ملخص أطروحة دكتوراه – المسائل المعترضة في المسطرة الجنائية
إن للإنسان مع الجريمة علاقة قديمة قدم تاريخه، وعبر التاريخ تطورت الجريمة وتطور معها الجزاء وتنوعت آليات إنزاله. وضل الجزاء راسخا في الأذهان بحسبانه تعبيرا عن معادلة طبيعية عادلة لازمة لنجاة البشرية واستقرارها في حياة آمنة مطمئنة تحت مظلة القانون وسلطانه.
ويستمد القانون قوته من احترام آدمية الإنسان، فالقانون الذي يحقق الاحترام للإنسان إنما يدفعه لاحترامه، واحترام القائمين على تنفيذه.
ومن هنا تأتي الأهمية الظاهرة لقانون المسطرة الجنائية ونبل هدفها في الملائمة بين ضمان فاعلية القانون العقابي في حمايته للمصالح التي رصدت لها قواعده، وبين ضمان الحرية الفردية. فهدف قانون المسطرة الجنائية إذن ليس هو كشف الحقيقة بعيدا عن احترام حرية الإنسان وصون كرامته وتأكيد ضماناتها، إذ لا قيمة للحقيقة التي يتم بلوغها على حساب الحرية وامتهان الكرامة الآدمية.
وعليه إذا كان القانون الجنائي هو قانون التجريم والعقاب، فإن قانون المسطرة الجنائية هو قانون الشرعية والتكريم، فقواعده تسعى إلى تحقيق عدالة تصان بها حقوق الأفراد وحرياتهم عن طريق جملة من الضمانات التي تؤمن حقوق الدفاع وترعاها. وهو أيضا قانون ذو طابع خاص، فهو يؤكد على حماية المصالح الحقيقية للفرد والجماعة في آن واحد، إذ تتضمن قواعده مجموعة من الأصول العامة تحكم تطبيقاته العملية، بحيث لا يجوز تجاوزها أو مخالفتها سواء من حيث الإجراءات التي ينبغي اتخاذها وفق ما قرره المشرع، أو من حيث السلطة العامة التي حددها المشرع وأناط بها اتخاذ هذه الإجراءات.
فقانون المسطرة الجنائية ليس مجرد قواعد شكلية تنظم الدعوى الجنائية وتبين إجراءاتها والسير فيها إلى أن تصل إلى نهايتها، بل إن هذه القواعد تذهب أبعد من ذلك، بهدف تحقيق مبدأ سيادة القانون، وحسن سير العدالة وانتظام الحياة داخل المجتمع في ضل قضاء مستقل يقوم على تطبيق القانون بحياد تام، يحقق العدالة ويرضي الشعور العام بها.
والمشرع في تنظيمه لقانون المسطرة الجنائية، يحرص دوما على مراعاة مبدأ الملائمة بين مصلحتين هما ضمان الحرية الفردية تطبيقا لمبدأ أن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته، ولا يكون ذلك إلا من خلال حكم قضائي قطعي، وضمان فعالية القانون الجنائي في حمايته للحقوق والمصالح الاجتماعية من الاعتداء، بوضعه موضع التنفيذ من خلال إجراءات قانونية صحيحة وسليمة. ومعنى ذلك، أن فعالية القانون الجنائي لا يمكن أن تتحقق، إلا بتنظيم الإجراءات التي بمقتضاها ومن خلالها، يتم توقيع العقاب على من تثبت إدانته بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في القانون.
وبالتالي فقانون المسطرة الجنائية هو الذي يرسي ويؤكد مبدأ سيادة القانون من خلال إبطاله لكل إجراء مخالف للقانون، ومن خلال إعمال مبدأ المساواة بالنسبة للمخاطبين بأحكام هذا القانون، مما سيؤدي إلى تحقيق العدالة. وبإمعان النظر، نجد أن مبدأ سيادة القانون مستمد أساسا من مبدأ تحقيق العدالة وعلى هذا الأساس، ونظرا للروابط الوثيقة التي تربط قانون المسطرة الجنائية بتحقيق مبدأ سيادة القانون وبتحقيق العدالة، فإن قواعد هذا القانون يجب أن توضع بعناية فائقة، إذ يجب أن تكون جميع الإجراءات المتعلقة بالتحقيق والمحاكمة متروكة لجهة قضاء محايدة ومستقلة، كما يجب أن يتوافر في صياغة هذه القواعد أكبر قدر من الوضوح، لأن غموض النص يفتح الباب واسعا أمام الخطأ والتحكم، مما يسيء بالتالي إلى حسن سير العدالة.
وعلى ذلك، فإن قانون المسطرة الجنائية، ولكونه ينظم حق المجتمع في الدفاع عن نفسه إزاء الجريمة، من خلال مجموعة من القواعد القانونية التي وضعت سلفا لتسير عليها المحاكم ورجال السلطة القضائية، فإنه يأبى أن تطبق أي عقوبة على أي كان مهما بلغت درجة الضرر الذي أحدثه من جراء ارتكاب الجريمة، قبل أن تتخذ بحقه إجراءات التحقيق المنصوص عليها في القانون، وقبل أن يحاكم أمام المحكمة التي حددها القانون، وهذه القاعدة يعبر عنها باصطلاح “قضائية العقوبة” وهي تعني أنه لا يجوز للدولة ولا للأفراد أن تقتص من المجرم بتطبيق العقاب عليه، إلا بعد إجراء محاكمة قانونية أمام محكمة مختصة، حتى لو تم ضبطه بالجرم المشهود واعترف اعترافا صريحا بارتكاب الجريمة ورضي رضاء صريحا بقبول هذه المعاقبة المباشرة.
ولأن قانون المسطرة الجنائية هو وسيلة المجتمع العملية لتحقيق العدالة والأمن فيه، عن طريق التعرف على مرتكبي الجرائم وملاحقتهم ومؤاخذتهم على ما اقترفوه بأيديهم، فلا بد أن تكون قواعده مفهومة وبسيطة، بحيث يتيسر لرجل القانون المختص تطبيقها ليصل المجتمع بذلك إلى إعمال قواعد قانون العقوبات، فتستقر الأمور وتشيع الطمأنينة في نفوس الأفراد، ويجازى المسيء، وتظهر براءة من لا صلة له بالجريمة. وكلما كانت قواعد المسطرة الجنائية بسيطة وحاسمة، كلما كانت أكثر مراعاة لحقوق الأفراد وأكثر تحقيقا للعدالة، وخاصة عند الكشف عن الفاعل الحقيقي للجريمة، فتظهر براءة من أوقعته ظروف معينة ووضعته موضع الاتهام. لذا، فقد أطلق على تشريع المسطرة الجنائية قانون الشرفاء لأنه يعنى بإظهار الحقيقة ويحرص على مبدأ أن الأصل في الإنسان البراءة، في حين يطلق على قانون العقوبات قانون الأشقياء لأنه ينص على توقيع العقوبة على من ثبت أنه خالف أحكامه، وارتكب الجريمة.
ويجب، حتى يمكن لقانون المسطرة الجنائية أن يحقق الهدف منه، أن تحكم قواعده مبادئ معينة أساسية اتفقت عليها جميع التشريعات، وذلك بأن تضع نصب أعينها دوما احترام الفرد طالما أنها تفترض أن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثب إدانته، وإذا ما لزم أن تمس هذه الحرية، فلا يكون ذلك إلا بالقدر اللازم والضروري بغية الوصول إلى الغرض من الإجراء الذي يمس هذه الحرية، إذ يجري تغليب المصلحة العامة عن مصلحة الفرد في مثل تلك الأحوال.
