنها ( تبطل أو ترد الطعن …. الخ).
يقدم هذا الشكل التقليدي للأحكام و القرارات ، صورة خاصة جدا من الدور الذي يلعبه القاضي في المغرب، فالقرار يتجسد في جملة وحيدة عادة ما تكون موجزة و تأخذ شكل القياس، تتم صياغتها باسم الغائب ( المحكمة.. ترد الطعن )، فالقاضي المغربي لا يتكلم باسم الضمير المفرد المتكلم[4].
فشكل القرار يفهمنا أن القانون هو من يولد و بطريقة قواعدية شبه رياضية ،الحل القضائي الضروري و غير الإشكالي، ليس للقاضي الذي لا يقوم إلا بتطبيق القانون أي دور فيه، و كما يشير البعض[5] فهذه الصورة لتغييب دور القاضي في القرار القضائي تبتدئ في قراره ، إذ لا يذكر تقريبا نص القانون الذي يزمع تطبيقه ، بل يشير إلى رقم المادة ، إذ هو الذي يولد الحل، و حتى في الحالة التي يتم فيها ذكر نص المادة في المقرر القضائي ، فإنما يؤتى ذكرها في الواقع بدون مزدوجتين ( )، بشكل يوحي بأنه لا توجد أي مسافة بين لغة القرار القضائي و لغة القانون .
ومن الناحية الكلاسيكية، كان يعتقد أن القاضي عليه اللجوء إلى القياس المنطقي لإنجاز مهمته، ومع ذلك فإن هذا القياس لن يكون كافيا عندما يتعين على القاضي القيام بعمل إبداعي، إذ لا يكون هناك أي تفسير قياسي عند تجاوز التفسير البسيط[6].
يختلف التسبيب بين قضاء الموضوع وقضاء النقض، فبالنسبة لقاضي الموضوع يتمثل التسبيب في الشرح للخصم تطبيق حكم القانون على الوقائع المطروحة عليه، والتي قادته على نتيجة المحاكمة، وبالتالي فإن محتوى أسباب القرار الموضوعي سيكون مختلفا عن أسباب قرار النقض، فالقاضي يقوم بفحص مدى صحة وانتظام الأدلة على الوقاع المطروحة التي يدعيها الخصوم، والمرجحة لحل النزاع.
أما بالنسبة لقاضي النقض، سيكون التعليل بالضرورة اكثر ايجازا، لأنه لا يستطيع الحكم على الوقائع التي استخلصها قاضي الموضوع، ولكن مراقبة تطبيق القانون المعمول به، وسوف يستند حصرا إلى الأسباب القانونية التي يستند عليها في الطعن بهدف القبول أو الرفض، وفي هذا الايجاز بالتحديد في التعبير عن الحجج القانونية يكمن خطر عدم الوضوح في قرارات محكمة النقض[7].
وما من ريب أن المؤلفات القانونية التي تعنى بالاجتهاد القضائي لمحكمة النقض أهم من تلك التي يقتصر فيها أصحابها على التذكير بالقواعد النصية، ونمط المؤلفات القانونية التي تتضمن المبادئ القضائية هو أكثر انتشارا لاسيما لدى الجهات المكلفة بإنفاذ القانون من ذلك الذي يقتصر فيه أصحابه على المسائل النظرية دون بيان تداعياتها الواقعية[8].
و يذهب بعض الفقه[9] إلى القول على أن ما يثير الانتباه بخصوص قرارات محكمة النقض هو الأسلوب الموجز الذي يستعمل في صياغة الجمل والفقرات التي يتألف منها القرار، وخاصة تلك التي تتضمن مبدأ جديدا أو تحولا عن اجتهاد سابق أو تفسير نص قانوني جديد، هذه الطريقة تجعل المتقاضي، والباحث على حد سواء يضرب أخماسا في أسداس لتفسير مضمون القرار، وتحديد الاتجاه ومعرفة النوايا الحقيقية أو البواعث التي حدت بقاضي النقض إلى الحكم في اتجاه معين دون الأخر، مما يقود إلى افتعال فرضيات تناقش على أساسها من الناحية النظرية الصرفة المبررات والدوافع الكامنة وراء القرار.
