قراءة سوسيو- قانونية نقدية في استثناء المادة 20 من مدونة الأسرة المتعلق بزواج القاصر
فرش:
تعتبر الأسرة نواة المجتمع و الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي برمته، فمن مجموعها يتشكل هذا الأخير الذي لن يشتد له ساعد و لن تقوم له قائمة إلا بمدى قوة الأسر و يضعف بقدر ضعفها و انحلالها، لذلك قد شغلت بال العديد من فقهاء القانون و علماء الاجتماع، حيت أفرد لها فرع في القانون الخاص يعرف ب”قانون الأسرة”، و ميدان خاص في علم الاجتماع يعرف ب” سوسيولوجيا الأسرة” أو “علم اجتماع العائلة“[1] .
و كيفما كان نوع الأسر[2]– نووية، ممتدة، مركبة، أحادية، بتريكية… ، و مهما كانت علاقتها بالأوضاع الاجتماعية القائمة في المجتمع – اقتصادي، اجتماعي سياسي، ديني…–، فإن تركيبتها في المجتمعات الإسلامية عموما و المجتمع المغربي على وجه الخصوص تتأسس على رابطة زوجية شرعية بين رجل و امرأة [3] راشدين بلغا سن رشد الزواج الذي هو في نفس الوقت سن الرشد القانوني المحدد في ثمانية عشر سنة شمسية كاملة [4]، و هذا هو المبدأ الذي نصت عليه المادة 19 من مدونة الأسرة ” تكتمل أهلية الزواج بإتمام الفتى والفتاة المتمتعين بقواهما العقلية ثمان عشرة سنة شمسية“[5]، و نظرا لما تقتضيه ضرورة الزواج في أحوال خاصة قبل بلوغ السن المنصوص عليه في المادة 19 أعلاه المحدد في 18 سنة كاملة، فقد وضع المشرع المغربي، هذا المقال منشور على موقع الجامعة القانونية المغربية الافتراضية، استثناء منصوص عليه في المادة 20 من مدونة الأسرة أعطى من خلاله الحق في الزواج للفتى و الفتاة القاصر دون سن الأهلية وفق ضوابط قانونية خاضعة لرقابة القضاء و لسلطته التقديرية حسب المصلحة الفضلى للقاصر ذكرا كان أو أنثى[6] بموجب مقرر غير قابل لأي طعن، ليكون بذلك المشرع المغربي قد أخد موقفا وسطا بين المواقف المؤيدة و المعارضة لزواج من لم يبلغ سن الرشد حين سمح له أن يرفع أمره إلى القاضي للنظر في طلبه حسب ما تقضيه المصلحة الفضلى.
و هذا الاستثناء الذي جاء في المادة 20 من مدونة الأسرة يشكل ترجمة لواقع اجتماعي معاش يكرس ظاهرة اجتماعية[7] يعرفها المجتمع المغربي كغيره من المجتمعات الأخرى- مع مراعاة خصوصية كل مجتمع – و المعبر عنها “بالزواج المبكر ” أو ” زواج القاصر ” أو “زواج الأطفال”[8]، حيث أصبح هذا الواقع الاجتماعي يشكل مشكلا يتخبط فيه المجتمع المغربي المعاصر نتيجة للأعطاب التي يعيشها سواء على المستوى المادي( الفقر، الهشاشة، البطالة..)، أو على المستوى المعنوي المتجسد خاصة في العنف الرمزي بلغة “بيير بورديو”.[9]
و إذا كان المشرع المغربي قد منح حق الزواج دون سن الأهلية كاستثناء في المادة 20 من مدونة الأسرة، فإنه من الملاحظ أن هذا الاستثناء عرف تزايدا ملحوظا مند دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق سنة 2004، و هذا ما تبرزه إحصائيات رسمية صادرة عن وزارة العدل[10]، فمن خلالها انتقل عدد رسوم زواج دون سن الأهلية من 18341 خلال سنة 2004( من أصل 263574 من مجموع رسوم الزواج، أي بمعدل %7.75)، إلى 35152 زواجا دون سن الأهلية سنة 2013 (من أصل مجموع رسوم الزواج 306533 أي بمعدل %11.4 ما يفيد أن عدد زواج دون سن الأهلية قد تزايد بالضعف تقريبا خلال عشر سنوات مند دخول المدونة حيز التطبيق و لازال في تزايد مستمر، و هذا ما يعطي للموضوع أهمة بالغة تدعو إلى القلق بشأن استمرار تزايد تزويج القاصر بالمغرب و ما يترب على ذلك من آثار سلبية على المستوى الفردي النفسي للقاصر و لحالته الاجتماعية، و على الأسر المغربية و باقي المجتمعات التي تجيز هذا الزواج في آخر المطاف.