ولما كانت هذه الحقوق، وحق التقاضي ومبدأ البراءة هي الأصل، مضمونة دستوريا وبالتالي تخول لكل فرد الاستفادة من الضمانات المنصوص عليها قانونا، وفي جميع مراحل البحث والمحاكمة، فإنه يجب عدم المبالغة في التمسك بكل الشكليات، لأنه إذا كان أغلبها قد وضع لحماية مصلحة المتهم والتي رتب المشرع على الإخلال بها جزاءا في بعض الأحيان ولم يرتبه أحيانا أخرى، فإن منها ما يتعلق بحقوق الضحية أو بحق المجتمع الذي تختص سلطة الاتهام (النيابة العامة) بالدفاع عنه، أو بالنظام العام، وبالتالي يمكن إثارتها تلقائيا وبدون طلب من الأطراف.
بيد أن العدالة الجنائية ـ وهي الغاية المنشودة للمشرع ـ لا تتحقق بمجرد وضع مبادئ وإجراءات شكلية ومسطرية، وإنما بحسب فهمها وتطبيقها على أرض الواقع، وباستقامة وكفاءة القائمين بها في طريق الإلمام بقواعدها نظريا وعمليا، ومعرفة الجزاء المترتب عن الإخلال بها، أو بعبارة أخرى معرفة حقيقة الدفوع المثارة ومدى الضمانات القانونية الممنوحة للمتهم في هذا الشأن. بحيت أنها لو صحت لا نبنى عليها تبرئة المتهم أو تخفيف مسؤوليته.
وملاك القول أن إبداء الدفوع هو إجراء جوهري يشكل دعامة أساسية لعدالة جريان المحاكمة الجنائية وهو يحتل قمة الضمانات بغير نزاع، بحيث يتمكن من خلاله الخصم أن يقدم إلى المحكمة كل ما لديه من طلبات وأدلة، تأييدا لوجهة نظره، أو تفنيدا لوجهة نظر خصمه. وهو يشكل في حق الدفاع عصبه وركيزته الأساسية. بل أن مكنة تقديم الدفوع تعد من المكنات الأساسية التي يسير عليها القضاء، وتعتبر ركنا رئيسا لمبدأ وجوب سلامة الإجراءات.
وغني عن البيان، أن الإجراءات المسطرية للخصومة الجنائية لا تنحصر في قانون المسطرة الجنائية فحسب، وإنما جاء بعضها في نصوص متفرقة من القانون الجنائي، وبعض القوانين الخاصة. كما أن الجزاء الذي رتبه المشرع على مخالفة هذه الإجراءات وبالأخص تلك التي تمس حقوق الدفاع أو النظام العام، جاء في صور مختلفة، إما بالبطلان أو عدم القبول أو السقوط أو عدم الاختصاص أو اعتبار الإجراء كأن لم ينجز، كما جاء الجزاء أحيانا في شكل عقوبات زجرية أو أدبية لكل تجاوز أو شطط في استعمال السلطة.
ومن هذا المنطلق وعلى رأس هذه الضمانات نجد دفوع المسائل المعترضة التي اعترف المشرع للأفراد بحق التمسك بها لضمان حسن سير المسطرة في إطار الاعتراف بوجود نوع من الرقابة الاجتماعية على حسن سير العدالة ككل، ومدى مراعاة الإجراءات القانونية التي يوجب القانون إتباعها والسير على هداها حتى تسترد القاعدة القانونية الشكلية بعضا من الاحترام الفعلي والحقيقي الذي ثبت غير ما مرة أنها لا تحظى به قضائيا، أو في أحسن الأحوال تفتقده ولا تستعيده إلا نادرا.
وهناك أمر لابد من الوقوف عنه والتأكيد عليه، وهولا يكفي أن تتصف قواعد المسطرة الجنائية بالضمانات والخصائص التي بيناها آنفا حتى تحقق الغرض منها، بل يشترط لتحقيق هذه الغاية حسن استعمال هذه القواعد من قبل القائمين على تطبيقها وتفهمها لغاياتها من خلال حس مرهف بمعنى العدالة ووضعها موضع التنفيذ بروح مشبعة بالرغبة في الوصول إلى الحقيقة. لأن النصوص التشريعية، مهما بذل فيها من جهد لكي تحيط حرية الفرد بالضمانات، فإنها تبقى نصوصا جامدة، والأهم هنا هو إعمال هذه النصوص بأسلوب يوصل إلى الغاية المتوخاة منها، ذلك أن غالبية الإجراءات يشكل فيها عنصر السلطة التقديرية عند تطبيقها جانبا كبيرا، والقواعد التي لا يدخل فيها عنصر التقدير (كالمواعيد التي يحددها القانون) هي قليلة.
والأمور التقديرية عند اتخاذ الإجراء الجنائي وبالرغم من أنها تخضع لنوع من الإشراف من جهة أعلى في السلطة، إلا أن هذا لا يقلل من أهميتها حيث غالبا ما يكون من العسير إقامة الدليل على ما يخالفها. ويجب أن لا يؤدي تطبيق القواعد المسطرية التي تنطوي على سلطة تقديرية إلى الإقلال من الضمانات التي وضعها المشرع حماية لحقوق الأفراد، وعلى الخصوص دفوع المسائل المعترضة التي تعتبر من طبيعة خاصة.
– تمييز موضوع البحث عن المواضيع المشابهة
يجب التمييز بين المسائل المعترضة والدفوع الشكلية التي يقصد بها، الاحتجاج بخرق الإجراءات الشكلية التي يتطلبها القانون لصحة المتابعة الجنائية وإصدار الحكم فيها، وتهدف إلى بطلان المسطرة المجراة سابقا، كالدفع بعدم احترام شروط وشكليات محضر الضابطة القضائية أو إجراءات الحجز والتفتيش، أو خرق قواعد الوضع تحت الحراسة النظرية أو ادعاء عدم قيام حالة التلبس بالجريمة، أو عدم قانونية المتابعة، أو حالة الاعتقال، أو خرق الإجراءات الموازية للمحاكمة، واللاحقة على تحريك المتابعة كالدفع بعدم علانية الجـلسة أو بطـلان الاستدعاء… إلخ. أما المسائل المعترضة فهي لا تتعلق بالمساطر السابقة، وإنما تهم فقط المنازعات التي تثار أثناء المحاكمة الجنائية كالدفع بحق مدني أو حق عيني وعقاري، أو المسائل التي تتعلق بالأحوال الشخصية، فإذا ما أثيرت هذه المسائل فإنه لا يجوز النظر فيها من قبل المحكمة الجنائية وإنما على هذه الأخيرة أن توقف الدعوى حتى تحسم المحكمة المختصة في هذه المسائل. وتشترك الدفوع الشكلية والمسائل المعترضة في إلزامية إثارتها أولا وقبل الشروع في دراسة القضية ومناقشتها.
