العربية لغة تحرير العقود بين واقع التعاقد وقوانين التوثيق
إن المتتبع للشأن التعاقدي بالمغرب وما يحويه من ملاحج قانونية ومضائق حقوقية يكادُ يُجزم أننا أمام ظواهر تعاقدية غير صحية لا تراعى فيها أحيانا أبسط معايير العدل والإنصاف وتنتقل بنا من مفهوم سلطان الإرادة إلى مفهوم التسلط الإرادي.
هذا بلا منازع يُخلف آثار وخيمة على المشهد الحقوقي بالبلد وبالتبعية آثار سلبية على مستوى الحقل التشريعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لئن كان في فقه القانون المدني قاعدة مشهورة تنص على أن العقود غابن ومغبون فإن ذلك رهين وبصيغة الأمر دفع هذا المبدأ وعدم جوازه ورفع الحرج على المتعاقد البسيط قليل الخبرة والمعارِف خصوصا عندما يكون الطرف الأول خبيرا بأمور القانون والواقع، أما إذا تعلق الأمر بأطراف متساوية النظر فإن ذلك لا يطرح أي إشكال من ناحية التغابُن ومن ناحية توازن قِوى العقود.
إن من بين الصعوبات التي يعرفها الوطني الحامل لقيم الأصالة المغربية الأمازيغية العربية كفيل للقول بأن أكثر الأشياء التي تجعله يقع في المحظور جراء التعاقد هو عدم إدراكه للغة العقد ومن تم عدم فهمه لمقاصد تلك البنود ومن تم دخول غمار التنازع.
من جهة قضائية، فقد صنف قضاء النقض المتعاقد الجاهل غير المدرك للغة العقد بالأمي وبالتالي طرقا من طريق استبعاد العقد من الأساس.
إننا أمام تحدي تشريعي من طرف أصحاب المال والأعمال تحدي يتم من خلاله طمس هوية المتعاقِد بشكل واضح المعالم عن طريق تفصيل العقود على هوى ومقاس رب المال ولو كان ذلك على حساب القانون نفسه.
من هذا المنطلق يجعلنا نطرح مجموعة من الأسئلة نختزلها في ثلاثة وسنناقش كل سؤال على حدة تباعا.
أي لغة قانونية وقضائية أردناهَا أن تكون؟
معلوم أن المغرب كسائر أغلب بلدان شمال أفريقيا الذين فرضت عليهم الحماية الفرنسية وبالطبع هذا ترك آثار على مستوى ثقافة هذه الشعوب ولغاتها على مستوى الأفراد فيما بينهم ثم على مستوى المؤسسات التابعة للدولة.
والقضاء بدوره وباعتباره من المرافق الأساسية داخل أي دولة لم يخرج عن هذه الزمرة وبعد فرض الحماية بالمغرب ظهرت محاكم سميت فيما بعد محاكم عصرية تشبه تلك المحاكم الفرنسية في شكلها وجوهرها.
بالطبع المغرب تطبع بنظام الدولة الحامية إلى أن صارت اللغة الفرنسية لغة شبه رسمية داخل المحاكم حتى بعد الاستقلال إلى أن صدر ظهير 26 يناير 1965 المتعلق بمغربة وتوحيد القضاء وتعريبه.
بعد هذا الظهير صدرت مجموعة المراسم والنصوص التنظيمية والدوريات الوزارية التي تؤكد على نفس الغاية.
من جهة أخرى وعلى مستوى السياسيات العامة للدولة تم الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية للبلاد منذ دستور 1962 إلى الدستور الحالي دستور 2011 الذي جاء بمدأ راهنية اللغة العربية والرسمية التي تتمع بها ثم الحث على استعمالها.
تنص الفقرة الأولى والثانية من الفصل 5 من الدستور على يلي: “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة.
وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها.”