و انطلاقا مما سبق يحق لنا أن نطرح التساؤل التالي :
ما هي المبررات القانونية و الاجتماعية التي لازالت تبيح استمرارية الأخذ بالاستثناء الوارد في المادة 20 من مدونة الأسرة المتعلق بزواج القاصر في المغرب ؟
و للإجابة عن هذا التساؤل المركزي سنحاول في هذه المقالة طرح مقاربة حقوقية تراعي الضوابط القانونية التي تبيح تزويج ما دون سن الأهلية في التشريع القانوني المغربي (المحور الأول)، و أخرى سوسيولوجية محضة تلامس الجوانب الاجتماعية لهذه الظاهرة( المحور الثاني).
المحور الأول : الشرعنة المعيبة لزواج القاصر من خلال المادة 20 من مدونة الأسرة
إن المقتضيات القانونية الواردة في المادة 20 من مدونة الأسرة تشكل نقطة انطلاق و الأساس القانوني الذي يشرعن لزواج القاصر في المغرب و الضامن لاستمرار الأخذ به على الرغم من العيوب و الغموض التي تشوبها (أولا)، و هذا ما يؤدي بالنتيجة إلى تباين التوجهات القضائية في ربوع المملكة في التعامل مع ملفات زواج القاصر (ثانيا)
أولا: قصور المقتضيات القانونة في تحصين زواج القاصر في المغرب
لقد عمل المشرع المغربي من خلال مقتضيات المادة 20 من مدونة الأسرة [11]على إضفاء الشرعية القانونية كاستثناء على زواج القاصر ذكرا كان أو أنثى، و فتح بذلك المجال لإمكانية الزواج دون سن الأهلية القانوني شرط حضور الولي القانوني في مجلس العقد و توثيق العقد من طرف عدلين منتصبين للإشهاد بدائرة المحكمة الابتدائية الذي أحدث بقسم قضائها ملف عقد الزواج و حفظ بكتابة الضبط[12]، غير أن هذا الاستثناء جاء ناقصا و معيبا في العديد من الجوانب نذكر منها على وجه الخصوص.
في نقطة أولى لم يتم في هذه المادة تحديد أي حد أدنى لسن زواج القاصر الذي لا يمكن النزول عنه[13]، لتفتح بذلك سلطة تقديرية واسعة في تأويل و تفسير القاعدة القانونية أمام القضاء المختص- قاضي الأسرة المكلف بالزواج – و لاجتهادات أقسام قضاء الأسرة على منح طلبات الإذن بناء على اعتبارات مختلفة – اقتصادية ثقافية حمائية…-، فمن خلال الإحصائيات الواردة عن وزارة العدل[14] فإن مجموع طلبات الإذن بالزواج دون سن الأهلية حسب السن بين سنة 2007 و 2013 قد سجلت معدل 1730 طلب بالنسبة لسن 14 سنة و 5601 بالنسبة لسن 15 سنة و 79935 بالنسبة لسن 16 سنة و 202452 طلب بالنسبة لسن 17 سنة، و هذا ما يفيد أن طلبات الإذن بالزواج دون سن الأهلية تنزل عن 18 سنة إلى حد 4 سنوات و ترتفع كلما اقترب القاصر من سن الأهلية المحدد قانونا مع نوع من التفاوت من قسم قضاء أسرى لآخر.