كما يجب تمييز موضوع الدراسة عن المسائل الأولية، فهذه الأخيرة هي التي يتعذر السير في المحاكمة دون الفصل فيها، وينعقد أمر البث فيها لنفس المحكمة التي أثيرت أمامها، أو هي المسائل التي تثار بصفة عارضة أثناء نظر الدعوى الجنائية والتي يلزم أو يتعين الفصل فيها أولا لكونها تدخل على نحو ما في البناء القانوني للفعل الإجرامي موضوع تلك الدعوى، أو هي المسائل التي يتوقف الفصل في الدعوى الجنائية على الفصل فيها أولا. وتدخل هذه المسائل فيما يطلق عليه فقه المرافعات[1] المدنية والتجارية بالمسائل العارضة، وهي التي تبدى بمناسبة الطلب الأصلي وفي أثناه النظر فيه، وترمي إلى وقف السير في هذا الطلب أو منع الحكم فيه أو تغييره، وهي تكون معه كلا لا يمكن تجزئته وتختص بها المحكمة المرفوع إليها الطلب الذي أثيرت هذه المسائل أثناءه. ومن أهم هذه المسائل في التشريع المغربي نجد النزاع بشأن الهوية وفق أحكام المادة 592 من قانون المسطرة الجنائية. وسواء تعلق الأمر بدفع قدم أثناء المحاكمة أو بعد الشروع في التنفيذ فإن المحكمة المعروضة علها القضية أو المصدرة الحكم هي المختصة للبث في الدفع ( المادتان 592 و 593 من ق.م.ج )، وكذلك الشأن بالنسبة لتجريح الترجمان في إطار المادة 318/2 من ق.م.ج، وإدعاء الزور في وثيقة ثم الإدلاء بها أثناء التحقيق أو خلال الدعوى ( المادة 584 ق.م.ج.
وقد ميز الأستاذ الخمليشي بين المسائل الأولية والمسائل المعترضة تمييزا دقيقا استند فيه على معيار الجهة المختصة بالفصل في النزاع، فإذا كانت هي نفس المحكمة التي أثير أمامها فالنزاع عارض، وإذا كانت الصلاحية تعود لجهة أخرى فالنزاع معترض وذلك بقوله: “الفرق بينهما أن المسألة الأولية يرجع أثر البث فيها إلى نفس المحكمة التي أثيرت المسألة أمامها، أما المسألة المعترضة فيرجع الفصل فيها إلى محكمة أو جهة أخرى غير المحكمة التي أثيرت القضية أمامها”[2].
وعليه لا يعتبر في حكم المسائل المعترضة المسائل التي يتعين الفصل فيها أولا حتى يمكن تحريك الدعوى الجنائية أو دفعها، أي المسائل التي يجب الفصل فيها قبل نظر الدعوى[3].
ويخرج من نطاق المسائل المعترضة أيضا المسائل التي تثور أثناء نظر الدعوى الجنائية دون أن تدخل في التكوين القانوني للفعل الإجرامي، كالدفع بعدم الاختصاص أو بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها بحكم بات أو بسقوط الدعوى بالتقادم.
–أسباب اختيار الموضوع والصعوبات التي واجهته
أ ـ سبب شخصي، وهو أن الدراسة تأتي بعد رسالتنا في الدراسات العليا المعمقة حول “المسطرة المدنية كمصدر للمسطرة الجنائية”[4] حيث خلا قانون المسطرة الجنائية من نص يمكن الاستناد إليه لوضع قاعدة يتعين التزامها أو معيار محدد في التفرقة بين تقسيمات الدفوع المختلفة، وعلى ذلك تأتي هذه الدراسة لتوحيد وتبيان نظرية سليمة للحكم الجنائي في هذا المجال سواء كان صادرا بالإدانة أم بالبراءة، بعيدا عن مظنة الخطأ في القانون وأن يكون بمنأى من أي مأخذ قانوني.
وليس الهدف من هذه الدراسة الدفاع عن المتهمين وإنما الدفاع عن الأبرياء بغية درء الظلم عنهم ومنع أي اعتداء على حقوقهم وحرياتهم، تطبيقا لقوله تعالى: “إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور“[5] وقوله جل شأنه: “قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين“[6].
ب ـ أن دفوع المسائل المعترضة من أهم الدفوع التي تقوم عليها المسطرة الجنائية برمتها، ويتيح البحث الإلمام بأحكام المسائل المعترضة ويرسم حدودها ونطاقها وأساسها وخصائصها ثم الرد عليها.
ويعني ذلك أن هذه الدراسة تمكن من الإلمام بنطاق اختصاص القاضي الجنائي بنظر المسائل المعترضة التي تخرج عن اختصاصه و عرضها على جهات قضائية غير جنائية، والرد عليها بتسبيب صحيح بما يفندها أو يطرحها.
ج ـ كما تتيح الدراسة أيضا بيان أثر المسائل المعترضة على الدعوى الجنائية. ومؤدى ذلك أن هذا الموضوع سيمكن بإذن الله من إثراء الفكر القانوني وسد فراغ المكتبة القانونية في هذا المجال، وذلك بما تقدمه من تصورات مختلفة لدفع المسألة المعترضة التي تكون بالضرورة من طبيعة مختلفة عن القضايا الجنائية التي يختص بها القاضي الجنائي، وبالتالي تسمح بتطبيق قواعد قانونية تخرج عن قبضة القاضي الجنائي.
أما من حيث الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث فتمثلت أساسا في انعدام أي مرجع تناول موضوع المسائل المعترضة ! مما تطلب منا جهدا مضاعفا جدا. كما أنه لما كان التشريع المغربي في قانون المسطرة الجنائية وكذلك قانون المسطرة المدنية ـ باعتبارها الأصل ـ غير دقيق في معالجته للدفوع بصفة عامة وبصفة خاصة المسائل المعترضة، فإنه كان من المفروض أن يتولى القضاء توضيح ما غمض وبيان ما أبهم، وإتمام ما نقص، وتكريس قواعد مسايرة لما عليه الفقه والقضاء في فرنسا ومصر لرسم معالم واضحة يسترشد بها الممارسون والمهتمون، غير أنه بدوره عرف نوعا من الاضطراب وعدم الاستقرار، الأمر الذي زاد من معاناتي في البحث.
كما أننا لن نكون مبالغين إذا قلنا أن الأحكام القضائية المتعلقة بالمسائل المعترضة تكاد تكون منعدمة، بحيث أننا لم نتمكن من إيجاد إلا القليل النادر منها، وذلك من خلال قرارات محكمة النقض فقط، ذلك أنه وبجولتنا في مختلف المحاكم وبمساعدة رؤساء كتابات الضبط لديها وبعض الموظفين، لم نتمكن من العثور على أحكام قضائية تم وقف الدعوى فيها إلى حين الفصل في المسائل المعترضة من طرف الجهات المختصة، والسبب بسيط هو أنه لا يتم الإشارة في السجلات إلى الدعاوي التي أثير بشأنها إحدى المسائل المعترضة، ونظرا لقلتها فإنه من الصعب إيجادها، وعليه يجب أن تكون هناك دعوى معترضة رائجة لكي يفيدنا بها المسئولون المذكورون حسب رأيهم، وهو ما يندر في الممارسة القضائية. بل أن أغلب القضاة والمستشارين أكدوا لنا صراحة أنه لا يتم وقف الدعوى الجنائية ولو تعلق الأمر بمسائل معترضة! لأنه لو توقف القاضي الجنائي أمام كل دفع بمسألة معترضة أثناء نظر الدعوى، وانتظر الحل من المرجع صاحب الاختصاص الأصلي لتعثرت الدعوى وتعذر الفصل فيها، وطال أمدها لفترة طويلة من الزمن مما يعرقل سير العدالة. وبالتالي فإنه كان من شبه المستحيل إيجاد أحكام قضائية في هذا الشأن.
وإذا كانت الصعوبات التي تصادفها البحوث هي في حقيقة الأمر من صميم وطبيعة البحث العلمي، رغم تفاوتها باختلاف مواضيع البحث، فإن هذه الصعوبات تكون أكثر حدة، خاصة إذا تعلق الأمر بموضوع كموضوعنا هذا.
وفي الحقيقة فإنه ما تعرضنا إليه من صعوبات ما هو إلا نتيجة لغياب تشريع واضح أو نقص يشوب التشريع، راجين أن يحظى هذا الموضوع بالتفاتة من المشرع لإيفائه حقه. فالمعول على القضاء في أعلى هرمه أن يضطلع بمهمة التفسير والتأويل لما غمض وأبهم لإنارة السبيل أمام قضاء الموضوع ومساعدته على الخروج مما يتخبط فيه من حيرة وارتباك.
