دور الأفراد في إنفاذ بعض أحكام التشريع الجنائي
صلاح الدين العروسي
أوكل المشرع الجنائي لأفراد المجتمع بعض الصلاحيات الهامة لتحريك أحكام التشريع الجنائي إلى جانب الجهات الرسمية التي أوكل لها المشرع صلاحية إما التثبت من وقوع الجرائم أو تحريك المتابعة فيها والتي تتمثل أساسا في جهاز النيابة العامة.
ويأتي إعطاء هذه السلطات لافراد المجتمع في بت الروح في قواعد وأحكام التشريع الجنائي سواء في الشق الموضوعي أو الاجرائي، يأتي في سياق إيمان المشرع ذاته ووجود مسلمة مضمرة في نفس هذا الأخير مفادها أن الجهات الرسمية في الدولة التي أوكل لها المشرع صلاحية التثبت من وقوع الجرائم وتحريك المتابعة فيها والحفاظ على الامن والسكينة العامة غير قادرة لوحدها على الكشف عن مختلف الجرائم التي تقع داخل المجتمع.
وبالتالي كان من الضروري وضع بعض الأحكام في صلب التشريع الجنائي سواء الشق الموضوعي أو المسطري تخول للافراد صلاحية الحلول محل أجهزة الدولة إما في التبليغ عن الجرائم والكشف عنها أو ممارسة بعض صلاحيات هذه الأجهزة وإيصال الجناة للجهات المخول لها قانونا البحث في هذه الجرائم وإيقاع العقاب على مرتكبيها.
لكن ومع وجود هذه السلطات يبقى الواقع يشهد لنا للقول أن الافراد يعزفون عن ممارسة هذه الصلاحيات إما لسبب أو لأخر وبالتالي ينهار دورهم في المساهمة إلى جانب الجهات الرسمية في الحفاظ على الامن العام والتقليص من الجرائم والحد من تضاعف ما يسمى بالرقم الاسود في علم الاجرام، خصوصا أن المكنة المخولة لهؤلاء الأفراد يكون لها دور استباقي في بعض الاحيان، إن استعمل في الوقت المناسب سياسهم بلا شك من الحد من وقوع بعض الأفعال الإجرامية.
فما هي إذا الأسباب الكامنة وراء عزوف أفراد المجتمع عن ممارسة هذه الصلاحيات؟ وأين تتجلى هذه السلطات الممنوحة للأفراد في التشريع الجنائي المغربي؟
إن عدم تفعيل السلطات المتاحة للافراد في قواعد التشريع الجنائي يسيء إلى الجهود المبذولة من طرف السلطات الرسمية في مجال مكافحة الجريمة وإلى مبدأ سيادة القانون وتطبيقه على المخالفين بما يحقق الردع المطلوب، حيت توجد العديد من الحالات التي ترتكب فيها جرائم معينة علنا أمام أنظار عموم الناس أو في أماكن عمومية أحيانا دون أن يتم التبليغ عنها أو سلوك الاجراءات القانونية لايقاع مرتكبيها في فخ المساءلة الجنائية.
بقدر ما يعتبر تفعيل هذه السلطات والتبليغ عن الجرائم للسلطات القضائية أو الادارية المختصة واجبا قانونيا مفروضا على كل شخص أمكنه ذلك، فإنه يعتبر أيضا واجبا أخلاقيا تمليه المواطنة الملتزمة التي تتلازم فيها الحقوق بالنهوض بالواجبات، لأن ممارسة هذه الصلاحيات أو التبليغ عن الجرائم يحمل في طياته بعد أخلاقي يتجسد في تقديم المساعدة للأخر وكذلك المساهمة في الحفاظ على السكينة والاستقرار داخل المجتمع.
إن عدم تفعيل الأفراد لهذه السلطات يمكن أن يعزى إلى سببين، أولهما هو جهل هؤلاء وعدم معرفتهم لهذه السلطات المخولة لهم معتقدين بذلك أن أمر الحفاظ على النظام العام ومواجهة الجريمة بشتى صورها أمر موكول للجهات الرسمية فقط داخل الدولة، وبالتالي يبقى هنا دور فعاليات المجتمع المدني دور محوري ومهم لتوعية الافراد بالدور المنوط بهم في الكشف عن الجرائم والتبليغ عنها إلى جانب السلطات القضائية أو الادارية المخول لها ذلك، أضف إلى ذلك دور الالة الاعلامية التي يجب أن تعمل هي الاخرى على التعريف بهذه الصلاحيات التي خولها المشرع للافراد من أجل تفعيل بعض أحكام التشريع الجنائي، لأنه في بعض الاحيان تصدر قوانين جديدة تجعل بعض أطياف المجتمع لا يعرفون محتواها وبالتالي يكون الاعلام هو البوصلة وصلة الربط بين التشريع من جهة والمخاطبين به من جهة أخرى.
