الاقتناع الصميم للقاضي وسؤال العدالة الجنائية
إن حرية الأشخاص و حقوقهم لا تأتي إلا بوجود نظام قضاءي كفيل بضمان هذه الحقوق و الحريات ، بحيث يأمن له الناس ، و بواسطته يأمنون على أموالهم و أعراصهم و أجسادهم، بفضل تنفيذ سلطان القانون تطبيقا و تنفيذا بكل حياد و مسؤولية و على قدم المساواة بين الأفراد و الجماعات ، و على هذا الأساس يجب أن توفر له الضمانات الكافية لترسيخ مجتمع ديمقراطي و حر بحيث لا يتأتى ذلك إلا إذا كان القاضي متشبعا بمبادئ حقوق الإنسان ، كما تشكل مبادئ بانكالور لسلوكيات مهنة القاضي صمام الأمان الذي يضمن للقاضي القدرة على العدل و النطق بالحكم العادل و المنصف .
و يعتبر مبدأ الإستقلالية في استصدار الأحكام و القرارات و المقررات القضائية عاملا أساسيا في تحقيق الإقتناع الصميم للقاضي ، بحيث لا يمكن أن تطال الأحكام حجية الشيء المقضي به إلا عن طريق استكمال التصور الحقيقي والموضوعي للقضية لا كما يراها أطراف الادعاء و إنما كما يراها القاضي بتصوره الوجداني و المعنوي للقضية و ذلك لا يكتمل إلا عن طريق فهم القضية موضوع النزاع و جمع مختلف وقائعها و طرح التصور القانوني السليم للحكم بها .(1)
ومن هنا فقد خصص التشريع عبر سياقه التاريخي بصفة عامة تطورا في القناعة الصميمة للقاضي ، و الذي يضم أسلوب الإثبات المادي الجزء الرئيسي منه ، ليكتسي قيمته التشريعية مع التطور الحاصل لنظام السياسة الجنائية في مختلف مراحلها .
وانطلاقا مما سلف ذكره يمكن تقسيم السياق التاريخي لنظام الإثبات الجنائي عبر ثلاث مراحل أساسية و المتمظهرة في :
مرحلة الإثبات الجنائي – مرحلة الإثبات القانوني – مرحلة الإثبات القضائي أو ما يسمى بالمرحلة الوجدانية – مرحلة الأدلة العلمية .(2)
و في دراستنا للنظام الجنائي المغربي بصفة خاصة سنكتفي بمعرفة المراحل الثلاثة فقط لكونها هي المؤثرة بصورة إيجابية على الوضع القانوني الراهن لنظام الإثبات .
و سننطلق في مقالنا هذا لدراسة أهم التطورات في نظام الإثبات الجنائي و مصادره التشريعية و كيف استطاع القاضي الجنائي التعامل مع تقييم و تقدير مختلف شواهد الإثبات الشفهية منها و الكتابية .
و استتباعا لذلك ستكون منهجيتنا لهذا الموضوع وفق ما يلي :
الفقرة الأولى: دراسة الإطار المفاهيمي لنظام الإقتناع الشخصي للقاضي الجنائي
الفقرة الثانية: الإطار القانوني لنظام الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي
الفقرة الأولى: دراسة الإطار المفاهيمي لنظام الإقتناع الشخصي للقاضي الجنائي
يتصدر قانون المسطرة الجنائية الأهمية الكبرى في إبراز مقومات القناعة الشخصية للقاضي الجنائي وفق المقتضيات القانونية للمادة 286 منها و التي تنص على أنه : ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون بخلاف ذلك ، و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم”.(3)
و يستفاد من هذا النص أن قناعة القاضي لا يمكن استنباطها فقط من القناعة الوجدانية له أي أن سلطته في الإقتناع محدودة بقيود قانونية ، بحيث تتجلى هذه الأخيرة في إبراز الإقتناع القانوني بمجموع الأدلة المستفاد بها من طرفي الدعوى و من الحقيقة الواقعية للدعم التي تستتبع توازن الادعاء بين مختلف الأطراف في القضية في سرهم للوقائع المادية حسب كل طرف و بحسب قيمة الدلائل القانونية و التي يكيف مضمونها من طرف القاضي و ذلك ما نصت عليه المادة 287 من ق.م.ج و المادة 365 من بندها الثامن حسب نفس المادة من نفس القانون .(4)
و على ضوء ما تقدم فإن الإقتناع الذاتي للقاضي لا يتأرجح بين أقوال الضحية و المتهم و إنما يعود لتقييم الأدلة التي توضح الحقيقة الواقعية للقضية و التي هي نفسها الرؤية الحقيقية التي يراها القاضي الجنائي لا كما يراها الخصوم في الدعوى الشيء الذي يؤدي إلى اقتناع ذاتي للقاضي في النطق بالحكم الصادر منه وفق تقييمه هو للقضية ككل .