كما أنه من خلال نفس المادة –المادة 20 من مدونة الأسرة- يستشف أن قاضي الأسرة المكلف بالزواج قبل منح الإذن يراعي مجموعة من الشروط و الضوابط حتى لا يتم الشطط في حق الطفولة، وذلك من خلال عقد جلسة الاستماع للقاصر و لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي داخل غرفة المشورة التي يحضرها القاضي و كاتب الضبط و المعنيين بالأمر فقط بغاية الوقوف على الدوافع الأساسية لطالب الإذن بالزواج [15] و ذلك من خلال طرح مجموعة من الأسئلة حول مدى رضى القاصر بهذا الزواج و ما هي نوع العلاقة التي تربط القاصر بالخاطب/المخطوبة و ما هو اسم هذا الأخير و هل هناك حمل نتج عن هذه العلاقة ام لا إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجيب عليها كل من القاصر في مرحلة أولى ثم بعد ذلك نائبه الشرعي في مرحلة ثانية، لكن ما يعاب على هذا المقتضى القانوني أنه لم شر إلى حضور الطرف الأخر- سواء كان الخاطب أو المخطوبة – بل يتم الاقتصار فقط على شهادة الخطوبة(شهادة إدارية) للاطلاع على المعلومات الخاصة به، و هذا ما لا يمكن القاضي من الوقوف على الحالة و الأسباب الحقيقية لهذا الطرف و التي قد تكون من بينها أمراض نفسية كما هو الحال بالنسبة “للبيدوفيليا” الذي لا يجد المريض متعة إلا في الطفولة [16] و بالتالي انتفاء المصلحة الفضلى للقاصر.
ثانيا: تباين التوجهات القضائية في التعامل مع ملفات زواج القاصر.
إن القصور و الغموض الذي يشوب المقتضيات القانونية المنظمة لهذا النوع من الزواج يؤدي بالنتيجة إلى اختلاف في التوجهات القضائية و إلى نوع من التباين
بين أقسام قضاء الأسرة في ربوع المملكة بالنسبة إلى منح الإذن بزواج القاصر لطالبه، وكذا بخصوص مراعاة الحد الأدنى لسن القاصر الذي لا يمكن النزول عنه أخذا بعين الاعتبار أعراف و تقاليد المناطق التابع لها هذه الأقسام.
بالنسبة إلى السن الأدنى الذي لا يمكن النزول عنه للنظر في طلب الإذن بالزواج، فإن الواقع يعكس اختلاف و تباين في التوجهات القضائية نظرا لحجم المرونة في البث في طلبات الزواج المقدمة، و ما لهذا التباين من فتح المجال لإمكانية انتقال طالبي الإذن بالزواج من لم يبلغ السن المحدد قانونا من قسم قضاء أسرة لآخر حسب توجهات أقسام قضاء الأسرة، و إيداع طلب ملف الزواج بها، و لمواجهة هذا الخلل القانوني تم توجيه مذكرة صادرة عن النيابة العامة بتاريخ 20 مارس 2018 تحث قضاة النيابة العامة بجميع محاكم المملكة على تقديم ملتمسات بعدم الاختصاص بالنسبة لطلبات الزواج المتعلقة بقاصرين لا يقيمون بنفود دائرة قاضي الأسرة المكلف بالزواج الذي يقدم إليه الطلب باعتباره شرط ضروري لمباشرة الأبحاث، و بالتالي منح الاختصاص فقط في فتح ملفات طلب عقد زواج القاصر للمقيمين بالدائرة الابتدائية أو قسم قضاء الأسرة ، و السؤال الذي يطرح نفسه هنا حول مدى التزام أقسام قضاء الأسرة بهذه المذكرة و مدى انسجامها مع الواقع المعاش الذي يفرض قانونه الخاص به ما دام أن القضاة ملزمون بتطبيق القانون بالدرجة الأولى، ليبقى مع كل ذلك مشكل زواج القاصر مطروحا بجميع أشكاله و مختلف أبعاده الاجتماعية و النفسية و الثقافية و القانونية على المستوى الوطني.