أما السبب الثاني الذي قد يجعل هؤلاء الافراد لا يعملون على ممارسة هذه الصلاحيات وتفعيلها فهو راجع إلى مجرد عدم الرغبة في ذلك مغيبين بذلك الوازع الاخلاقي عند التعامل مع النصوص التشريعية فلا يلجأون بذلك إما إلى التبليغ عن الجرائم التي تقع أمام أعينهم أو عند العلم بوقوعها أو لا يباشرون الاجراءات القانونية التي خولها لهم المشرع مشككين ربما في وجود إرادة حقيقة تهدف إلى اشراك الجميع في مواجهة الجريمة ليبقى التساؤل الأن عن ما هي تجليات هذه السلطات المخولة للأفراد في التشريع الجنائي.
تتفاوت الاراء حول الصلاحيات الممنوحة للأفراد في ممارسة الصلاحيات المتاحة لهم في الشريع الجنائي بين منوه للجهود المبذولة لمواجهة الجريمة بشتى أنواعها عن طريق وضع سياسة جنائية تشرك المواطنين في عملية مواجهة الجريمة وإصدار نصوص قانونية تكرس ذلك، على غرار التبليغ عن الجرائم وتجريم عدم تقديم المساعدة لشخص في حالة خطر، ومنح الأفراد صلاحية الحلول محل الشرطة القضائية في حالة التلبس وغيرها من الأحكام الواردة في صلب التشريع الجنائي، تختلف هذه المواقف حسب المواقع لكن الأكيد أن التشريع الجنائي يزخر بالصلاحيات التي منحت للأفراد للمساهمة في التصدي لبعض الجرائم.
على مستوى القانون الجنائي الموضوعي ومن أهم المقتضيات التي تعطي للمواطنين مكنة التصدي للجريمة ومواجهتها هي التبليغ عن الجرائم حيت جعله القانون الجنائي واجبا قانونيا، وجعل في الفصول 211 وما يليه من القانون الجنائي التبليغ عن الجرائم التي تمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي مثلا عذر معف من العقوبة في بعض الاحيان وذلك تشجيعا للجناة للعدول عن هاته الجرائم، وحث باقي الافراد على التبليغ عن جرائم الفساد المالي، وإذا كان المشرع جعل التبليغ عن هذه الجرائم واجبا قانونيا فإنه بالمقابل نص في قانون المسطرة الجنائية في الفصل 82-9 على حماية المبلغين عن كل من جرائم الرشوة أو استغلال النفوذ أو الاختلاس أو التبديد أو الغدر أو غسل الاموال أو الجرائم الإرهابية، حيت يحق للمبلغ أن يطلب من وكيل الملك أو الوكيل العام للملك أو قاضي التحقيق كل فيما يخصه، اتخاذ واحد أو أكثر من التدابير المنصوص عليها في الفصل 82-7 وذلك فيه حماية للمبلغ وتشجيعا لهم على المبادرة إلى التبليغ عن هكذا جرائم.
أما على المستوى المسطري، ففي حالة التلبس باعتبارها وصف عيني يلحق بالجريمة، أفرد لها قانون المسطرة الجنائية مقتضيات خاصة تتسم بالفورية في بعض الأحيان للقيام بالاجراءات القانونية اللازمة، أعطى المشرع في الفصل 76 من قانون المسطرة الجنائية الحق لكل شخص عند وجود حالة التلبس بجناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس ضبط الفاعل وتقديمه إلى أقرب ضابط للشرطة القضائية، وهذا المقتضى فيه إشاة قوية على أن السياسة الجنائية أشرك جهات أخرى في انفاذ أحكام التشريع الجنائي وهم أفراد المجتمع، يبقى فقط على هؤلاء التفاعل مع هذا التطور التشريعي والمساهمة في مواجهة الجريمة بذل الإكتفاء في بعض الأحيان على تصوير مشاهد وقوع الفعل الجرمي ونشره عبر وسائل التواصل الإجتماعي، والوقوع في فخ المساءلة الجنائية.
يتضح من خلال ما تقدم أن المشرع الجنائي أشرك في بعض الاحيان الأفراد في عملية الحفاظ على الأمن العام داخل المجتمع والمساهمة في الحد من الجريمة، وذلك ايمانا منه كما قلنا سلفا بأن الحفاظ على الامن العام ومواجهة الجريمة لا يمكن أن تقوم به الجهات القضائية أو الادارية لوحدها، بل يتعين تظافر كل الجهود لذلك خول المشرع للأفراد صلاحية ممارسة بعض السلطات في بعض الاحيان وألزمهم في أحيان أخرى بالتبليغ عن الجرائم التي تصل إلى علمهم، الأمر الذي يؤكد أن السياسة الجنائية عندما توضع فيها توضع بناءا على أسس موضوعية وتضع بالحسبان أن بعض الجرائم لا تستطيع الجهات الادارية لوحدها الكشف عنها، يبقى فقط على الأفراد التفاعل مع التطور الذي يعرفه التشريع، واستحضار الواجب القانوني اولا والأخلاقي ثانيا والعمل على ممارسسة هذه الصلاحيات متى أمكنهم ذلك، وأن تعمل أيضا فعاليات المجتمع المدني على التعريف بهذه الأحكام وحث الأفراد على ممارستها لأن ذلك سياسهم بلا شك في الحفاظ على الأمن العام، ويكشف عن بعض الجرائم التي قد لا تظهر للسلطات المختصة.