و يستخلص مما مضى أن الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي ينبني بالأساس على اقتناع ضميره بما قدم إليه من أدلة في الدعوى مع حقه في صلاحية الرد لبعض الأدلة التي لا جدوى من ذكرها في القضية .
و يرى الدكتور إبراهيم الغماز أن الإقتناع عبارة عن حالة ذهنية تستنتج من الوقائع المعروضة على بساط البحث ، و هي عبارة عن احتمالات ذات درجة عالية من التأكيد الذي تصل إليه نتيجة استبعاد الشك من اليقين و الذي يتأثر بمدى قابلية الشخص و استجابته للدوافع المختلفة ، و لأنه من تقييم ضمير القاضي .(5)
كما أن العملية القضائية التي تؤدي بالقاضي إلى الإقتناع تنبني على الوقائع المادية التي تطرحها الدعوى الجنائية على المحكمة ، و أنها حالة وجدانية بمعنى أنه نشاط عقلي ينتهي بتحقيق صورة متكاملة لملامح القضية ، و بذلك تصل حرية الإقتناع القضائي إلى الرغبة في تحقيق العدالة الجنائية و تلمس الحقيقة بكل السبل و تساهم في تكوين التوازي بين الحقيقة الواقعية و الحقيقة القضائية باستعمال الدمح بين الوقائع المادية و الوقائع النموذجية و القانونية من جهة أخرى . (6)
الفقرة الثانية : الإطار القانوني لنظام الاقتناع الشخصي للقاضي الجنائي
تبرزلنا القيمة التشريعية للإقتناع الصميم للقاضي الجنائي عبر اطلاعنا لمقتضيات المادة 286 – 325 – 347 من قانون المسطرة الجنائية مما يجعلنا نستحضر مقوما أساسيا و هو الإثبات القانوني و الذي يضم مجمل الدلائل القانونية المكتوبة و الشفهية و التي تعد المرتع الخصب الذي يمارس فيه القاضي الجنائي سلطته التقديرية بدون رقابة و لا قيود (7) .
و من أجل الإلمام بسلطة القاضي الجنائي في تقديره للأدلة القضائية يقتضي بنا الأمر الوقوف عند مختلف وسائل الإثبات و هي : القرائن – الإعتراف – المستندات الكتابية – الشهادة .
أ/ القرائن :
لم يقم التشريع المغربي بإعطاء تعريف واضح للقرينة و لكن عرفها بعض الفقه أنه أسلوب يملك الإمارة المعلومة التي تدل على أمر مجهول على سبيل الظن أو بتعريف أشمل هو استنباط أمر مجهول من أمر معلوم .
و قد صنف التشريع المغربي حسب مقتضيات قانون الإلتزامات و العقود في المادة 449 القرينة إلى قسمين : قرينة قانونية و أخرى موضوعية .
القرائن القانونية :
و هي القرائن التي تستند على ما جيء في التشريع المغربي و هي بدورها تنقسم إلى قرائن قاطعة غير قابلة لإثبات العكس و التي تضم دلائل قانونية قطعية ، كمثال بلوغ الشخص سن 18 سنة شمسية كاملة ، على اعتبار أن هذا السن يعتبر قرينة قانونية واضحة لبلوغ الحدث سن الرشد الجنائي و هي قرينة لا تقبل لإثبات العكس ، و بخلاف القرينة البسيطة القابلة لإثبات العكس نذكر مثال وجود رجل في بيت امرأة ، فهي دليل ضمني للخيانة الزوجية أو لجريمة الزنا و لكن في نفس الوقت يجوز إثبات عكس ذلك ، كأن يدعي المتهم كان لضرورة أو سبب معين يبطل الادعاء الوارد في الوشاية أو الشكاية أو التهمة الموجهة إليه . (8)
القرائن الموضوعية :
و تسمى باقرينة القضائية لأنها تستنتج من مجمل تصور القاضي الجنائي لموضوع القضية و تتميز بالصفة أكثر بحيث تلعب دورا أساسيا في قناعة القاضي الجنائي ، لأن يمكن تقييم قوتها الثبوتية حسب سلطة القاضي التقديرية لطبيعة الجريمة و كيفية ارتكابها .
فإما أن تكون لها قوة ثبوتية كالضبط بالتلبس في جريمة معينة ، و إما أن يكون الإثبات ضعيفا كعدم جدوى ذكره أو متعلق بنية مبيتة يصعب إثباتها أو خيط ضعيف في القضية قيد المداولة و يستحق الطعن فيه بالإنكار (9) .