إن الأسلوب الموجز حسب بعض الفقه، يثير الشك حول مضمون المبادئ التي تقررها المحكمة، مثال ذلك ما يرد في موضوعات المسؤولية من ألفاظ عامة وغامضة، كعدم التوقع وعدم إمكانية درء الخطر وأن التسبيب الموجز لا يؤدي إلى فهم مدلول هذه العبارات، ويسمح أحيانا بتقديم حلول متناقضة لصياغة قانونية واحدة[10].
وبقدر ما يغني التسبيب في اتخاذ قرار موضوعي، كونه موضوع للاستدلال القياسي، فإن القرار الذي يستند إلى المبادئ يجب أن يظل موجزا، إلى جانب الحجج المؤيدة، للحفاظ على نظام التسبيب الحالي، ويعتمد من يؤيد التغيير في النظام الحالي للتسبيب إلى الافتقار الحتمي للوضوح الناتج عن الايجاز المشهود في عدد من قرارات محكمة النقض، والهدف المنشود من هذا التغيير هو جعل هذه القرارات أكثر سهولة للفهم[11].
ورغم أن السلطة المعيارية للقاضي غير معترف بها لا في القانون الفرنسي و لا المغربي ، إلا أن المحاكم المغربية تسعى جاهدة لتأسيس حلول للنزاعات على أساس نصوص تشريعية ولو أدى الأمر إلى تفسيرها تفسيرا واسعا لمطابقة السياق الاجتماعي السائد[12] ، حيث أن تغيير الاجتهاد القضائي يبقى أمرا قائما و بذلك نجد أن محكمة النقض اعتبرت أن المخالفة لاجتهادها لا تشكل وسيلة من وسائل الطعن بالنقض الواردة بالفصل 359 من ق.م.م [13].
أما بالنسبة لمحتوى القاعدة القضائية فلا يتم تعريفه بشكل واضح دائما ، إذ يمكن للقاضي أن يترك هامش معين من أجل إجراء تعديلات على هذه القاعدة ، كما يمكن له أن يضع قاعدة دون أن يحدد شروط تطبيقها على وجه التحديد ، من أجل السماح في حالات لاحقة بإمكانية تقييم تطبيق القاعدة على أساس كل حالة على حدة ، لذلك فإن قراءة الاجتهاد القضائي و فهمه ليس بالأمر اليسير دائما ، و الدليل هو العديد من المقالات العلمية التي تشكك في نطاق هذا الحل أو ذاك الذي يتبناه القاضي ، و رغم ضعف القيمة المعيارية للقاعدة القضائية من هذه الزاوية ، فإن مثل هذه القرارات تعطى مكانا هاما في تطبيق القانون .
بما أن الاجتهاد القضائي غير معترف به كمصدر للقانون من طرف المشرع، فلا يمكن للقاضي أن يبني قراره إلا على نص تشريعي، وبالتالي حتى لو أخذ القاضي في الاعتبار معطيات اجتماعية واقتصادية ومالية، فلا يجوز أن يبني عليها حكمه بشكل علني، وعليه أن يتصرف وكأن الحل الذي توصل إليه قد أملاه القانون حصرا[14].
إن معاينة محكمة النقض للأحداث التي تثيرها غالبا تنطوي على تقدير خفي، يأتي بصورة تأكيد قاطع لكنه غير مقنع، فتختفي معه كل مناقشة ممكنة، فقاضي النقض لا يعلل قراراه بصراحة تامة، فهو يرفض إعطاء الدليل على تعليلاته، وإذا أجاب على جميع الوسائل فإنه لا يجيب على جميع الأدلة، ولا يبحث بصفة خاصة عن أدلة غير قضائية[15].