– أهمية الموضوع
يقصد بالمسائل المعترضة تلك المسائل التي تثار أثناء نظر الدعوى الجنائية والتي يلزم أو يتعين الفصل فيها من طرف الجهة المختصة، لكونها تدخل على نحو ما في البناء القانوني للفعل الجرمي موضوع تلك الدعوى، أو هي المسائل التي يتوقف الفصل في الدعوى الجنائية أثناء نظرها على ضرورة وقف هذه الدعوى وإحالتها إلى المحكمة صاحبة الإختصاص الأصلي، وبعبارة أكثر تحديدا هي المسائل التي يتوقف قيام الجريمة من عدمه على الفصل فيها[7].
ولا يعرف القانون المغربي ولا المصري هذا النوع من المسائل، بينما نص عليها القانون الفرنسي ويطلق عليها الفقه الفرنسي تعبير:
Les questions préjudicielles à l’action ou fin de non procéder أي المسائل التي تمنع أو تعترض السير في الدعوى الجنائية أو نظرها. ومن أمثلة هذا النوع من المسائل في القانون الفرنسي، مسألة النسب في جريمة إنكار النسب ومسألة بطلان الزواج في جريمة خطف قاصر والزواج منها[8].
ويعد من المسائل المعترضة والتي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجنائية مسائل الأحوال الشخصية، كحالة إثبات البنوة أو الأبوة في جنح السرقات بين الأصول والفروع أو إثبات قيام العلاقة الزوجية في جنحة الزنا، وكذلك مسألة الدفع بحق عيني عقاري (المادة 258 من قانون المسطرة الجنائية)، ومسألة الملكية في جريمة السرقة، ومسألة تحديد طبيعة العقد في جريمة إصدار شيك بدون رصيد أو مؤونة غير كافية…
فإذا ما أثيرت مثل هذه المسائل، فإن على المحكمة الجنائية أن توقف الدعوى، وتحدد للمتهم أجلا لرفع المسألة المذكورة إلى المحاكم المختصة، ويترتب على وقف الدعوي الجنائية امتناع السير في إجراءاتها خلال الأجل الذي حددته المحكمة. فإذا مضى الأجل دون أن يرفع الخصم الذي أثار المسألة المعترضة دعواه، فإن المحكمة تعود إلى النظر في الدعوى، وكأن الدفع بالمسألة المعترضة لم يثر، فيكون لها أن تتولى بنفسها الفصل فيها.
ومعلوم أنه إذا ما انعقد الاختصاص للقاضي الجنائي للفصل في الدعوى الجنائية، فإن له بل من واجبه البحث في توافر أركان الجريمة وعناصر كل ركن منها. فإذا ما ثارت له أثناء التحقيق أو دفع أمامه بإحدى المسائل المعترضة التي يتوصل عن طريقها إلى معرفة ما إذا كانت هذه الأركان أو العناصر متوفرة أم لا فإن له أن ينظر في تلك المسائل ويفصل فيها طالما أنها لازمة للفصل في الدعوى الجنائية. وهذا ما يعبر عنه بالمبدأ القائل بأن “قاضي الأصل هو قاضي الفرع” وأن “قاضي الدعوى هو قاضي الدفع Le juge de l’action est juge de l’exception”.
وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “مبدأ اختصاص القاضي الجنائي بالمسائل المعترضة أو الفرعية”. ولكن نطاق هذا المبدأ ليس مطلقا، فقد يرى المشرع لاعتبارات معينة الخروج عليه والنص على سلب القاضي الجنائي الاختصاص بالفصل في بعض المسائل التي تعترض الدعوى الجنائية وجعلها من اختصاص هيئات قضائية أخرى، فتكون تلك المسائل بمثابة استثناءات محددة بالنص ترد على المبدأ المذكور، وهذا ما يعبر عنه بـ “مبدأ عدم اختصاص القاضي الجنائي بالمسائل المعترضة”[9].
ويرجع تقرير مبدأ اختصاص القاضي الجنائي بالمسائل المعترضة التي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجنائية إلى عدة اعتبارات منها: أن أغلب هذه المسائل ذات طبيعة مدنية، ونظرا لوحدة القضاء المدني والقضاء الجنائي[10]، فقد يكون القاضي المدني هو نفسه القاضي الجنائي أو العكس وأن القاضي الجنائي صالح لأن يكون قاضيا مدنيا، ولهذا عند نظر القاضي الجنائي للمسائل المدنية المعترضة قد يكون هو نفسه الذي ينظرها إذا طلب منه وقف السير في الدعوى الجنائية لحين الفصل في هذه المسائل، وبالتالي لا يكون هناك مبرر لمثل هذا الإيقاف، يضاف إلى ذلك أن هذا القاضي نفسه له سلطة الفصل في الدعوى المدنية التابعة للدعوى الجنائية وهي بحسب الأصل ليست من اختصاصه. كما أن اختصاص القاضي الجنائي بالمسائل المعترضة يحول دون عرقلة سير الدعوى وتأخير الفصل فيها مما يحقق عدالة جنائية كاملة وسريعة[11]. لكن هل يكون للحكم الفاصل في هذه المسائل قوة ملزمة أمام الجهات المختصة بها أصلا؟
نبادر بالإشارة أولا أن القضاء المدني في المغرب لا يتقيد ببيانات الحكم الجنائي إلا إذا كانت باتة في أمر من الأمور على سبيل التأكيد والجزم. أما ما عدا ذلك مما تقرره بصورة غير أكيدة أو ما تنطوي عليه من إبهام، بأن اكتنفها غموض غير موصل إلى اليقين أولا يفصح عن رأي المحكمة بكيفية واضحة، فلا يكون القاضي المدني ملزما بالتقيد بها[12].
وبمفهوم المخالفة فإن الحكم الجنائي الفاصل في الدعوى المعترضة يتمتع بالحجية أمام المحاكم التي تختص أصلا بهذه المسائل، على اعتبار أن بيانات هذه المسائل تكون باتة وجازمة لإرتباطها بالإدانة أو البراءة.
فإذا أدانت المحكمة الجنائية متهما في جريمة خيانة أمانة على أساس وجود عقد من العقود التي حددها المشرع لقيام هذه الجريمة، فإن القاضي المدني يكون مقيدا بما فصل فيه القاضي الجنائي، وبالتالي لا يجوز للقاضي المدني أن ينفي التعاقد أو يعتبره من نوع القرض أو البيع بعد أن تكون المحكمة الجنائية وصفته بأنه وديعة أو إجازة. فالفصل في مسألة تكييف العقد وعدد من عقود الأمانة مسألة معترضة مدنية تكون لها حجية وتحوز قوة الأمر المقضي به أمام المحكمة المدنية.
وإذا كان المشرع قد أوجب على القاضي الجنائي الفصل في المسائل المعترضة، إلا أنه قيده من حيث طرق الإثبات. فقد ألزمه بأن يتبع في إثبات المسائل غير الجنائية التي يتوقف عليها الحكم في الدعوى الجنائية طرق الإثبات المقررة في القانون الخاص بتلك المسائل، فلا يجوز أن يطبق القاضي المبدأ المقرر في المواد الجنائية وهو حرية القاضي في تكوين عقيدته دون التقيد بطرق معينة للإثبات. فإذا كانت المسألة المعترضة لا تثبت في قانونها الخاص إلا بالكتابة فلا يجوز للقاضي الجنائي أن يثبتها بشهادة الشهود.