الشهادة :
و هي من أبرز شواهد الإثبات في القضاء الجنائي و مما لا شك فيه أن المشرع المغربي قد أعطاها قيمتها الثبوتية بمسطرة خاصة نظرا لما يتعرض له الشاهد من أنواع الإبتزاز الذي يهدد مصداقية الشهادة كوسيلة من وسائل الإثبات التي تأخد بها السلطة القضائية على سبيل الاستأناس فقط و ذلك لما تم التنصيص عليه في الفرع الخامس من قانون المسطرة الجنائية الخاصة بالإستماع للشهود و الخبرة ، و لعل الكم الهائل للترسانة القانونية و التي خصص لها المشرع الجنائي المغربي المواد من 325 إلى 347 لخير دليل على القيمة الثبوتية للشهادة كركن أساسي من أركان الادعاء ، غير أن القانون المغربي خصص حيزا هاما في الشهادة للسلطة التقديرية للقاضي بترتيب الشهود و عزلهم في غرف بعيدة عن المتهم و أطراف الادعاء .
كما أن قيمة الشهادة تخضع للمبدأ العام الذي يحكم تقديرها لسلطة القاضي في تكوين قناعته القضائية ، فدور القاضي مهم جدا فيما يتعلق بهذا النطاق لأن للقاضي سلطة مطلقة في استدعاء الشهود للإستماع إليهم و الموجودة أسماؤهم في ملف النازلة أو يستدعي شهودا آخرين ليرى في شهادتهم طريقا مؤديا للوصول إلى الحقيقة (10) ، بل و الأكثر من ذلك خول له المشرع الاستماع إلى شهود امتنعوا عن الحضور و للمحكمة مطلق الصلاحية في عدم التعليل لرفضها لعدم استدعاء بعض الشهود . (11)
الاعتراف :
لم يقم المشرع المغربي بوضع تعريف قانوني للإعتراف و إنما خصص لها المادة 293 من ق.م.ج يستحضر فيها القيمة الثبوتية للاعتراف و حالات التنافي الحاصلة في الاعتراف و المتمثلة في حالة الإكراه و حالة العنف ، وكذا إخضاع الإعتراف إلى السلطة التقديرية للقاضي .
و قد عرف بعض الفقه الاعتراف بكونه ” قول صادر عن المتهم يقر فيه نسبة التهمة إليه كلها أو بعضها (12) و رغم ما للاعتراف من حجة دامغة على ارتكاب الفعل من المتهم إلا أنه يمكن الجزم وفق تيار فقهي معارض (13) لفكرة ” الإعتراف سيد الأدلة ” ، و كونها فكرة فقهية متجاوزة و خير دليل لذلك أن الاعتراف غالبا ما يكون صادرا من شخص مختل عقليا و غير سليم الإتزان فإما أن يكون أبله أو ضعيف العقل لا يقدر جسامة ما يجره عليه اعترافه و إما بصدور ضغط من الضابطة القضائية أو قاضي التحقيق أو المحكمة نفسها .
كما ينساق التيار الفقهي الأخير إلى أبعد من ذلك (14) بحيث يرى ضرورة إحالة المتهم المعترف بالتهم سواء أكانت ضمنية أو قطعية في أن يحال إلى الطبيب الشرعي، و يرفق ملف اعترافه بتقرير مضمن عن طريق الخبرة .
في حين أن غالب الفقه (15) يخص الإعتراف بكونه وسيلة إثبات كباقي وسائل الإثبات الأخرى فهو يخضع للسلطة التقديرية للقاضي طبقا للمادة 293 فالمحكمة ليست ملزمة بإدانة المتهم لمجرد الإدلاء باعترافه بل يجب عليها التحقق من الاعتراف الصادر من المتهم لحماية العدالة الجنائية من الحكم الذي قد يكون مخصصا في حقه نتيجة تهور منه من مرحلة من مراحل الدعوى العمومية و تبقى السلطة التقديرية للقاضي في قبول أو سحب الاعتراف وفق ما إذا اقتصر بأدلة أخرى كقرائن و شهادات ووسائل إثبات مادية متعلقة بطبيعة الجريمة موضوع النازلة (16) .
المحررات الكتابية :
تشكل القيمة الثبوتية و التي تعتبر جزءا لا يتجزء من قناعة القاضي الجنائي في المحررات الكتابية و التي تكمل دليل الشهادة أو تسقطها و ذلك وفق المبدأ الفرنسي السائد Les écrits restent ,les paroles s’envolent ، ففي حديثنا عن المحررات الكتابية لم نجد تعريفا واضحا للمشرع المغربي و إنما اكتفينا بالرجوع إلى قانون الإلتزامات و العقود المغربي و المادتين 418 و 426 المحددان لمواصفات الورقة الرسمية ، حيث يمكن تقسيم المحررات المكتوبة إلى أوراق رسمية و أوراق عرفية ، و يتجلى الفرق في أن الأولى تخضع لكتابات الصفة الرسمية كموظف في قطاع معين ، أما الثانية فمن شخص عادي .
