المغارسة بين مقتضيات الفقه المالكي والتشريع المغربي
إن أول حق ظهر هو حق التملك بعد ان مارس الإنسان الزراعة عليها وغرس الأشجار فيها، كمورد للعيش والرزق والتمتع بالحلال الطيب منها لذا تمسك الإنسان بأرضه للدفاع عنها ومع تطور الحياة البشرية وممارسة بعض الحرف الأخرى، أصبح لبعض الناس أراضي تحتاج إلى إصلاح وغرس ولم تكن لهم الخبرة والتجربة والمال للقيام بذلك مما اضطرهم إلى التعاقد مع الغير للقيام بذلك بشرط جزء من الأرض والشجر ومن هنا ظهر عقد المغارسة حيت إن التنظيم القانوني السائد قبل صدور مدونة الحقوق العينية لم يولي هذا العقد أي اهتمام سواء من خلال ظهير2 يونيو 1915 أو قانون الالتزامات والعقود لم يتطرقا إلى هذا العقد تاركين الأمر للمقتضيات الفقه المالكي، ورغبة من المشرع المغربي في تنظيم هذا النوع من العقود الذي أضحى يشكل قاعدة مهمة باعتباره سببا من أسباب كسب الملكية والأكثر تداولا، خاصة في الأراضي الفلاحية التي تمتاز بشساعة مساحتها لذلك كان واجبا على المشرع إقرار نصوص قانونية للنظيم هذا العقد وفض المنازعات المثارة أمام القضاء بشأنه ،وفي سنة 2011 أقر المشرع بهذا المولود القانوني الجديد ذو الحمولة الفقهية بموجب مدونة الحقوق العينية من خلال تنظيم قانوني لهذا العقد ضمن مقتضيات الفصل الأول من الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الثاني المعنون بالأسباب كسب الملكية والقسمة وذلك من المواد 265 إلى 272 من قانون39.08 وللمناقشة هذا العقد والغوص في أحكامه كان لازما علينا معالجته من المنظور الفقهي خاصة الفقه المالكي والمنظور التشريعي.
المبحث الأول: الأحكام العامة للعقد المغارسة بين مقتضيات الفقه المالكي والتشريع المغربي
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على عقد المغارسة بين الفقه المالكي والتشريع المغربي
المبحث الأول: الأحكام العامة للعقد المغارسة بين مقتضيات الفقه المالكي والتشريع المغربي
المطلب الأول: مفهوم المغارسة ومشروعيتها وخصائصها
تعريف المغارسة لغة: المغارسة على وزن مفاعلة الأصل فيها أن تكون من لفعل الغرس من اثنين كالمناظرة والمخاصمة فمقتضى لفضها أن يكون كل واحد يغرس لصاحبه وليس ذلك مرادا في حقيقتها وإنما الغارس أحدهما، ومن الأخر الأرض، تحمل على العقد وهي تثبيت الشجر في الأرض[1]
عرفها ابن منظور في لسان العرب: يقال غرس الشجر والشجر يغرسها غرسا: أثبته في الأرض، فهو مغروس وغريس ويقال للنخلة أو ما تنبت غريسة، والغرس: اغرسك الشجر، والغراس: زمن الغرس، والمغرس: موضع الغرس والغراس ما يغرس من الشجر. [2]
قال ابن فارس: غرس الغين والراء والسين أصل صحيح من لذي قبله يقال غرست الشجر غرسا وهذا زمن الغراس. [3]
تعريف المغارسة اصطلاحا:
جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد وهي عند مالك أن يعطي الرجل أرضه لرجل ليغرس فيها عددا من الثمار معلوما فإذا استحق الثمر كان للغارس الجزء المتفق عليه.[4]