لكن قد يحدث أن تكون هذه المسألة المدنية قد سبق الفصل فيها من المحكمة المدنية المختصة، فهل يتقيد القاضي الجنائي بهذا الحكم المدني؟ وهل يكون للحكم المدني حجية أمام القضاء الجنائي في هذه الخصوصية؟
ناقشنا في متن موضوعنا مختلف الآراء حول هذه النقطة، وقد كنا أميل إلى الأخذ بالاتجاه القضائي الذي يقرر أن يكون للحكم المدني الحجية الكاملة في إثبات المسائل المعترضة أمام القضاء الجنائي، وإلا فما هو الداعي إلى إيقاف الدعوى.
بقي أن نشير إلى أنه إذا توافرت شروط الدفع بالمسائل المعترضة فإن المحكمة تلتزم حسبما درج الفقه على ذلك وأحكام القضاء باستعراض هذا الدفع أو الطلب ومناقشته والرد عليه. وهذه الشروط كما سنرى قد تكون عامة في الدفوع والطلبات كشرط تقديمها أثناء المرافعة أو أثناء التحقيق والتمسك بها بجدية والإصرار عليها طوال مراحل الدعوى. وقد تكون شروط خاصة في الدفع بأن تكون مستندة لحق أو مركز قانوني وأن يحصل اعتداء على هذا الحق وضرورة توافر مصلحة المتمسك وصفة إبدائه. ذلك أن التزام المحكمة بالرد على الدفع بالمسألة المعترضة ناشئ عن التزامها بصفة عامة بتسبيب حكمها الذي هو من أشق المهام الملقاة على عاتقها.
ومما سبق، فإن الكتابة في موضوع المسائل المعترضة تكتسي أهمية بالغة، وتتطلب منا مجهودا خاصا ومضاعفا لاعتبارات عملية وقانونية نلخصها فيما يلي:
ـ عدم وجود دراسة نظرية وتطبيقية لدفوع المسائل المعترضة وأحكامها وآثارها من شأنها تخفيف عبء البحث على أطراف الدعوى العمومية والمحكمة في النصوص والكتب القانونية والاجتهادات القضائية عند القيام بإجراء معين، وجزاء الإخلال به وطريقة وشروط إثارة الدفع بالمسألة المعترضة والرد عليه.
ـ تمسك الدفاع بكثير من الشكليات البسيطة والتي لم يرتب المشرع عنها أي جزاء، واعتبارها جوهرية وماسة لحقوق الدفاع.
ـ عدم النص الصريح عن الجزاء المترتب عند الإخلال بمسطرة بعض المسائل المعترضة، وعدم استقرار محكمة النقض في بعض قراراتها، مما يفسح المجال أمام التفسير الواسع والمبالغ فيه للقواعد المسطرية المقررة لصالح المتهم.
ـ استمرار أغلب المحاكم في ضم دفوع المسائل المعترضة إلى الجوهر، وعدم الرد عليها في حينها، الشيء الذي يؤدي إلى عدة نتائج سلبية لا تنسجم مع مبدأ المحاكمة العادلة والسريعة.
ومن هذا التحديد المبدئي لنظرية دفع المسألة المعترضة يتضح أنه من الموضوعات الشائكة التي تحتاج إلى البحث المتعمق الذي يغوص في أعماق المسطرة الجنائية وحتى القانون الجنائي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتضح مدى أهمية هذه النظرية وما يرتبط بها من موضوعات.
ولعل أهمية موضوع دفوع المسائل المعترضة ينبع من أنها تعتبر بحق من أسس الدفاع أمام القضاء الجنائي، ذلك الحق المكفول للمتهم بقوة القانون والدستور، الأمر الذي رتب المشرع على إبداء هذه الدفوع أمام المحاكم الجنائية التزاما على المحكمة بالرد عليها وتفنيدها بالأسباب الكافية، أي أن التلازم الحتمي بين الدفوع وتسبيب الأحكام هو من أساسيات ومبادئ القانون الجنائي. فطالما أن الدعوى قد أثير بصددها أحد دفوع المسائل المعترضة فإن تسبيب الحكم يصبح إلزاميا على القاضي. وليس معنى ذلك أن عدم إبداء هذه الدفوع لا يلزم القاضي بتسبيب الأحكام، ولكن المقصود أن الإلزام القانوني على المحكمة بتسبيب الأحكام يكون واجبا وإلزاميا في الحالة التي يبدى فيها الدفع أمام المحكمة، وتسبيب الأحكام هذا هو من أهم الضمانات التي فرضها القانون على القضاة إذ هو مظهر قيامهم بما عليهم من واجب تدقيق البحث وإمعان النظر.
– إشكالية البحث
نظرا لكون المسائل المعترضة تعترض القاضي الجنائي بمناسبة نظره للدعوى الجنائية، وانطلاقا من أن أغلب هذه المسائل ذات طبيعة مدنية، وأنه يتوقف على الفصل فيها الفصل في تلك الدعوى بالإدانة والبراءة، فإن له أن يوقف الدعوى ويحيل المسائل المعترضة على الجهات المختصة بها أصلا. ولأن الأمر يتعلق بإستثناء فإنه يجب حصر الحالات التي يتعين فيها وقف الدعوى الجنائية وشروط هذا الإيقاف، فإذا ما دفع أمام القاضي الجنائي بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية، فإنه يتعين عليه وقف الدعوى الجنائية إلى حين الفصل في تلك المسألة من المحكمة المختصة طالما أنه يتوقف عليها الفصل قي الدعوى الجنائية. فإذا ادعى شخص أن زوجته ارتكبت جريمة الزنا، وأثناء نظر هذه الجريمة دفعت بأنها ليست زوجته أو أنه طلقها قبل واقعة الزنا المتهمة بها، فلا يمكن للمحكمة أن تفصل في موضوع قيام الزواج من عدمه أو وقوع الطلاق من عدمه، وإنما يتعين عليها أن توقف الدعوى وتنتظر الفصل في هذه المسألة من الجهة المختصة. ومما سبق فإن التساؤل يثار حول الحالات التي يتعين فيها وقف الدعوى الجنائية وشروطها للفصل في المسائل المعترضة من الجهة المختصة؟ وما هي الإجراءات اللازمة لإثارتها؟ وما هي حجة الأحكام الصادرة بشأنها؟ وأين تتجلى طبيعتها ومدى إمكانية الطعن فيها؟
– منهج البحث
قصد الوصول إلى تحقيق الغاية العلمية والمعرفة المنشودة من البحث محل الدراسة وسعيا للإجابة الوافية والمتكاملة عن الإشكاليات التي طرحت من خلاله، لابد أن نعتمد منهجا مناسبا ومحددا للوصول إلى هدفه وتحقيق أفضل النتائج المرجوة. واستنادا إلى المضمون المعين الذي تطرحه إشكالية البحث، فقد حاولنا الإجابة عنها في هذه الدراسة معتمدين في ذلك على أسلوب التحليل والمناقشة بعرض ومقابلة النظريات والآراء المختلفة في هذا الصدد، للتوصل إلى طرح جديد ينظم دفوع المسائل المعترضة.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذه الدراسة ليست قاصرة على بحث الموضوع في القانون المغربي بل تطرقنا بتفصيل للتشريعات المقارنة في هذا المجال من أجل بيان وتوضيح أفكار البحث دفاعا عنها كما هو مقرر في هذه التشريعات، إلى جانب تكملة النواقص الكبيرة التي يشملها القانون المغربي في هذا الجانب، من أجل إجلاء الغموض عن بعض الأفكار التي لم يتناولها بالدراسة، محاولين استلهامها من التشريعات المقارنة باعتبارها كانت سباقة لها. إضافة إلى اعتمادنا للمنهج القانوني وفقا لمعايير البحث المتكامل لتحليل مختلف القوانين المعالجة والمؤطرة لموضوع المسائل المعترضة وتأثيرها في الحكم بالبراءة أو الإدانة.