ورجوعا إلى تعريب القضاء الذي وإن صدر في حقه ذلك الظهير المعروف كانت اللغة العربية فقط تستعمل فقط في الأحكام والمرافعات ثم إن المستندات والعقود التي يستدل بها الأطراف كانت بلغات أجنبية ولاسيما اللغة الفرنسية رغم أن القضاء المغربي كان لا يعتبر هذا تعارضا مع ما جاء في ظهير 26 يناير 1965 وهذا بالطبع خلف العديد من الإشكالات بين المتقاضين خصوصا عندما يستدل أحد الأطراف بمستندات كالعقود مثلا بلغة أجنبية والطرف الثاني لا يستطيع مناقشة تلك الحجة نظرا لعدم قدرته على قراءة ما بها لأنه لا يُتقن تلك اللغة المحررة بها
هذا بالفعل ما دفع وزير العدل الأسبق محمد بوزوبع إلى إصدار تلك الدورية المشهورة التي جاء فيها ما يلي:
“…وبعد، لا يخفى عليكم أن المشرع، انسجاما مع الدستور المغربي الذي أكد في تصدريه على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، أقر مبدأ تعريب القضاء بمقتضى الفصل 5 من ظهير 26 يناير 1965 المتعلق بتوحيد القضاء ومغربته وتعريبه.
إلا أن الملاحظ أن البعض يذهب إلى أن اللغة العربية تسرى على الأحكام والمرافعات فقط ولا تسري على الوثائق والمستندات، وتبعا لذلك لا يلجأ إلى ترجمة هذه الأخيرة من اللغة الأجنبية رغم تسمك أحد الأطراف بذلك.
وإذا كان العمل القضائي قد أجاز في بعض قراراته بان الاستدلال بوثائق محررة بلغة أجنبية لا يتعارض مع ما جاء به قانون التعريب، استنادا على أن اللغة العربية مطلوبة في المرافعات والمذكرات لا في العقود والمستندات، فإن الأجدر، وتفاديا لكل نقاش، وانسجاما مع الروح التي استقاها المشرع من التعريب فانه يطلب من الأطراف الذين استدلوا بوثيقة محررة بلغة أخرى أن يقوموا بترجمتها إلى اللغة العربية لاسيما إذا تمسك بها أحد أطراف النزاع.”
من خلال ما سلف ألا يدفعنا هذا للتساؤل اليوم عن مدى احترام كل هذه المبادئ المسطرة منذ أزيد من 30 سنة وأكثر، ثم لماذا اليوم لا زال المهنيون يقدمون للمحكمة مستندات بلغات أجنبية دون ترجمتها أليس هذا خرقا لمبدأ حقوق الدفاع ثم إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية موضوعنا المتعلق بتحرير العقود وضرورة ترجمتها أو تحريرها من الأساس بالعربية يدفعنا مُباشرةً إلى طرح التساؤل المتعلق بواقع التعاقد بالمغرب وهو ما سنراه في الطرح الآتي.
واقع التعاقد بالمغرب وظروف مجلس العقد؟
إن واقع التعاقد بالمغرب لايخرج عن أمرين إما تعاقد عادي بين شخصين تقريبا يمتلكان نفس المؤهلات القانونية أو بين شخصين يملكان إمكانيات متفاوتة.
وهذا التعاقد الثاني في الغالب ماينشب عنه مختلف النزاعات وهو في الغالب أي هذا التعاقد الأخير ما يبدأ بالإعلانات و الإشهارات عبر مختلف وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي الكلاسيكية والحديثة وفي الغالب ما تثار مسألة اللغة كأحد أبرز المسببات التي تُشعل فتيل النزاع.
لاشك أن لغة التفاوض ولغة التسويق ولغة الإشهار تختلف تماما وكليا عن لغة التعاقد الشيء الذي يدفع البعض إلى التمسك بجهله للغة العقد وهذا بالطبع يدفعنا للرجوع إلى مجلس العقد والبحث في ظروفه وكيف تمر هذه العقود، فالواقع لا يُرتفع عليه وبالعودة إلى مُختلف العقود التي يتم إبرامها بين هذه الأشخاص هناك تفاوت حقيقي خاصة في تلك العقود التي تكون بين الشخص الاعتباري والشخص الذاتي.
الشخص الاعتباري المتجسد في شكل شركة ونذكر على سبيل المثال شركات بيع العقارات المخصصة للسكن الاقتصادي وشركات الاتصال والقروض وشركات التأمين وغيرهم من الشركات التي تتعامل مباشرةً مع المواطن. هذه الشركات تقوم بإعداد وصناعة وصياغة العقد عن طريق مستشاريها القانونيين العاملين لديها وبتعبير أدق أجراءها وهذه العقود مُعظمها مُحررة باللغة الفرنسية.