كما أنه من أبرز النقاط التي يجد القضاء سلطة تقديرية في التعامل مع ملفات زواج القاصر هي تلك المتعلقة بالضمانات القانونية التي يستعين بها القضاء لتكوين اقتناعه و لتعليل مقرره، و المتمثلة في أحد الإجراءين الخبرة الطبية أو البحت الاجتماعي.
فمن حيث الخبرة الطبية التي تشكل الحل الأول نجدها تتجسد في الشهادة الطبية التي تفيد أن القاصر في صحة بدنية جيدة و أن الفتاة القاصر تقبل ” النكاح”[17] أي أن وضعها الفيزيولوجي و أعضاؤها التناسلية تسمح لها بالمعاشرة الزوجية و بالإنجاب فقط، من دون أي اعتبار إلى أبعادها الإنسانية و المعيشية و النفسية و العقلية…للقاصر و لحجم المسؤولية التي تنتظرها في سن مبكر، هذا مع احتمال إنجاب القاصرة في هذا السن و ما يصاحب ذلك من مخاطر صحية عليها أو على طفلها و من ضغوطات نفسية وصعوبات اجتماعية التي حتما ستصادفها خلال حياتها الزوجية.
أما بخصوص الخيار الثاني المتمثل في الاستعانة ببحث اجتماعي ميداني فإنه من الناحية الواقعية ناذرا ما يتم الركون إليه على الرغم من الدور المهم الذي يلعبه هذا البحث في توضيح المصلحة الحقيقية للقاصر في الزواج نظرا للاعتبارات السوسيواقتصادية و السوسيوثقافية التي يتوصل إليها المساعدين الاجتماعين بما لهم من تكوين و خبرة علمية في هذا المجال.
و هذا لا يمنع القاضي المكلف بالزواج أن يلجأ إلى الخبرة الطبية و البحث الاجتماعي معا من أجل تكوين قناعاته و ذلك في إطار سلطته التقديرية لمنح الإذن بالزواج.
و إذا كانت المادة 20 من مدونة الأسرة قد فتحت المجال لمن لم يبلغ سن الرشد القانوني للزواج أن يرفع طلبه إلى القضاء حتى ينظر فيه و يستجيب له بمقتضى مقرر غير قابل للطعن[18]، سواء كان الطالب ذكرا أو أنثى فإن الواقع المعاش أثبت أن حصة الأسد من هذه الطلبات هي تلك المقدمة من طرف القاصر الأنثى و هذا ما أكدته الإحصائيات الواردة عن وزارة العدل بين سنة 2007 و 2013 حيث بلغت هذه النسبة و خلال كل السنوات الواردة إلى %99[19] كما أن12 مليون فتاة في جميع أنحاء العالم يتزوجن قبل عيد ميلادهن الثامن عشر كل عام،[20]و هذا ما يجعل هذا الفعل في مصاف الظاهرة الاجتماعية.
المحور الثاني: زواج القاصرات كظاهرة اجتماعية سلبية تواجه المجتمع المغربي
تعمل مجموعة من العوامل الاجتماعية على تكريس ظاهرة زواج القاصرات في المجتمع المغربي، يمكن إجمالها خصوصا في الجانب التربوي الذي يلعب دورا مهما في هذا التكريس(ثانيا)، ثم في ما هو متعلق بالثقافة خاصة الشعبية منها (أولا)
أولا: الجوانب الثقافية المساهمة في استمرار انتشار زواج القاصرات في المغرب
تشكل الثقافة المحور الرئيسي الذي تدور حوله العلاقات الاجتماعية الموجودة بين مختلف أنماط الإنتاج الفكري و معطيات الواقع الاجتماعي داخل المجتمع، و قد عرف تايلور الثقافة بأنها ” ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة و الفن و الأخلاق و كل القدرات و العادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع”.