– خطة البحث:
إن النتائج التي نسعى إلى التوصل إليها، عبر هذا البحت، قصد الإجابة على إشكاليته و الإحاطة بمختلف العناصر المرتبطة به، لن يتأتى إلا بالتطرق إلى النظام القانوني للمسائل المعترضة، لذا ارتأينا اعتماد التقسيم الثنائي الأكثر نجاعة في مقاربة إشكالية هذه الدراسة وإثرائها، ويتمثل في معالجة نظرية دفوع المسائل المعترضة والرد عليها في مرحلة أولى لإبراز أسس وأحكام المسائل المعترضة، قبل الانتقال إلى رصد إجراءات المسائل المعترضة للحكم فيها.
ومن أجل توضيح أهمية الموضوع و التعمق في خباياه يجب أن يكون التحليل شموليا ينطلق من تحديد نطاق مبدأ اختصاص القاضي الجنائي بالفصل في المسائل المعترضة بالتطرق إلى أصل هذا المبدأ ومبرراته وكذلك الاستثناءات الواردة عليه، ثم بعد ذلك يقع التعرض إلى التزام المحكمة بالرد على المسائل المعترضة بتسبيب صحيح إذا ما توافرت الشروط القانونية لذلك، لما لها من أثر في مضمون إقتناعها و في النتيجة التي انتهت إليها.
كما يكون من الضروري وضع ضوابط محددة لفكرة تقادم دفوع المسائل المعترضة (الباب الأول(.
وحتى نتمكن من معرفة مدى انعكاس و نجاعة نظرية المسائل المعترضة إجرائيا، تطرقنا إلى إجراءات نظر المسائل المعترضة التي يختص بها القاضي الجنائي وخصوصية إثباتها، وكذلك إجراءات نظر المسائل المعترضة التي تخرج عن اختصاص القاضي الجنائي، و بالتالي وقف الدعوى حتى يتم الفصل في هذه المسائل من الجهة المختصة، ولما كان الحكم الصادر في المسائل المعترضة يرتب فاعلية داخل نطاق هذه الإجراءات، كان من الأهمية بمكان الوقوف على طبيعة هذا الحكم ومدى حجيته وإمكانية الطعن فيه (الباب الثاني(.
فصل الكلام أن كل ممارس ومتتبع للعمل القضائي يسهل عليه دون شك أن يلاحظ في الوقت الراهن الأزمة القانونية التي أصبحت تعيشها الدفوع عامة ودفوع المسائل المعترضة خاصة في المجال الزجري، حتى أصبح البعض يشكك بإلحاح في جدوى التنصيص التشريعي على طائفة من الدفوع المعترضة، مادام أن فاعليتها التطبيقية تكاد لا تراها العين المجردة، وبالتالي لم يعد لها أي معنى بل هي زائدة قانونية يجب العمل على استئصالها حتى يستريح الجهاز القضائي من إشكاليتها. بينما يرى البعض الآخر أنها نوع من الترف الذي لا يضر الاستغناء عنه، ويلتقط التبريرات من هنا وهناك للدفاع عن التجاوز المعيب لهذه الدفوع. وإن كنا نرى في إطار تصور فكري لا يخلو من موضوعية أن التقريب بين مساقات أقصى التبرير وأقصى النقد يمر عبر الاعتراف الهادئ بأن الخروقات القانونية الشكلية موجودة، ولا تكون في الغالب مقصودة، ولكن معالجتها لا يكون بالتستر عليها ولا تبريرها وإنما يحصل عن طريق التصريح ببطلان الإجراءات المترتبة عنها، للعمل على احترامها فيما يستقبل من مساطر.
والواقع أن أزمة دفوع المسائل المعترضة لها تمظهرات وتجليات عديدة، كما أن لها مسببات ودوافع كثيرة نعرض أهمها فيما يلي:
1 ـ ظاهرة ضم دفوع المسائل المعترضة إلى الجوهر:
تكاد تكون ظاهرة تأجيل البث في الدفوع المعترضة المثارة إلى حين البث في الجوهر ظاهرة عامة على مستوى العمل القضائي المغربي، وتشكل مظهرا بارزا من مظاهر الأزمة، وفي نفس الوقت تشكل وسيلة لبقة يلجأ إليها بعض القضاة في إطار فن حسن “التخلص”، وإذا كان هناك من يسمح لنفسه بأن يدافع عن صحة هذا الطرح فيكفينا أن نؤكد على عدم صحته لأنه يشوه الغاية التي من أجلها سن المشرع وسائل الدفاع، ومن المعلوم أن فاعلية الدفع بالمسألة المعترضة ترتبط بفوريته وإجرائيته وتأجيل البث فيه يمثل اغتيالا ضمنيا لهذه الفعالية.
2 ـ ظاهرة عدم الرد على دفوع المسائل المعترضة:
تضاف ظاهرة عدم الرد على المسائل المعترضة إلى حلقات الأزمة، ومن المعلوم أن الرد أو الجواب الناقص عن وسائل الدفاع يوازي عدم الرد، ففي كثير من الأحوال يكون مصير الدفع هو عدم القبول أو الرفض دون تعليل أو تبرير أو الاكتفاء بحيثيات مبهمة من قبيل أن الدفع غير جدي أو لا أساس له. فأمثال هذه الردود السلبية الواردة في أحكام القضاء يمكن تفهمها وتقبلها بصدر رحب لو صيغت في شكل ردود، أما الاقتصار في الجواب عن الدفع المعترض على تعليل عام ومبهم فلن نقول أنه يطعن في كفاءة مصدري الحكم القضائي بقدر ما يكشف عن افتقاد القاضي لفن الإقناع الذي هو جزء من صنعة القضاء ككل. لذلك نجد العديد من القضاة ينجحون في إقناع أنفسهم ولكنهم لا يستطيعون إقناع غيرهم، فتكون أحكامهم مصابة بداء فقدان التعليل وتلقى حتفها في مرحلة النقض.
3 ـ ظاهرة ندرة إثارة دفوع المسائل المعترضة:
يبدو أن لظاهرة ندرة إثارة الدفوع المعترضة أمام القضاء الزجري على مستوى الممارسة اليومية ارتباطا مباشرا بالظاهرتين السابقتين الذكر، إذ أن الدفاع حينما يشعر بتردي قيمة الدفوع المعترضة كوسيلة دفاع من شأنها أن تضمن احتراما دقيقا للشكليات القانونية والمسطرية فإنه يستنكف عن إثارتها، حتى أصبح البعض من المحاميين يعتقد بصوت مرتفع أن المسائل المعترضة لا تثار إلا في المحاكمات ذات الطابع السياسي، وألا علاقة لها بالمحاكمات العادية، أما المؤمنون بجدواها فقليل هم، لأن الدفوع المعترضة أصبحت في عرف الكثير من المحامين في موقع الناذر الذي لا حكم له ولا طائلة من ورائه، أما بعض القضاة فلا يرون فيها إلا نوعا من المشاكسة الدفاعية الثقيلة التي يدعون عليها بالهلاك والزوال…
ويمكن تلخيص أسباب الأزمة في النقط التالية:
1 ـ عدم استيعاب فلسفة المسائل المعترضة
حينما ينظر إلى الدفوع المعترضة كأداة لعرقلة إجراءات الدعوى العمومية، وحينما ينظر إليها كحواجز تشوش على سير المسطرة وتفرمل سرعة الفصل في القضايا وتعيق الرغبة في تصفية الملفات وتطيل أمد الجلسات… فإن الغرض التشريعي من تقريرها وتسطيرها يصبح هشيما تذروه الرياح، ذلك أن قوام القواعد المسطرية هو إقامة توازن عادل بين حقوق مجتمع تواق إلى الأمن والانضباط والنظام، وحقوق متهم أمله أن يحاكم محاكمة عادلة تكفل له حقوقه في الدفاع كاملة غير منقوصة، ويسود فيه القانون على الجميع، وتحترم فيه إجراءات البحث والتحقيق والمحاكمة، بشكل يضمن حق الاحتجاج على خرقها وانتهاكها والطعن بكل حرية بعدم نظاميتها.