وعرفها ابن عرفة في كتابه الحدود بأنها جعل وإجارة وذات الشركة في الأصل: وعلق الإمام الرصاع على ذلك بقوله أن الشيخ لا يتوهم أنه ذكر ذلك حدا للمغارسة فإن ذلك ليس بحدا لها وإنما تقسيم لها وغايته أنه بين لأنها تارة تكون إجارة وتارة جعالة وتارة شركة في الأصول فإن اشترط رجل على أن يغرس له نخلا في الأرض وماتنت منه أخد فيه جعلا مسمى فهي جعالة وله الترك وإن اشترط إجارة على جزء من أصل جاز كما إذا قال اغرس لي أرضي نخلا بطائفة من أرض أخرى فهذه إجارة وإذا قال اغرسها نخلا أو شبهها على قذر كذا والأرض والشجر بينهما فذلك أيضا مغارسة وهذا شامل للفاسدة والصحيحة، والفاسدة فيها نزاع والمغارسة لها حكم وسنة تخصها فليست بمحض إجارة ولا جعالة لاشتبهت الإجارة للزوم عقدها وتشبه الجعالة لوقوف عوضها على ثبوت الغرس فإن قلت هلا عرف الشيخ رحمه الله المغارسة بقوله :عقد على تعمير الأرض بشجر بقدر معلوم كالإجارة أو كالجعالة أو بجزء من أصل وذلك يجمع أصنافها الصحيحة والفاسدة.[5]
وكذلك قول ابن عاصم في فصل الاغتراس
والاغتراس جائز لمن فعل ****ممن له البقعة أو له العمل
عرفها الشافعية: بأن يسلم إليه أرضا ليغرسها من عنده والشجر بينهما [6]
عرفها الحنابلة بأنها: دفع ارض وشجر غير مغروس لمن يغرسه ويعمل على جني ثمر بجزء مشاع معلوم منه أومن ثمره أو منهما [7]
التعريف القانوني: تطرق المشرع المغربي لتعريف عقد المغارسة ضمن مقتضيات المادة 265 من مدونة الحقوق العينية: المغارسة عقد يعطي بموجبه مالك أرضه لآخر ليغرس فيها على نفقته شجرا مقابل حصة معلومة من الأرض والشجر يستحقها الغارس عند بلوغ الشجر حد الإطعام. وبالتالي يكون المشرع المغربي قد ساير مقتضيات الفقه المالكي فيما يتعلق بتعريف عقد المغارسة
وبالرجوع إلى المادة 265 من مدونة الحقوق العينية نصت على أنه لا يمكن أن يكون محل عقد المغارسة حقوقا مشاعة وبالتالي فالمشرع المغربي استثنى الحقوق المشاعة من أن تكون محلا للعقد المغارسة حماية للغارس من الشياع. وأيضا المادة 102 من مدونة الأوقاف التي نصت على: لا يجوز إعطاء أرض الوقف بالمغارسة وكان للمحكمة النقض قرار في هذا الامر تحت عدد 2707 المؤرخ في 25/07/2007 الملف المدني عدد 2006/1/1/3378 حبس الأراضي الخالية من البناء –كراء الأمد المتوسط –التزام المكتري بالغرس –عقد المغارسة لا –التزام الأحباس بتمليك المكتري ثلث الأرض المغروسة – بطلان نعم. وكان للتشريع المقارن تعريفات مختلفة متأثرة إلى حد كبير بالمذهب السائد في ذلك البلد عرفها القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 في مادته 824 المغارسة عقد على إعطاء أحد أرضه إلى آخر ليغرس فيها أشجارا معلومة ويتعين ترتيبها مدة معلومة على أن تكون الاشجار والأرض او الاشجار وحدها مشتركة بينهما بنسبة معينة بعد انتهاء المدة.
مشروعية المغارسة
من القرآن:
قال تعالى: }أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون{.[8]صدق الله العظيم
من السنة:
المغارسة مندوب إليها، مرغب فيها فقد روى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: }ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل منه السبع فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة{.[9]
من القياس: قول ابن رشد على إن مغارسة الرجل لرجل أرضه البيضاء على أن يغرسها أصولا بجزء منها جائزة جوزها أهل العلم قياسا على مالا جوزته السنة من المساقاة كما جوزوا قياسا عليها بناء الرحى الخربة بجزء منها فهي سنة على حيالها ليست بإجارة محضة ولا جعال محض، الانها اخدت بشبه منهما جميعا من حيت الزوم وثبوت الغرس [10]
خصائص عقد المغارسة
على غرار باقي العقود يتميز عقد المغارسة بجملة من الخصائص منها ما يتقاطع مع باقي العقود الأخرى ومنها ما يشكل جوهر هدا العقد.