في مقابل هذا، يكتفي الطرف الثاني في الغالب المواطن مهما كانت درجة وعيه بالقانون يكتفي فقط بقراءة العقد ويبقى له الحق في قبول مابه أو رفضه هذا إن كان دارسا لتلك اللغة رغم وعيه بالقانون، أما الطرف غير الدارس لتلك اللغة فإنه سيكتفي بالتوقيع فقط أما عن بنود العقد فقد توصل بما يريد سماعه – أو أريدَ له – من طرف مأجوري الشركة دون شرح كل بند على حدة حتى يتسنَّ له التوقيع أو ترك ذلك من البداية.
ونأخذ مثال “عقد بيع عقار في طور الإنجاز” بين شركة عقارية مكلفة ببيع السكن الاقتصادي وبين المواطن، حيث حث المشرع البائع في هذه الحالة قبل الدخول في تفاصل عقد البيع لابد من إبرام عقد الحجز أو عقد التخصيص ومدة هذا العقد أي عقد التخصيص لاينبغي أن تتعدى 6 أشهر هذا من حيث القانون أما الواقع فهذه العقود قد تطول لمدة تفوق السنتين، ثم مدة العدول عن عقد التخصيص وهي شهر حيث يمكن للمعني أي الراغب في شراء العقار الرجوع على هذا العقار وطلب إرجاع المبلغ الذي أدّاه داخل أجل شهر من تاريخ توقيعه على عقد التخصيص أما من حيث الواقع فالمعني بالأمر لا يتوصل قطعا بهذه المعلومات والسبب أن لغة العقد أي عقد التخصيص حرر بلغة لا يفقه فيها هذا المشتري إلا اسمها الذي سميت به.
هذا الشخص نفسه هو الذي يدخل في نزاع مع مثل هذه الشركات بسبب جهله للغة العقد أما إذا تخطى الأمر عقد التخصيص إلى العقد الابتدائي والعقد النهائي الذي يقوم بتحريره طرف مهني وهو في هذه الحالة الموثق -كما ينص على ذلك القانون- فإن أمر خرق أجل 6 أشهر كأجل انقضاء عقد التخصيص يُتستر عنه والسبب أن هؤلاء المهنيين المحررين لعقود البيع يعملون بطريقة غير مباشرة لدى هذه الشركات التي تملك تلك العقارات.
النتيجة في الأخير عدم توازن أطراف الرابطة العقدية، إذ طرف مطوق برجال الاعمال والقانون يُتقنون ما يتقنون من اللغات مما يمكنهم من تحرير عقود بلغات أجنبية وهم يعلمون أن أغلب هؤلاء الزبناء يتحدثون العربية وطرف ثاني وحيد لا يملك إلا التوقيع ثم الدفع، هذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول وجهة نظر قوانين التوثيق وهو ما سنراه عبر الآتي.
وجهة نظر قوانين التوثيق في شأن اللغة العربية؟
عندما نتحدث عن قوانين التوثيق فإننا نعني بذلك النصوص القانونية المهنية المنظمة لكيفية تحرير العقود وهنا نعني بالدرجة الأولى القانون 16.03 المنظم لمهنة خطة العدالة أو مهنة العدل الموثق وكذلك القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق أو مايسمى بالموثق العصري.
ثم بعض النصوص المتفرقة هنا وهناك في بعض القوانين المهنية كالقانون 28.08 المنظم لمهنة المحاماة والقوانين الموضوعية كظهير الالتزامات والعقود ومدونة التجارة ومدونة الحقوق العينية وكذلك بعض القوانين الاحترازية كالقانون 31.08 المُحدد لتدابير حماية المُستهلك.
بالرجوع إلى المادة 42 من القانون 32.09 المنظم لمهنة الموثق العصري حيث نجدها بشكل واضح تنص على اللغة الواجبة في التحرير والتي ينبغي على الموثق اتباعها في تحرير العقود وهي اللغة العربية.
جاء في هذه المادة ما يلي:
“تحرر العقود والمحررات باللغة العربية وجوبا، إلا إذا اختار الأطراف تحريرها بلغة أخرى.
تحرر أصول العقود والنسخ بكيفية مقروءة وغير قابلة للمحو على ورق يتميز بخاصية الضمان الكامل للحفظ.”
فكما هو مبين من خلال الفقرة الأولى من المادة المذكورة أن المشرع نص على وجوبية التحرير باللغة العربية مع الاستثناء الوحيد وهو اختيار كِلا الطرفين للغة أخرى وليس طرف واحد.