2 ـ عدم ضبط مسطرة المسائل المعترضة
ما تزال مسطرة دفوع المسائل المعترضة في المجال الزجري غريبة عن تكوين العديد من رجال القانون، لأن تدريسها في كليات الحقوق والندوات والأيام الدراسية ومعاهد التدريب المهنية لا يتجاوز الإشارة العرضية دون الوصول إلى حد التعمق في إجراءاتها وآثارها القانونية الحاسمة، وهذا ينعكس بصورة مباشرة على مستوى الممارسة القضائية. فنجد الدفاع في كثير من الملفات والقضايا يخلط في مرافعاته بين المسائل المعترضة والدفوع الشكلية والموضوعية ولا يفرق بين الملتمسات والمذكرات من جهة، والدفوع من جهة أخرى، بل لأن دفوع المسائل المعترضة يحتفظ بها أحيانا إلى آخر المرافعة أو أثناءها دون مراعاة الترتيب المسطري الذي يوجب إبداءها قبل الدفاع في الجوهر، فيسقط الحق في الاحتجاج بها، وأحيانا يقع التمسك بدفوع غير جدية وغير منتجة ولا طائل من ورائها.
3 ـ نصيب الصياغة التشريعية في الأزمة
إن المتمعن في الصياغة التشريعية لفصول المسطرة الجنائية تتكون لديه قناعة واحدة، تكمن في وجود بلبلة حقيقية تؤثر بشكل أو بآخر على التجاوب القضائي مع إثارة الدفوع المعترضة. فأول ملاحظة تجب الإشارة إليها، هي موقف المشرع المتضارب والمتأرجح بين ترتيب الجزاء القانوني على بعض الإخلالات المسطرية وبين السكوت وعدم ترتيب الجزاء القانوني على خروقات أخرى، وحتى في حالة ترتيب الجزاء القانوني تختلف الألفاظ المستعملة، فأحيانا ما يستعمل لفظ البطلان، وأحيانا يستعمل لفظ تحت طائلة السقوط وفي حالة التنصيص على البطلان فأحيانا يكون الجزاء هو بطلان الإجراء المطعون فيه وحده، وأحيانا يشمل البطلان الإجراء المعيب وما يليه من إجراءات. من هنا يمكن القول أن أهمية الدفوع المعترضة في تحقيق عدالة زجرية متينة وقوية، وما تعانيه في الوقت الراهن من أزمة قانونية قد تهدد لا قدر الله “بانقراضها” من الممارسة القضائية بفعل الإعراض عنها وعدم التجاوب معها، تحتم على كل مشتغل بالشأن القضائي أن يبدي وجهة نظره في الحلول المقترحة من أجل التغلب على مظاهر الأزمة أو على الأقل التخفيف من وقعها وحدتها عبر اللجوء إلى بدائل تقدر المسائل المعترضة وتبوؤها المقام المحمود الذي تستحقه، من خلال إقامة توازن ضروري للوصول إلى العدالة في إطار متكافئ ونزال شريف ونزيه بين المتهم من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
ويمكن حصر البديل التشريعي والقضائي فيما يلي:
1 ـ على مستوى العمل التشريعي:
لابد من طرح بعض الملاحظات التي يجب التفكير في بلورتها تشريعيا، إذ لا مفر من تبني صياغة قانونية واضحة ودقيقة تنتقى فيها المصطلحات جيدا ويحدد فيها الجزاء القانوني لكل حالة على حدة، أو الاكتفاء بالإشارة إلى نص عام يرتب الجزاء عن الإخلالات الشكلية والمسطرية مع ذكر تعداد للفصول المعنية تفاديا لتضارب التأويلات والتفسيرات الذي لن تكون في صالح استقرار العمل القضائي ووحدته، كما أن التنصيص على إلزام المحاكم بالبث في الدفوع المعترضة قبل الفصل في الجوهر يبدو أمرا ملحا لا مفر من اعتماده بعد تطعيم المحاكم بالعدد الكافي من القضاة تقديرا للمشقة وتجنبا للعنت الذي يتحمله السادة القضاة حاليا بسبب تراكم الملفات وطول الجلسات. ومن جهة أخرى يبدو تحويل بعض المبادئ الفقهية أمرا مطلوبا كما هو الشأن بالنسبة لمبدأ “قاض الدعوى هو قاضي الدفع” ومبدأ “لا بطلان بدون ضرر فعلي”.
2 ـ على مستوى الممارسة القضائية:
نعالج هذه النقطة من خلال محورين:
*واجبات الدفاع: يحتم على الدفاع باعتباره الرقيب الأمني على احترام المسطرة أن يراعي ويحترم شروط تقديم الدفوع المعترضة حتى لا يكون مصيرها الرفض أو عدم القبول، ويمكن تحديد هذه الشروط في أن يتمسك بالدفع بالمسائل المعترضة في الوقت المناسب، أي أن يتم إبداءه قبل أي دفاعه في الجوهر، وأن يكون الدفع بالمسألة المعترضة مؤصلا أي أن يكون مسجلا له أصل في أوراق الملف. وهذا شرط ضروري أشارت إليه محكمة النقض في كثير من القرارات التي يستفاد منها أنه لا يتحتم على المحاكم أن تجيب على الدفوع التي يتقدم بها الأطراف أثناء المرافعات إلا إذا كانت تلك الدفوع قد عرضت على الشكل المتطلب قانونا أي بواسطة ملتمس مكتوب وإما طلب تسجيلها خصيصا في محضر الجلسة. كما يجب أن يكون الدفع بالمسألة المعترضة مستمرا، أي أن يتم الإصرار عليه في كل مراحل التقاضي، وأن يكون صريحا وجديا، أي ألا يعبر عنه بطريقة غامضة أو مجملة غير واضحة. ثم أن يكون لإثارته فائدة منتجة في الدعوى تفاديا لشغل وقت المحكمة بدفوعات تافهة وغير جدية. وهو ما عبرت عنه محكمة النقض في إحدى قراراتها: “يجب أن يكون الدفع الذي يتعين على المحكمة أن تجيب عنه دفعا جديا وجوهريا”[13].
* دور القضاء: إن دور القضاء في حل أزمة دفوع المسائل المعترضة لهو دور عظيم وجسيم، فالقاضي هو الملاذ الأخير بالنسبة للضعفاء من المتهمين الذين تنتهك حقوقهم وتهدم ضماناتهم. فمن عدل القاضي أن يعطي كل ذي حق حقه، ومن حقوق المتهم أن يحترم خصومه في الدعويين العمومية والمدنية الشكليات المسطرية، وإلا فإن له واسع الحرية ومن حقه أن يحتج على أي إخلال مسطري أو خروج عن القانون أو تجاوز لمقتضياته، ومن عدل القضاء ألا يتردد في التصريح ببطلان كل الإخلالات المسطرية التي من شأنها الإخلال بحقوق الدفاع.