عقد المغارسة ملزم للجانبين من خلال التزام كل طرف في هده العلاقة التعاقدية بالقيام بالعمل المنوط به ويحق لكل طرف الامتناع عن القيام ما التزم به متى نكل الطرف الاخر أو تقاعس عن القيام بما هو ملتزم به، وقد قضي القضاء المغربي “بأن المغارسة عقد يتم برضاء الطرفين وهو عقد يشترط فيه ما يشترط في العقود الرضائية، والمحكمة لما اعتبرت عقد المغارسة قائم بين الطرفين، ولم تبرز في قرارها الأساس والقواعد القانونية والفقهية الواجبة التطبيق تكون جعلت قرارها ناقص التعليل، وغير مرتكز على أساس ومعرض للنقض [11]
عقد المغارسة من العقود الزمنية أي ان آثاره تتمادى في المستقبل، دلك أن المغارس لا تنتهي التزاماته بمجرد القيام بعملية الغرس بل يجب عليه أن ينتظر إلى تحقق الإثمار وهدا من الخصائص المقررة سواء في الفقه المالكي أو مدونة الحقوق العينية.
عقد المغارسة من العقود المعاوضة والعوض يختلف من عقد لأخر حسب محله وفي هدا العقد العوض هو الثمار ونصيب من الأرض، بالنسبة للمغارس الذي يغرس الغرس له نصيب من الأرض، وصاحب الأرض له نصيب من الثمار وإصلاح الملك والعناية به من قبل الغارس، بالنسبة إلى مالك الأرض.
عقد المغارسة لم تدرجه مدونة الحقوق العينية ضمن تصنيف الحقوق العينية بموجب المادة 272 وإنما قيدته أو ربطته بشرط تحقق الإطعام والإشهاد به في محرر رسمي، وعن طريق الإثبات بواسطة خبرة قضائية، مما يدل على طبيعة عقد المغارسة أنه يتميز بخاصية الازدواجية من حيت تصنيف العقد من العقود العادية أم العينية ودلك بتحقق الإثمار من عدمه.[12]
المطلب الثاني: أركان وشروط عقد المغارسة:
يعتبر الركن ذلك العمود الذي يقوم عليه أي عقد وهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم أي الركن ما يدخل في ماهية الشيء.
والركن في ماهـية قد ولجا ****والـشـرط عـن الماهـية قد خرجـا
أجمع الفقهاء المالكية على ثلاثة أركان للعقد المغارسة وهي:
الصيغة: تكون إما باللفظ المغارسة أو ما يدل عليها عرفا.
العاقدان: وهما صاحب الأرض والمغارس وشرطهما الأهلية الدالة على الرضا، الذي يجب توفره في جميع عقود المعاوضات بأن يكون كل من العاقدين بالغا عاقلا غير محجور عليه وعقد السفيه والصغير المميز والمحجور عليه متوقف على وليه، فإن رأى مصلحة أمضاه وإلا رده
العمل والصحة: والعمل على ثلاث أنواع إجارة محضة مغارسة على وجه الجعل المغارسة بمعنى المشاركة وهي المغارسة المعهودة[13]
هذا في ما يتعلق بالأركان على المستوى الفقهي أما في ما يتعلق بالجانب القانوني يجب الرجوع إلى الشريعة العامة المادة الثانية من قانون الالتزامات والعقود والتي حصرت أركان العقد في ركن الأهلية للالتزام والتعبير الصحيح عن الإرادة ومحل لالتزام والسبب المشروع إضافة إلى ركن الشكلية في هذا العقد وهذه الأركان التي بزوالها لا يمكننا الحديث عن عقد المغارسة، والتي رتب المشرع المغربي بموجب المادة 306 من ظهير الالتزامات والعقود جزاء البطلان في حالة نقص ركن من الأركان وبالتالي تكون المقتضيات القانونية والفقهية موحدة الأحكام في ما يتعلق بأركان عقد المغارسة.
شروط عقد المغارسة
الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم، وهو عن الماهية قد خرجا وشروط المغارسة تعددت بين الأحكام الفقهية والتشريعية.