و برجوعنا دائما لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية نجد المادة 294 تنص على أنه : ” لا يمكن أن ينتج الدليل الكتابي من الرسائل المتبادلة بين المتهم و محاميه ” ، ذلك أن المحررات هي جسم جنائي خطير قد يحمل في طياته تزويرا و رصيدا ماديا مجهولا كشيك أو كمبيالة أو سند أمر ، مما يجعل مسألة الخبرة مطروحة في مدى مصداقية الوثائق المعروضة أمام المحكمة (17) .
خاتمة :
تحتل وسائل الإثبات المادية و الشفهية دورا بالغ الأهمية في تحقيق القناعة الصميمة للقاضي الجنائي و التي تنعكس إيجابيا نحو تحقيق قيم العدالة الجنائية ، حيث إن المشرع المغربي أعطى صلاحية واسعة للقاضي الجنائي في تحديد قيمة لقوة ثبوتية الأدلة المادية و الشفهية القانونية منها و العرفية و العلمية و أعطى له سلطة التقدير في الوصول إلى الحقيقة الواقعية و الوقائعية للنازلة ليستعرض بها مجمل مقومات القضية و يحدد وفق قناعاته الموضوعية و القانونية طبيعة الحكم الواجب التطبيق ، و ليساهم في إثراء الإجتهاد القضائي وفق هذه الصلاحيات الواسعة و يبلور المفهوم الجديد للقاضي عموما لا كقاضي تطبيق القانون و لكن كقاضي الإجتهاد في تطبيق القانون و توسيع الإطار المفاهيمي لمصطلح ” القاضي المشرع “.
المراجع المعتمدة :
1/ محمد الأزهر ، السلطة القضائية في الدستور – طبعة سنة 2013 – ص: 89 .
محمود نجيب حسني ، شرح قانون الإجراءات الجنائية ، الطبعة الثانية ، دار النهضة العربية ، 1988 ، ص : 409 .
2/ سعيد كوكبي ، الإثبات و سلطة القاضي في الميدان المدني ، دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع ، 2005 ، ص : 6 .
3/ المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية المغربي .
4/ المادة 287 و 365 من قانون المسطرة الجنائية المغربي .
5/ إبراهيم الغماز ، الشهادة كدليل إثبات في المواد الجنائية ، رسالة دوكتوراه ،كلية الحقوق ، جامعة القاهرة ، ص : 56 .
6/ لحسن بيهي ” اقتناع القاضي و دوره في الإثبات الجنائي ” . مجلة أنفاس الحقوقية ، عدد 33 ، 2003 – ص : 119 .
7/ المادة 286 ، 325 ، 347 من قانون المسطرة الجنائية المغربي .
8/ المادة 449 من قانون الإلتزام و العقود تنص أنه ” القرائن هي دلائل يستخلص منها القانون أو القاضي وجود وقائع غامضة و تسمى كذلك القرائن الإقناعية أو الفعلية أو القضائية .
9/ عبد السلام بنحدو ، الوجيز في شرح ق.م.ج المغربي ، الطبعة الرابعة ، 2001 ، ص: 187 .
10/ المواد من 325 إلى 347 من ق.م.ج المغربي .
قرار عدد 7092 بتاريخ 3 يونيو 1983 ، المصدر : مجموعة قرارات المجلس الأعلى للمادة الجنائية ، الجزء الأول ، ص : 464 .
11/ عبد السلام بنحدو ، مرجع سابق ، ص : 192 .
12/ ادريس النوازلي ” الاعتراف كوسيلة اثبات في الميدان الزجري و دور الخبرة الطبية في جريمة التعذيب ، مجلة المحامي ، العدد 47 ، ص : 231 .
13/ ادريس لكريني يعتبر : أن الاعتراف ليس سيد الأدلة إلا فيما يتعلق بالميدان المدني .
14/ أحمد أجوييد ” شرح قانون المسطرة الجنائية ” – ص : 177 .
15/ ادريس النوازلي م.س، ص: 233 .
16/ ندعوكم للرجوع إلى مضمون المادة 293 من ق.م.ج المغربي .
17/ هلالي عبد الإلاه أحمد ” النظرية العامة للإثبات الجنائي ” – دار النهضة العربية – ص : 1180 .
الرجوع إلى مضمون المادة 294 من قانون المسطرة الجنائية المغربي .