ومن فرائض القضاء الزجري أيضا الإقناع والاقتناع فلا يكفي أن يقتنع مصدروا الحكم القضائي وحدهم، بل عليهم أن يقنعوا جميع أطراف الدعوى بالإجابة الكافية الشافية عن دفوعاتهم بالمسائل المعترضة وملتمساتهم. وهذا ما شددت عليه محكمة النقض في إحدى قراراتها التي جاء فيها “الجواب أو الرد عن دفع قدم بصفة قانونية بجواب غير واضح وغير مفصل يعتبر نقصا في التعليل يوجب النقض والإبطال”[14].
ومجمل القول واستنتاجا من كل ما سبق، وإجابة عن الإشكالية المطروحة، فإن تخويل القاضي الجنائي سلطة الفصل في المسائل المعترضة التي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجنائية ما يثقل كاهله ويكثف مجالات البحث أمامه، مما كان يستتبع معه عدم اضطلاعه بهذه المهمة. ولكن من ناحية أخرى فإن الفصل في الدعوى الجنائية يحتاج إلى إلمام القاضي الجنائي إلماما تاما بأركان الجريمة موضوع تلك الدعوى وعناصر كل ركن منها وبالظروف والملابسات التي تحيط بها. يضاف إلى ذلك ضرورة الفصل في الدعوى الجنائية بسرعة حتى لا تتعلق حقوق الأفراد وحرياتهم لفترات قد تطول، هذا إلى جانب أن أغلب المسائل المعترضة يختص بنظرها القضاء المدني ولا يوجد استقلال بين القضاء المدني والجنائي. فالمبدأ السائد هو وحدة القضائين. فكانت أن تغلبت الناحية الثانية على الأولى وتقرر مبدأ اختصاص القاضي الجنائي بالفصل في المسائل المعترضة التي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجنائية سواء كانت ذات طبيعة مدنية أو تجارية أو إدارية. واستثنى من هذا المبدأ بعض المسائل المعترضة التي قدر المشرع خطورتها أو تعقيدها فجعلها من اختصاص المحكمة صاحبة الاختصاص الأصيل بها ونص على وقف الدعوى الجنائية إلى أن يفصل فيها من تلك المحكمة، ومن هذه المسائل مسائل الأحوال الشخصية وكذلك المسائل العقارية والإدارية والمسائل الدستورية.
وعليه يتبين أنه إذا ما دفع بمسألة معترضة تدخل في اختصاص القاضي الجنائي تطبيقا لمبدأ اختصاص القاضي الجنائي بالفصل في المسائل المعترضة، فإنه يتعين عليه نظر تلك المسألة والفصل فيها. فاختصاص المحاكم الجنائية بهذه المسائل وجوبي لا جوازي بحيث لا يجوز لها التخلي عن هذا الواجب وإيقاف الدعوى أيا كانت الأسباب، حتى ولو كانت المسألة المعترضة مرفوعا بشأنها دعوى أمام جهة القضاء المختصة أصلا بها، فإذا حدث وأوقف القاضي الجنائي الدعوى الجنائية فإن حكم الإيقاف في هذه الحالة يكون مشوبا بالخطأ في القانون ومتعينا نقضه.
هذا وإذا كان القاضي الجنائي يختص بالفصل في المسألة المعترضة، فليس هناك ما يمنع من إمكانية الدفع بها من صاحب المصلحة أمام المحاكم المختصة تخفيفا للعبء على القضاء الجنائي.
وللعلة ذاتها ليس هناك ما يحول دون الاعتراف بحجية الأحكام الصادرة من الجهة ذات الاختصاص بنظر المسائل المعترضة بصفة أصلية وتقيد المحاكم الجنائية بها.
وإذا كان استبعاد المسائل المعترضة العقارية من اختصاص القاضي الجنائي في كل من فرنسا ولبنان محل نقد لأنها مسائل مدنية قبل كل شيء، فإن استبعاد المشرع المصري والمغربي لمسائل الأحوال الشخصية هو الآخر منتقد.
أما بالنسبة للمسائل الإدارية، فبالنظر لأنها من اختصاص جهة قضائية مختلفة عن جهة القضاء الجنائي، إلا أنه مع ذلك يفضل أن يختص بالفصل فيها القاضي الجنائي ، إلا إذا وجد أنها من التعقيد والأهمية ما يحتاج إلى الفصل فيها من جهة القضاء الإداري.
ولهذا يفضل ترك الأمر للقاضي الجنائي لكي يقدر هو ما إذا كان يتصدى للفصل في المسألة المعترضة الإدارية أم يتعين عليه وقف الدعوى الجنائية بشأنها إلى حين الفصل فيها من جهة القضاء الإداري.
[1] – احمد أبو الوفا، المرافعات المدنية والتجارية، منشأة المعارف الإسكندرية، 1986، الطبعة الرابعة عشر، ص:433 رقم 365. فتحي والي، الوسيط في القضاء المدني، دار النهضة العربية، القاهرة 1981، الطبعة الثانية، ص:334 رقم:183. محمود محمد إبراهيم، النظرية العامة الطلبات العارضة، دار الفكر العربي، 1948 ص:52. رمزي سيف، المرافعات المدنية والتجارية، دار النهضة العربية 1968/1969، الطبعة الثامنة، ص:329 رقم: 365.
[2] ـ أحمد الخمليشي، “شرح قانون المسطرة الجنائية”، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1994، ج2، ص:131.
[3] ـ فتحي والي، مرجع سابق، ص:334.
[4] ـ انظر رسالتنا “المسطرة المدنية كمصدر للمسطرة الجنائية”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، نوقشت بجامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق، طنجة، السنة الجامعية 2008/2009.
[5] ـ سورة الحج، الآية: 38.
[6] ـ سورة القصص، الآية: 17.
[7] ـ عبد القادر القهوجي، المسائل العارضة أمام القاضي الجنائي، الدار الجامعية، بيروت 1986، ص:5.
[8] ـ فطبقا لنص المادة 327 من القانون المدني الفرنسي لا يجوز رفع الدعوى الجنائية في جريمة إنكار النسب إلا بعد صدور حكم نهائي من المحكمة المدنية بثبوت نسب الطفل، وفي جريمة خطف القاصر والزواج منها لا يجوز تحريك الدعوى الجنائية أو رفعها إلا بناء على شكوى ممن لهم الحق في إبطال الزواج، وأنه يجب رفع دعوى أولا بإبطال الزواج وصدور حكم ببطلان هذا الزواج من المحكمة المدنية قبل التقدم بالشكوى في هذه الجريمة.
[9] ـ علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص:9-10.
[10] ـ انظر في هذه النقطة رسالتنا لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص في موضوع المسطرة المدنية كمصدر للمسطرة الجنائية نوقشت بكلية الحقوق، طنجة 2008-2009، ص:53 وما يليها.
[11] ـ عاطف النقيب، محاضرات في أصول المحاكمات الجزائية، الدار الجامعية، بيروت 1966، ص:61.
[12] ـ العلمي عبد الواحد، “حجية الأحكام الجنائية أمام القضاء المدني”، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الحقوق نوقشت بجامعة الحسن الثاني بكلية الحقوق، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء 1997-1998، ص:355 من تقديم الأستاذين الدكتور محمد المرنيسي والدكتور محمد الكشبور.
[13] – قرار عدد 861 الصادر بتاريخ 8 دجنبر 1987 في الملف الجنحي 19455-86. منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، دجنبر 2000، العدد 41، ص194.
[14] – قرار عدد 1429/9 الصادر بتاريخ 6/7/1995 في الملف الجتحي 5814. منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، دجنبر 2000، العدد 48، ص211.