و بذلك فإن الجانب الثقافي حاضر بقوة في تكريس زواج القاصرات داخل المجتمع المغربي، و ذلك من منطلق ثقافة الحس المشترك السائد بين أفراد المجتمع خاصة الثقافة الشعبية الجماهيرية – الفئة الهشة الفقيرة – الذي يتجسد دورها في الأمثال الشعبية المتداولة ” مول المليح باع و راح” ” الزواج بكري بالذهب مشري” و ما لهذه الأمثال و غيرها في إبراز التمثلات المضاضة في المجتمع المغربي و التي تجعل الفتاة الغير متزوجة في سن مبكر حسب النظرة الاجتماعية ” بايرة “، ” شايطة”، و هو ما ينعكس سلبا على السلوكيات الاجتماعية التي تجعل دوافع التخلص من الفتاة في سن مبكر حاضرة بقوة[21].
و يبقى الدين كجزء من الثقافة يشكل محل جدل بين مؤيد و معارض حول مدى شرعية الزواج بالقاصر، على اعتبار أن نبينا الكريم تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة و هي بنت سبع سنين و بنى بها بالمدينة و هي بنت تسع سنين و في رواية أخرى عشر سنين [22]، لكن إذا كان الوضع على هذا المنوال في القرن السابع ميلادي في مجتمع صحراوي يبيح زواج القاصر فهل تبقى هذه الإجازة صالحة حتى في القرن الواحد و العشرون و في بيئاته المختلفة؟، خاصة أمام غياب أي نص قطعي صريح يجيز هذه المكنة، هذا مع العلم أن هذا الفعل من أفعال نبينا الكريم لا يتصل ببيان الشريعة و انما يدخل في حياته الخاصة كزواجه ب13 زوجة مثلا .
كما أنه في هذا السياق هناك اجتهاد للدكتور أحمد الخمليشي[23] استعمل فيه المنهج الديكارتي حيث شكك في تواريخ الزواج في تلك المرحلة التاريخية نظرا لضعف التوثيق في تلك الفترة، حينما شكك في سن أمنا خديجة التي كانت تكبر النبي الكريم بربع قرن وبعدد الأبناء الذي أنجبهم معها، و هذا ما يفسر الخلل الذي كان يشوب التواريخ في تلك الحقبة، و أمام ورود الخطأ في كل مكان وزمان فإن ذلك يدعو إلى إعادة النظر في زواج القاصر من أساسه.
ثانيا: الدور السلبي للتربية في تكريس ظاهرة زواج القاصرات في المغرب
تلعب التربية سواء بمعناها العام السوسيوثقافي أو بمعناها الخاص السوسيوبيداغوجي دورا مهما داخل المجتمع فمن خلالها يكتسب الفرد بشكل عمودي القيم و نظم التفكير و قواعد السلوك و الأخلاق… من أجل إدخاله في نسق الجماعة، و قد عرف إميل دوركايم (1858–1858) E.Durkheim رائد المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع التربية بأنها” الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ذلك ناضجة للحياة الاجتماعية، و هي تعمل على خلق مجموعة الحالات الجسدية و العقلية و الأخلاقية عند الطفل و تنميتها، و هي الحالات التي يتطلبها المجتمع بوصفه كلا متكاملا و التي يقتضيها الوسط الاجتماعي الخاص الذي يعيش فيه الطفل”[24].