1_أن يكون الغرس مما يطول مكثه: من خلال هذا الشرط يتضح أن محل اعقد المغارسة يجب أن يكون شجرا مما يمكث طول السنين وبالرجوع إلى مقتضيات المادة 265 من مدونة الحقوق العينية نصت على أنه.. ليغرس فيها شجرا… وقول خليل في هذا الباب ندب الغرس وجازت المغارسة في الأصول أو ما يطول مكثه، لا تكون المغارسة إلا بغرس شجر له أصل يبقى في الأرض سنين كنخل ورمان وقطن، لا بما ليس له أصل يبقى كبقل وزرع[14]
2- بيان ما يغرس فيها من الأشجار: من خلال هذا الشرط أو جب المشرع والفقه على الغارس تحديد الشجر المراد غرسه وذلك ما نستشفه من خلال مقتضيات المادة 268 ويشترط أن يعين الشجر المراد غرسه وبالرجوع إلى مقتضيات الفقه المالكي بيان ما يغرس فيها من الأشجار نوعا لا عددا إدا غير معلوم عندهم وإلا فلا يلزمه بيانه. [15]
3- تحديد مدة الغرس: أن لا يضرب له أجل سنين كثيرة فإن ضرب له أجلا فاق حد الإطعام لا يجوز كذلك أن يقل عن حد الإطعام ونفس الأمر نصت عليه المادة 266 من مدونة الحقوق العينية لا يجوز اشتراط أجل يتجاوز أو يقل عن حد الإطعام تحت طائلة البطلان وقول خليل في حالة السكوت يحمل على حدا لإطعام.
4- بيان حصة الغارس: ولعل الغاية من هذا الشرط هو التصدي للعقود الغرر من خلال ما نصت عليه المادة 265 من مدونة الحقوق العينية. مقابل حصة معلومة من الأرض والشجر يستحقها الغارس عند بلوغ الشجر حد الإطعام. وكذلك المادة 268 ويببن حصة الغارس في الأرض وفي الشجر. وقول ابن عاصم في هذا الباب
والحد في خدمته ان يطعما**** ويـقع القـسـم بجزء عـلمـا
5- أن يكون القدر المشترط له في الأرض والشجر: ان تكون حصة الغارس مقابل عمله من الأرض والشجر وهذا ما يميز عقد المغارسة بين المالكية والشافعية ونصت المادة 268.. ويبين حصة الغارس في الأرض والشجر وإن كانت الأرض دون شجر أو العكس فهذا ليس بمغارسة عند مالك ولا حتى في إطار قانون .39.08
6- أن تحدد المدة التي ينجز فيها الغارس عمله، وإذا لم يتم تعين تاريخ الشروع في الغرس فإنه طبقا للمادة 269 من مدونة الحقوق العينية تعين على الغارس ان يقوم بالتزاماته الخاصة ذلك قبل انصرام سنة من تاريخ إبرام العقد، ويترتب عن عدم شروعه في هذا الأجل فسخ العقد بقوة القانون.
7- ضرورة تحرير عقد المغارسة في محرر رسمي: بموجب المادة 268 نصت على أنه يجب أن يبرم عقد المغارسة في محرر رسمي. وبذلك يكون المشرع حصر الأشخاص المخول لهم تحرير عقد المغارسة دون فسح المجال أما العقود العرفية أو العقود العرفية ثابتة التاريخ. والمشرع أوجب تحرير هذا العقد سواء عقد المغارسة أو عقد الإشهاد على تحقق الإطعام في محرر رسمي.
8-لا يجوز في عقد المغارسة أن يشترط على العامل عمل زائد خارج عن غرس الشجر والقيام به وفيما يتعلق بالشروط الأخرى جازها الفقه المالكي شريطة ألا تثقل كاهل الغارس خاصة أنه لازال لم يضمن حقه العيني وأنه في أي وقت مهدد بآفة تلحق ما غرس وبالتالي فإن الشروط المرهقة والمثقلة لا تجوز في عقد المغارسة كبنيان جدار حول الأرض أو حفر بئر وهنا قد ينتفع رب الأرض بهذا البنيان دون الغارس في حالة الهلاك الشجر قبل تحقق شرط الإطعام. وكان لنا قول ابن عاصم في هذا الباب:
وشـرط ما يـثـقـل كالجدار ****مـمتـنع والعكـس أمر جار
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على عقد المغارسة
يترتب على عقد المغارسة العديد من الآثار سواء قبل تحقق شرط الإطعام أو بعده وهذه الآثار قد تكون متعلقة بمحل المغارسة أو بأحد طرفيها، وكان لنا في الفقه المالكي مراجعا في غاية في الأهمية من أجل الإحاطة بكافة الآثار المترتبة على هذا العقد وسنحاول تحليلها من الجانب الفقهي والتشريعي.