بالرجوع أيضا إلى المادة 30 في فقرتها الأخيرة من القانون 16.03 المنظم لمهنة العدل الموثق حيث نجدها هي أيضا جاءت بصيغة الوجوب وحثت العدل على تحرير العقود والشهادات باللغة العربية.
جاء في هذه الفقرة ما يلي:
” ….
تكتب الشهادة وجوبا باللغة العربية، وينص فيها على اللغة الأجنبية أو اللهجة التي تم بها التلقي إذا تعلق الأمر بغير لغة الكتابة.”
مما سلف يظهر جليا أن هذه النصوص جاءت واضحة النظر في مسألة تحرير العقد بالعربية وبصيغة الوجوب وتركت الباب مفتوحا أمام أطراف الرابطة العقدية في اختيار اللغة التي يرونها مناسبة لهم، أين الواقع من هذا كله؟
ثم من جهة أخرى إذا دققنا النظر قليلا في هذه النصوص سنجدها وإن جاءت بصيغة الوجوب إلا أنها لم تكن صارمة، ذلك أنها أغفلت أو تغافلت ذكر الآثار القانونية التي ستترتب جراء الإخلال بتلك المقتضيات لا على مستوى المادة 30 من قانون خطة العدالة ولا على مستوى المادة 42 من قانون التوثيق العصري.
إن ما يؤكد نية المشرع في عدم ذِكره للأثر القانوني المترتب جراء خرق القانون -وهو في هذه الحالة تحرير العقود بغير اللغة العربية- هو ما تم التنصيص عليه في المادة 43 من قانون التوثيق العصري مباشرة بعد المادة 42 حيث نص على الأثر في حالة خرق بعض الشروط الواحب توفرها في بعض بيانات صحيفة العقد.
حيث جاء في الفقرة الاولى من المادة 43 من قانون التوثيق العصري ما يلي:
“تذيل أصول العقود – تحت طائلة البطلان – بالأسماء الكاملة وتوقيعات الأطراف والترجمان والشهود إن وجدوا، ثم الموثق مع خاتمه.
…. ”
كما هو مُلاحظ، المشرع وضع الأثر قبل الحديث عن الشروط وهذه قرينة على أنه تغاضى ذكر الأثر القانوني في المادة 42 قبله ليكون بذلك قد ساهم في بلورة الإشكال الواقعي المتعلق بالأثر القانوني.
كان على المشرع اسوة بالمادة 43 أن يضع الأثر وهو يُعالج وجوبية اللغة العربية وهو في هذه الحالة البطلان.
هذا من جهة ومن جهة أخرى إذا بحثنا قليلا في بعض القوانين الاحترازية كالقانون 31.08 المحدد لتدابير حماية المُستهلك ولاسيما المادة 206 منه حيث جاءت لعموم المتعاقدين وبالضبط الموردين أرباب الشركات حيث نصت على ما يلي: “إن كل عقد حرر بلغة أجنبية يُصطحب وجوبا بترجمة إلى العربية.”
أما عن الأثر القانوني في حالة خرق هذا المقتضى التشريعي فقد تم التنصيص عليه قبل وهو أثر زجري فقط.
جاء في المادة 194 من ذات القانون على أنه: “يعاقب على كل مخالفة لأحكام المادة 206 بغرامة مالية من 2000 إلى 5000 درهم.
من خلالِ هذه المقتضيات يتضح أن العقود والأطرف درجات، حيث إذا تعلق الأمر بالوطنيينن وجب أن نكون أمام عقود باللغة العربية أما إذا تعلق الأمر بالأجانب أو العقود التي تبرم مع الأجانب فهي قليلة جدا مقارنة مع العقود المُبرمة مع الوطنيين والمشرع ترك للأطراف اختيار اللغة المناسبة وعيا منه بهذه الحالات الاستثنائية.
مما سلف يتضح أن قوانين توثيق العقود ومسألة اللغة العربية هي مسألةُ تلازم ومسألة إلزامية على مستوى كِلا العقود سواء تعلق الأمر بعقود عرفية أو عقود رسمية وهو ما يُبينُ مجموعة من الخروقات السافرة للقانون على مستوى الواقع من طرف أصحاب الشركات وكذا بعض المهنيين المعهود إليهم تحرير العقود وصيانة حقوق الأفراد.
لكن المشرع المغربي تغافل ذكر الأثر في حالة خرق هذا الأصل أي اللغة الواجبة في التحرير – اللغة العربية- وهو في هذه الحالة البطلان والبطلان في فقه القانون لا يكون إلا بنص.