مبادئ المحكمة الجنائية الدولية
تستند المحكمة الجنائية الدولية على مجموعة من المبادئ القانونية الغاية من إقرارها تحقيق عدالة جنائية دولية، هذه المبادئ منها ما تتبناه القوانين والتشريعات الداخلية للدول الأعضاء في نظام روما وذلك مراعاة للإنسجام بين هذا النظام والقوانين الوطنية، ومنها ما انفردت به هذه المحكمة نظرا لطبيعة إختصاصها النوعي إذ تنظر في الجرائم التي تتميز بالخطورة والبشاعة، وسنحاول من خلال هذا المقال التطرق إلى المبادئ الأساسية المشتركة في نقطة أولى، على أن نبرز المبادئ الخاصة بنظام روما في نقطة ثانية.
أولا : المبادئ المشتركة
يعد مبدأ الشرعية أو مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص من أهم الضمانات الأساسية لحماية الحقوق والحريات، ويقصد به أنه لا يمكن اعتبار نشاط معين جريمة إلا إذا كان يجرمه القانون، وقد أكدت المادة 22 من نظام روما على هذا المبدأ وضرورة التقيد به.
كما نصت المادة 23 من هذا النظام على مبدأ شرعية العقوبات إذ لا عقوبة إلا بناءا على نص قانوني، وقد اعتمد نظام روما على نوعين من العقوبات، العقوبات السالبة للحرية وتشمل السجن المؤبد والسجن المؤقت والغرامات المالية والمصادرة.
ويشكل مبدأ عدم رجعية القاعدة القانونية من بين نتائج مبدأ الشرعية، ويقصد به أن القاعدة الجنائية تسري بأثر فوري أي على الجرائم التي ترتكب في ظل وجود القانون الزاجر، وقد نصت على هذه القاعدة مقتضيات المادة 24 من نظام روما.
كما يعد مبدأ قرينة البراءة من أهم المبادئ الأساسية المشتركة بين نظام روما والقوانين الوطنية،ويقصد به أن كل متهم أومشتبه فيه بريء إلى أن تثبت إدانته بمقتضى حكم بات، وقد أكدت المادة 66 من نظام روما على هذا المبدأ الذي وبدون شك يشكل ضمانة أساسية لكل متابع، والذي يرتبط بمبدأ الشرعية الجنائية، كما يترتب عليه بعض النتائج والمتمثلة أساسا في إلقاء عبئ الإثبات على النيابة على لا على المتهم، وكذا تفسير كل شك لمصلحة المتهم.
ومن المبادئ المشتركة أيضا نجد مبدأ الحق في محاكمة قانونية، إذ نصت المادة 67 من نظام روما على ضرورة تمتيع كل شخص بضمانات المحاكمة العادلة، وذلك من خلال إستفادة كل متهم من الحق في تبليغه بالتهمة الموجهة إليه وكذا الحق في الدفاع من خلال إستفادته من خدمات محامي والحق في محاكمة في وقت معقول.
ونصت المادة 20 من نفس النظام على مبدأ عدم جواز المعاقبة على ذات الجريمة مرتين،أي لا يمكن أن يتابع أو يحاكم نفس الشخص من أجل ذات الأفعال الإجرامية، ويعد هذا المبدأ من المبادئ المرتبطة بحقوق الإنسان وبشروط المحاكمة العادلة.
كما تبنى نظام روما مبدأ التقاضي على درجتين وذلك من خلال الطعن عن طريق الإستئناف ضد الأحكام القضائية الصادرة عن الدائرة الإبتدائية، والتي تكون مشوبة بأحد العيوب التي حصرتها المادة 81 وهي وجود خطأ جوهري في القانون أو الخطأ في الواقع أدى إلى سوء تطبيق العدالة أو خطأ في الإجراءات أو عدم التناسب الواضح بين الجريمة والعقوبة.
فإذا توافرت إحدى هذه الحالات يحق للمدعي العام والمحكوم عليه الطعن بالإستئناف عن طريق إيداع تقرير الإستئناف موضحا أسبابه، وينعقد للدائرة الإستئنافية حق النظر في هذا الطعن وهي تتمتع بصلاحيات واسعة إذ لها أن تلغي أو تعدل الحكم الإبتدائي، كما لها أن تأمر بمحاكمة جديدة أمام الدائرة الإبتدائية بتشكيلة مختلفة، ويصدر الحكم بأغلبية القضاة ويكون النطق به في جلسة علنية كما يجب أن تكون الأحكام معللة وأن تتضمن أراء الأغلبية وأراء الأقلية من القضاة طبقا للمادة 83 من النظام.