المطلب الأول: آثار عقد المغارسة في حالة هلاك الشجر
في حالة هلاك الشجر قبل بلوغ الشجر حد الإطعام: نصت المادة 271 من مدونة الحقوق العينية على أنه إذا هلك الشجر قبل بلوغ الشجر حد الإطعام فلا حق للغارس إلا في حدود ما اتفق عليه أو بما يقضي به العرف المحلي. وكان الفقهاء المالكية محل إجماع على أن المغروسات إذا خابت قبل انتهاء مدة العقد فليس للعامل شيء[16] لأن المغارسة من باب الجعل والعامل في الجعالة لا شيء له إلا بتمام عمله،[17] وكذلك قول ابن عاصم الغرناطي في باب المغارسة.
ولـيـس للعــامل مما عـمـلا***شيء إلا ما جعـله اجلا
ولا شيء للعامل في أرض أو شجر حتى يبلغ الغرس ما شرطاه وقول المتيطي والفشتالي وغيرهما على أنه إذا بطل الغرس بحرق ونحوه فمن حق العامل ان يعيده مرة أخرى وقول البرزلي يمكن لأن يعيده أبدا إلى أن يتم أو ييأس منه [18] وبالتالي سواء ثم القضاء استنادا إلى مقتضيات الفقه المالكي أو التشريع المغربي نجد أن الحكم واحد وهو في حالة الهلاك الشجر قبل بلوغه حد الإطعام لا يستحق الغارس شيء إلا في حدود الاتفاق المسبق أو العرف المحلي غير أن الفقه المالكي أجاز إعادة الغرس مرة أخرى.
في حالة هلاك الشجر كله أو جله بعد بلوغ الشجر حد الإطعام: نصت المادة 271 على أنه إذا هلك جميع الشجر أو جله بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي بعد بلوغه حد الإطعام اعتبر أن الغارس وفى بالتزاماته واستحق الحصة المتفق عليها في الأرض. والمشرع المغربي من خلال مقتضيات هذه المادة ساوى بين الهلاك الكلي أو البعض فقط سواء كان سبب قوة قاهرة أو حادث فجائي والقوة القاهرة حسب ماورد في الفصل 269من قانون الالتزامات والعقود هيكل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه. كالظواهر الطبيعية والفيضانات الجفاف وغيرها ويكون من شانها ان تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا وبالتالي فالمشرع في هذه الحالة اعتبر الغارس وفى بالتزاماته ويستحق حصته في الأرض إذا كان فعلا الشجر بلغ حد الإطعام ونفس النهج كان سباقا له من طرف الفقه المالكي في قوله فلو احترق الغرس أو طرأت عليه آفة قبل القسم فإن الأرض تكون بينهما لأن العامل قد استحق نصيبه منها بتمام الغرس[19] وقول ابن سلمون إذا بلغ الحد المشترط وجب للعامل حظه. فإن بقيا لم يقتسماه واحترق الغرس أو طرأت عليه آفة فإن الأرض بينهما.[20]
من خلال ما سبق يمكن القول إن الفقه المالكي والتشريع المغربي أقر نفس الأحكام المتعلقة بحالتي هلاك الشجر كله أو جله قبل تحقق شرط الإطعام او بعده غير أن الفقه المالكي كانت له أحكام جامعت للحالة الهلاك من خلال إقرار إمكانية إعادة الغرس مرة أخرى إلا أن ييأس.
المطلب الثاني: آثار عقد المغارسة في حالة وفاة الغارس قبل تحقق شرط الإطعام أو بعده
-لم يتطرق المشرع المغربي للحالة العجز أو الوفاة بالنسبة للغارس قبل بلوغ الشجر حد الإطعام ،بالنسبة للوفاة الغارس قبل بلوغ الشجر حد الإطعام خاصة وأنه في هذه المرحلة لازال الغارس لم يكسب حقه العيني الذي قد ينتقل إلى ورثته و المقترن ببلوغ الشجر حد الإطعام وضرورة الإشهاد به في محرر رسمي ومدام الشرع لم يتطرق إلى هذه الحالة فكان لازما الرجوع إلى مقتضيات المادة الأولى من مدونة الحقوق العينية تطبق مقتضيات الظهير الشريف بمثابة الالتزامات والعقود في مالم يرد به نص في هذا القانون، فإن لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور وماجري به العمل من الفقه المالكي.