و لعل من أبرز الأسباب التربوية التي تساهم في ترسيخ فكرة زواج القاصرة داخل المجتمع المغربي و بالتالي ضمان استمرار الأخذ بالاستثناء الوارد في المادة 20 من مدونة الأسرة هو ضعف التنشئة الاجتماعية [25]المبنية على أساس التمييز بين الطفل الذكر و الطفلة الأنثى من حيث الإعداد النفسي و الاجتماعي للزواج، خاصة في المراحل الأولى للطفولة داخل الأسرة كمؤسسة اجتماعية موكول إليها عملية التنشئة الأولية للطفل.
لتأتي بعد ذلك المدرسة المغربية المنوط بها عملية التربية النظامية الموجهة وفق عادات المجتمع و ثقافته و أخلاقه الاجتماعية [26] من أجل تكريس التمييز و الهيمنة الذكورية و نقلها من جيل إلى جيل، وما لهذا التمييز من دور في زرع الأفكار التي تجعل من الزواج هو خلاص المرأة و مآلها الأول و الأخير بعيدا كل البعد عن المألات الأخرى خاصة المهنية منها و التنموية.
و في الأخير يأتي دور الزوج بعد منحه الرخصة من طرف القضاء ليكمل ما بدأته الأسرة و المدرسة من تنشئة اجتماعية، ليتعداها إلى تنشئة جنسية تتوافق مع رغباته و شهواته الغريزية، و هذا ما أكده بعض المبحوثين من خلال بحث ميداني أجري بجهة فاس مكناس، حيث اعتبروا أن الزواج بالقاصر مرتبط بالإمتاع و الاشباع الجنسي و المتعة الجنسية مع الصغيرات فقط[27]، و هذا يدعو إلى تطوير النقاش العمومي و تطوير التفكير الجماعي المتعلق بمجموع القضايا الاجتماعية و الثقافية المرتبطة بالزواج عموما و التربية الجنسية على وجه الخصوص[28].
خاتمة:
في الأخير يجب الإشارة إلى أنه مادام أن هذه المقتضيات القانونية و التمثلات الاجتماعية لازالت قائمة ويصعب تغيرها بشكل سريع، فإنه يتعين من باب أولى أن لا ينزل سن القاصر عن سنة أو سنتين على الأكثر من سن الرشد القانوني ما دمنا أمام استثناء الذي يجب إعماله في أضيق الحدود، و ذلك إلى حين إعادة النظر في هذه المقتضيات و سد الثغرات القانون و تجاوز المعطيات و التداعيات الاجتماعية بهذا الخصوص، وكذا العمل على التحسيس بالأبعاد النفسية و الصحية المؤثرة على هذا النوع من الزواج داخل المجتمع .
كما أنه يتعين على القضاء أما سكوت النص القانوني و غموضه أن يجتهد في تأويل القاعدة القانونية حتى تتماشى مع الواقع الاجتماعي المعاش تحقيقا للمصلحة الفضلى للطفل القاصر و أن يراعي تحقيقها و تفعيلها على أرض الواقع، و كذا رفض طلبات الإذن بالزواج دون سن الأهلية كلما تبين انتفاء هذه المصلحة أو احتمال حصول ضرر تترتب عنه عواقب وخيمة على الصحة الجسدية أو النفسة للقاصر، و العكس صحيح أي قبول طلب هذا النوع من الزواج إذا رأى مصلحة ضرورية في ذلك حتى مع رفض النائب الشرعي لهذا الزواج.
المراجع المعتمدة:
- – محمد الكشبور، الوسيط في شرح مدونة الأسرة الكتاب الأول عقد الزواج و آثاره، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2009.