كما أقر نظام روما بإمكانية الطعن بإعادة النظر وذلك أمام نفس الجهة القضائية التي أصدرت الحكم المطلوب إعادة النظر فيه، وقد حدد هذا النظام من خلال المادة 82 حالات إلتماس إعادة النظر وهي :
– اكتشاف أدلة جديدة على قدر كبير من الأهمية لو كانت قد اكتشفت وقت المحاكمة لتغير منطوق الحكم.
– إذا كانت الأدلة التي بني عليها الحكم مزيفة أو مزورة أو ملفقة.
– إذا ارتكب أحد القضاة سلوكا جسيما أو إخلال بواجباته على نحو يكفي لعزل ذلك القاضي.
فبتوافرإحدى هذه الحالات يمكن تقديم إلتماس إعادة النظر مع تبيان الأسباب والمستندات المؤيدة للطلب، ويكون القرار الصادر بعد النظر في طلب إعادة النظر قاضيا إما بالرفض أو القبول وفي الحالة الأخيرة يتم إعادة الملف إلى الشعبة الإبتدائية.
ثانيا : المبادئ التي تنفرد بها المحكمة الجنائية الدولية.
نص نظام روما على العديد من المبادئ التي تميز عمل المحكمة الجنائية الدولية، ومن أهم هذه المبادئ نجد مبدأ عدم الإعتداد بالحصانات القضائية والذي نصت عليه المادة 28 من هذا النظام، ويقصد به إمكانية متابعة أي شخص ارتكب جريمة بموجب القانون بغض النظر عن صفته الرسمية وذلك على خلاف التشريعات والقوانين الداخلية التي تمتع بعض الأشخاص بالحصانة القضائية.
ومن المبادئ كذلك المميزة لعمل هذه المحكمة نجد مبدأ عدم تقادم الجرائم والعقوبات، إذ نصت المادة 29 على عدم خضوع الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية للتقادم، وهذا راجع إلى طبيعة الجرائم التي تختص بها هذه المحكمة والتي تتميز بالبشاعة والخطورة.
كما قرر نظام روما مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية للأشخاص الطبيعة من خلال المادة 25 إذ أن هذه المحكمة لا تنظر…إلا في الجرائم المحددة والتي تدخل في اختصاصها والمرتكبة من طرف الأشخاص الذاتيين دون الأشخاص المعنوية.
كما ويعد الإدراك والتمييز مناط المسؤولية الجنائية الدولية إذ لا تقوم إلا بتوافرهما، ولم يفرق نظام روما بين أسباب الإباحة والتبرير وبين موانع المسؤولية الجنائية، وتتحدد أسباب انتفاء المسؤولية الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية في العاهات العقلية وهي قصور في الملكات الذهنية للشخص تؤدي إلى إعدام الإدراك لديه،ففي حالة ارتكاب شخص جريمة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وهو مصاب بعاهة عقلية يكون عديم المسؤولية الجنائية،كما يؤدي السكر الإضطراري إلى اضطرابات في الإدراك وحرية الإختيار بحيث يفقد الشخص وهو في حالة سكر السيطرة على أفعاله، وهذا ما حددته المادة 31 من نظام روما التي نصت على أن السكر الإضطراري يعد مانعا من موانع المسؤولية الجنائية الدولية.
كما أكد هذا النظام في المادة 31 على أنه لا يمكن مساءلة أي شخص إذا كان في حالة دفاع شرعي أثناء ارتكابه لجريمة دولية تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية،وذلك إذا كان يتصرف على نحو معقول للدفاع عن نفسه أو عن شخص آخر أو يدافع عن ممتلكات وذلك بطريقة تتناسب مع درجة الخطر الذي يهدده.
ويشكل كذلك الإكراه باعتباره إجبار مادي أو معنوي على شخص لدفعه إلى ارتكاب جريمة دولية،مانعا من قيام المسؤولية الجنائية الدولية، والإكراه المادي يقصد به استحالة مقاومة قوة خارجة عن إرادة الشخص تفقده إرادته عن إتيان السلوك الإجرامي، أما الإكراه المعنوي فهو التأثير على إرادة الشخص من طرف شخص آخر.