تعتبر الوفاة أو الهلاك واقعة قانونية ولكل إنسان أجل مسمى حيت إن وفاة الغارس قبل تحقق الإطعام ثير العديد من المنازعات في إطار غياب نص قانوني واضح يؤطر هذه المسألة وبالرجوع إلى أحكام الفقه المالكي أقرو على أنه في حالة وفاة الغارس قبل بلوغ الشجر حد الإطعام أجاز الفقه الملك للورثة الهالك أن يقوموا مقامه في العناية بذلك الغرس إلى غاية بلوغه حد الإطعام واكتسابهم الحق العيني حيث جاء في توضيح الأحكام على تحفة الحكام للعلامة التحرير والدراكة الشهير عثمان المكي التوزري الزبيدي في الجزء الثالث من الطبعة الأولى بأنه إذا مات عن ورثة فلهم أن يقوموا مقامه إلى تمام العمل [21] وكذلك نفس المقتضى جاء به ميارة الفاسي بأنه لو مات عن ورثة كانوا أحق بعمله أو يتركه ونقل عن ابن رشد أن ذلك جائز ولا كلام لرب الأرض في ذلك إن أدخل في المغارسة غيره على شيء يأخذ منه [22] غير أنهم لا يجبرون على ذلك إن لم يكونوا يحسنون الزراعة أو غير قادرين عليها، هذا في الحالة العادية، مالم تكن طبيعة الالتزام أوالفانون أو الاتفاق تمنع الورثة من إتمام ذلك العمل الذي قام به مورثهم هنا يستحقوا تعويضا يتلاءم و ما قام به مورثهم في حياته كما في نص الفصل 229من قانون الالتزامات و العقود على أن الالتزامات تنتج أثرها ليس بين المتعاقدين فحسب ولكن أيضا بين ورثتهما وخلفائهما مالم يكن العكس مصرحا به أو ناتجا عن طبيعة الالتزام أوعن القانون ومع ذلك فالورثة لا يلتزمون إلا في حدود أموال التركة وبنسبة مناب كل واحد منهم وإذا رفض الورثة التركة لم يجبر وعلى قبولها ولا على تحمل ديونها وفي هذه الحالة ليس للدائنين إلا أن يباشروا ضد التركة حقوقهم. بالمقابل المادة 329 من مدونة الأسرة منعت التنازل عن تركة للغير لكن في حالة كون أحد ورثة الغارس قاصر أو فاقدا للأهلية يجب الرجوع إلى أحكام مدونة الأسرة والقواعد العامة ومقتضيات الفقه المالكي مالم يرد به نص، استنادا إلى المادة 400 من مدونة الأسرة والمادة 1 من مدونة الحقوق العينية.
وكان التشريع العراقي نظم هدا المقتضى بموجب المادة 831 من القانون المدني العراقي على أنه لا ينفسخ عقد المغارسة بموت أحد الطرفين بل يقوم ورثة كل منهما مقامه غير أنه إذا كان ورثة المغارس غير قادرين على الاستمرار في المغارسة كان لرب الأرض حق الفسخ على أن يعوض الورثة عما يصيب مورثهم من قيمة الأشجار قائمة مع التعويضات الأخرى إن كان لها وجه.
-حالة وفاة الغارس بعد بلوع الشجر حد الإطعام وأشهد به الطرفان ما ينبغي الإشارة إليه أن عقد المغارسة بمجرد تحقق الإطعام وأشهد به الطرفان إما في محرر رسمي أو ثبت بخبرة قضائية مصادق عليها من طرف المحكمة يرتب حقا عينيا وذلك ما نصت عليه المادة 272 من مدونة الحقوق العينية وهذه الحقوق العينية إما أصلية أو تبعية وأن هذا الحقوق العينية تنتقل إما عن طريق الوقائع القانونية أو التصرفات القانونية. وإذا تعلق الأمر بعقار محفظ يجب تسجليه في الرسم العقاري بالمحافظة العقارية مالم يسبق له تقيد حقه تقيدا احتياطيا هنا يجب تقيده تقيدا نهائيا أما إذا كان موضوع المغارسة عقار غير محفظ وجب تسجليه بالسجل الممسوك لدى كتابة ضبط موقع العقار موضوع المغارسة.