فالوظيفة البيداغوجية لمحكمة النقض لهي مما يجعل عمل قضاتها أقرب مما يكون إلى عمل المعلم بتقصيهم وراء القاعدة واجبة الانطباق، وفي التثبت من أصولها، والتأكد من مدى اتساع المنظومة القانونية التي يعملون في ظلها إلى تلقيها، ولا شك أن شعور هؤلاء القضاة بهذا المعطى ينعكس أكثر على الخطاب الذي يتوخونه في تحرير قراراتهم[16] .
إن تسبيب قرارات المحاكم التي تصدر باسم جلالة الملك، لا تشكل التزاما قانونيا فحسب، بل أيضا متطلبا ديمقراطيا، وإذا كان قضاء النقض حريصا دائما على تنمية فن الإيجاز، فيكفي تصفح قراراته في العقود الماضية لملاحظة التطور المستمر نحو تبرير أكبر للحلول المعتمدة، وهذا التطور بلا شك يتوافق مع المعايير الدولية بخصوص ضمان التوقعات العالية للمتقاضين.
[1] المرحوم احمد العلمي: تقنية تحرير الأحكام والتعليق عليها، طبعة 2012 ص 51
[3] ميشيل دي.س.أو.لولاسير: مغدنلة (أو أمركة) الخطاب القضائي الفرنسي ، مداخلة ضمن المؤتمر المنعقد حول أمركة القانون ، تحت إشراف فرانسوا تريه، ترجمة محمد وطفه، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ،بيروت 2008 ص 226
[4] م. لولاسير : م.س، ص 228 / أنظر أيضا محمد الشيلح :” تأملات حول قرارات المجلس الأعلى “، أشغال ندوة ” المجلس الاعلى و التحولات الاقتصادية و الاجتماعية” مطبعة الأمنية الرباط 1999 ص ، ص 194-195
[5] م.لولاسير : م.س، ص 228
[6] Maïwenn TASCHER:Les revirements de jurisprudence de la Cour de cassation، Thèse pour le doctorat en droit privé ،Université de Franche-Comté – Besançon ، Faculté de droit 2011 p 57
[7] Nora Alshatti : la motivation du décisions judiciaires civiles et la cour de cassation : étude de droit comparé franco-koweitien, Thèse pour le doctorat en droit privé ،Université de Strasbourg 2019 page 62
[8][8][8] محمد محفوظ: الدور البيداغوجي لمحكمة التعقيب، محكمة التعقيب حتمية التطور وضمانا لجودة العدالة، مجموعة أعمال ملتقيات نظمتها محكمة التعقيب ، مجمع الأطرش للنشر وتوزيع الكتاب المختص، طبعة 2020 ص 311-312
[9] عبد القادر رافعي : آفاق المجلس الأعلى كمحكمة نقض، ، أشغال ندوة ” المجلس الاعلى و التحولات الاقتصادية و الاجتماعية” مطبعة الأمنية الرباط 1999 ص 94
[10] المرحوم احمد العلمي: تقنية تحرير الأحكام والتعليق عليها، م.س، ص 53
[11] Nora Alshatti : la motivation du décisions judiciaires civiles et la cour de cassation : étude de droit comparé franco-koweitien, Thèse pour le doctorat en droit privé ،Université de Strasbourg 2019 page 60
[12] نفس المرجع بصفحته
[13] محمد الكشبور: رقابة المجلس الأعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية- محاولة للتمييز بين الواقع و القانون- مطبعة النجاح الجديدة الطبعة الاولى 2001.
[14] Maïwenn TASCHER : op.cit, p 266
[15] المرحوم احمد العلمي: تقنية تحرير الأحكام والتعليق عليها، م.س، ص 53
[16] محمد محفوظ: الدور البيداغوجي لمحكمة التعقيب، م.س، ص 313