فسخ العقد بسبب العذر
إذا عجز المغارس عن إتمام العمل لسبب من الأسباب كالمرض أو ضعف قدرته المادية أو اراد سفرا، او تطوع للجهاد أو أي مانع منعه من إتمام العمل فله أن يأتي بعامل بدله يكمل العمل نيابة عنه على أن تكون حصة العامل الجديد لا تزيد عن أصل حصته المتفق عليها أو أقل منها ليستفيد هو مما عمل سابقا، فإن لم يستطع ذلك أتى صاحب الأرض مكانه من يتم عمله بأجرة استأجره عليها، أو يعمل ذلك بنفسه وعلى العامل الأول تحمل تلك الأجرة إذا كانت معقولة ومما يتعارف عليها الناس وليس فيها إسراف [23]وإذا ترك العامل القيام بالشجر دون أن يسلم الأرض، فتولى رب الأرض العمل، أو أتى بمن يعمل ،ثم رجع العامل الأول، فهو أحق بالإتمام ويعطي من قام عنه بعمل تكلفة وأجرة ما عمل [24] .
أغفل المشرع المغربي تنظيم بيع الحقوق أو تنازل عليها قبل انتهاء العقد وكانت مناط اختلاف بين الفقهاء المالكية حول جواز قيام المغارس ببيع حقوقه أو التنازل عنها لغيره قبل انتهاء العقد، فمنعها ابن الحاج من المالكية معللاً ذلك أن المغارسة من باب الجعل الذي لا يصح للجاعل شيء إلا بتمام العمل لا يجب له نصيب إلا أن يبلغ الشباب المتفق عليه [25]. وقاسها آخرون على المساقاة فجوزوها، فقد سئل ابن رشد عمن يغرس الأرض بجزء معلوم فلقح غرسه ويقوم عليه العام والعامين ثم يعجز فيريد أن يبيعها من رب الأرض أو يعطيها له أو لغيره يجزيها الذي أخذها به يقوم عليها إلى تمام العمل هل يجوز أم لا؟ وكيف لو منعه رب الأرض من ذلك؟ فأجاب: ذلك كله جائز ولا مقال لرب الأرض في إدخال غيره في المغارسة عنه بشيء يأخذه منه[26]وإليه دهب آخرون من فقهاء المالكية المتأخرين[27] في نفس المقتضى نصت المادة 829 من القانون المدني العراقي على أنه يجوز للمغارس أن يتنازل عن حقوقه لآخر بعوض أو بدونه قبل انقضاء المدة بإذن من رب الأرض فإذا لم يأذن رب الأرض كان عليه أن يقبل تلك الحقوق بثمن مثلها ذا طلب المغارس ذلك.
وأجاز الحنابلة لصاحب الأرض أن يبيع نصيبه من الغرس ولو لم تتم المدة لأن البيع المشاع صحيح والمشتري يقوم مقامه في إتمام الشروط المنصوص عليها في العقد.[28]
خلاصة:
المغارسة عقد مستقل عن المزارعة والمساقاة بالرغم من التداخل التقاطع في العديد من الأحكام.
عقد المغارسة نظمه المشرع المغربي بأحكام قانونية ضمن مدونة الحقوق العينية وألبسه لباس الفقه المالكي.
المشرع المغربي لم يقتصر في تنظيمه لهذا العقد ضمن مدونة الحقوق العينية فقط وإنما فسح المجال أمام الأحكام العامة للقانون المدني وكذلك الفقهي المالكي في مالم يرد به نص.
المذاهب الفقهية باستثناء المالكية، وإن قالت بجواز مآل المغارسة شركة في الشجر والثمر فقط ولم تجز أن يكون مآلها شركة في الأرض والشجر. لكن واقع الحال أنهم جميعا في ماعدا الشافعية قد وافقوا عمليا على المآل الذي دهب إليه المالكية. شركة في الأرض والشجر إما بفتوى بعض علمائهم أو بإيجاد الحيل الشرعية المؤدية إلى ذلك.
انتهى بحول الله.
لائـــــــــــــــــــــــــــحـــــــــــة المـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراجــــــــــــــــــــــــــــــع:
- الغرياني، الصادق عبد الرحمن مدونة الفقه المالكي وأدلته، مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 2002
- ابن منظور، محمد بن مكرم لسان العرب، دار صادر بيروت 1955
- ابن فارس، مقايس اللغة، دار الفكر1979
- ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر بيروت،1995
- الرصاع، أبو عبد الله بن قاسم الأنصاري الهداية الكافية الشافية لبيان الحقائق الإمام ابن عرفة الوافية، تحقيق محمد أبو الأجفان، طاهر العموري، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993
- الشربيني، محم بن أحمد الخطيب مغنى المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المناهج دار الفكر بيروت بدون تاريخ
- البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، دار الكتب العلمية بيروت.
- ابن رشد، أبو الولد محمد بن احمد القرطبي، البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في المسائل المستخرجة، تحقق احمد الحبلبي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1985
- عثمان بن المكي التوزري الزبيدي، توضيح الاحكام على تحفة الحكام، الجزء الثالث الطبعة الأولى تونس 1339
- محمد بن أحمد بن محمد، شرح ميارة الفاسي على تحفة الحكام في نكت العقود والاحكام لابن عاصم الأندلسي، دار الكتب العلمية بيروت 2000
- الونشريسي، احمد بن يحي، المعيار المغرب والجامع المقرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب تحقيق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي بيروت، 1981
- التسولي، علي بن عبد السلام، البهجة في شرح التحفة، المطبعة البهية مصر1314هـ
- ابن سلمون بن سلمون بن عبد الله الغرناطي، العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام، القاهرة 1301هـ
- فتاوى البرزلي، جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، دار الغرب الإسلامي بيروت 2002
- العاصمي عبد الرحمان بن قاسم النجدي، الدرر السنية في الأجوبة النجدية الطبعة الخامسة، بيروت 1998
- العربي مياد، الحقوق العينية الأصلية والتبعية، دار الطباعة والنشر، الرباط 2021.
[1]الغرياني مدونة الفقه المالكي وأدلته الجزء الثالث مطبعة الريان الصفحة 597
[2] ابن منظور لسان العرب مادة الغرس الجزء السادس الصفحة 154
[3] ابن فارس مقاييس اللغة الجزء الرابع الصفحة 417
[4] ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد الجزء الرابع الصفحة 20
[5] الرصاع شرح حدود ابن عرفة الموسم الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة القسم الأول. مطبعة دار الغرب الإسلامي. الصفحة 517
[6] الشربيني. محمد بن احمد الخطيب. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المناهج دار الفكر بيروت الجزء الثاني الصفحة 324
[7] البهوتين، الروض المريع شرح زاد المستنقع الجزء الثاني الصفحة 227
[8] سورة الواقعة الآية 64/62
[9] صحيح مسلم المساقات باب فصل الغرس والزرع رقم 1553، رواه مسلم عن جابر
[10] ابن رشد الجد البيان والتحصيل الجزء الخامس عشر الصفحة 404
[11] قرار المجلس “الأعلى محكمة النقض «عدد 166 بتاريخ 18 يناير 2006 في الملف المدني عدد 2519//1/3/2004 منشور من طرف عثمان الشعباني: أحكام عقد المغارسة في ضوء مدونة الحقوق العينية ط2018 عن مطبعة د\ار السلام للطباعة والنشر والتوزيع الرباط
[12] العربي مياد، الحقوق العينية الأصلية والتبعية طبعة 2021 الصفحة 193
[13] الغرياني مرجع سابق الصفحة 598
[15] عثمان بالمكي التوزري الزبيدي توضيح الأحكام على تحفة الحكام الجزء الثالث الطبعة الأولى مطبعة تونسية ص 178
[16] ميارة الفاسي. شرح الإتقان والإحكام للتحفة الحكام الجزء الثاني الصفحة 195
[17] الونشريسي. أحمد بن يحي المعيار المغرب والجامع المقرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب تحقيق محمد حجي دار الغرب الإسلامي بيروت 1971م الجزء الخامس الصفحة 98
[18] التسولي. البهجة في شرح التحفة الجزء الثاني الصفحة 326
[20] ابن سلمون سلمون بن علي بن عبد الله الغرناطي العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام القاهرة 1301 ه الجزء الثاني الصفحة 24
[21] عثمان المكي التوزري الزبيدي مرجع سابق الصفحة 178
[22] ميارة الفاسي الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام الجزء الثاني الصفحة 118
[23] ابن رشد البيان والتحصيل الجزء 15 الصفحة 415
[24] الغرياني مرجع سابق ص598
[25] مبارة الفاسي مرجع سابق الصفحة 117
[26] البرزلي أبو قاسم بن أحمد بلوى. فتاوى البرزلي. جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام تحقيق. محمد الحبيب هيلة. دار الغرب الإسلامي بيروت 2002 الجزء الثالث الصفحة 384
[27] الونشريسي مرجع سابق الصفحة 202
[28] العاصمي عبد الرحمان بن محمد النجدي. الدرر السنية في الأجوبة النجدية. الطبعة الخامسة بيروت.1994 الجزء 2 الصفحة 313