- أحمد الشراك، سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية: مقدمات في مقاربة البيدوفيليا، الطبعة الأولى ، مطبعة أنفو برانت ، فاس
- -إميل دوركاييم، التربية و المجتمع، ترجمة علي أسعد وطفة، دار معد للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الخامسة، 1996
- – علياء شكري، دراسات في علم الاجتماع العائلي، مطبعة الفنية للطباعة و النشر، الاسكندرية، 1991
- -محمد بن محمود آل عبد الله، علم النفس الاجتماعي و دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، مطبعة كنوز للمعرفة، القاهرة، 2012،
- -أميل دوركايم ، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، سلسلة ميراث الترجمة ، العدد 1810 القاهرة 2011 ،
- – بير بورديو، العنف الرمزي) بحث في أصول علم الاجتماع التربوي)،ترجمة نظير جاهل، الطبعة الأولى، مطبعة المركز الثقافي العربي، بيروث ،1994
- -القضاء الأسري : الواقع و الآفاق، عشر سنوات من تطبيق مدونة الأسرة، دراسة تحليلية إحصائية، قسم قضاء الأسرة و القاصرين و فاقدي الأهلية، وزارة العدل 2014
- – أحمد الشراك، زواج القاصرات بجهة فاس مكناس دراسة ميدانية، الطبعة الثانية، منشورات مقاربات
- – رأي المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي، ما العمل أما استمرار تزويج الطفلات بالمغرب، الجريدة الرسمية عدد6813 بتاريخ 14 محرم 1441 الموافق ل 16 /9/2019 ص: 6411
الإحالات
[1] – علياء شكري، دراسات في علم الاجتماع العائلي، مطبعة الفنية للطباعة و النشر، الاسكندرية، 1991 ص: 315 .
[2] – محمد بن محمود آل عبد الله، علم النفس الاجتماعي و دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، مطبعة كنوز للمعرفة، القاهرة، 2012، ص: 44
[3] – ينطلق عقد الزواج بحسب الأصل من تعاقد شرعي بين رجل و امرأة، يشهد عليه و يوثقه عدلان منتصبان للإشهاد.
– محمد الكشبور، الوسيط في شرح مدونة الأسرة الكتاب الأول عقد الزواج و آثاره، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2009، ص:31.
[4] – المادة 209 من مدونة الأسرة القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5184 بتاريخ 14 ذو الحجة 1424 ( 5 فبراير 2004 )، ص :418.
[5] – كما أن المادة 13 من مدونة الأسرة هي الأخرى نصت على أنه من بين الشروط الواجب توافرها في عقد الزواج أهلية الزوج و الزوجة، و حددت المواد 4،10،11،13، شروط الأهلية الازمة قبل إبرام عقد الزواج و هي 18 سنة كاملة و التعبير عن القبول و الرضى المتبادل و توثيق الزواج من أجل إثباته.
[6] – محمد الكشبور، م س، ص: 227.
[7] – الظاهرة الاجتماعية حسب المفهوم الدوركايمي” هي ضرب من السلوك ثابت أو غير ثابت يمكن أن يباشر نوعا من القهر الخارجي على الأفراد فهي بذلك كل سلوك يعم في المجتمع بأسره “.
– أميل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، سلسلة ميراث الترجمة ، العدد 1810 القاهرة 2011 ، ص: 46-47
[8] – لهذه الأسماء نفس المعنى من الناحية المعيارية في رصد هذه الظاهرة ما دام أن الطفل هو كل شخص لم يبلغ سن الرشد القانوني المحدد في 18 سنة كاملة، و بالتالي فهو قاصر بموجب القانون.
[9] – بير بورديو، العنف الرمزي) بحث في أصول علم الاجتماع التربوي )،ترجمة نظير جاهل، الطبعة الأولى، مطبعة المركز الثقافي العربي، بيروث، 1994.
[10] -القضاء الأسري : الواقع و الآفاق ، عشر سنوات من تطبيق مدونة الأسرة ، دراسة تحليلية إحصائية، قسم قضاء الأسرة و القاصرين و فاقدي الأهلية، وزارة العدل 2014 ص: 40 و 41.
[11] – ا تنص لمادة 20 من مدونة الأسرة على أن:
” لقاضي الأسرة المكلف بالزواج، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية المنصوص عليه في المادة 19 أعلاه، بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي”.
[12] – المادة 14 من قانون خطة العدالة:
– ظهير شريف رقم 1.06.56صادر في 15 من محرم 1427(14 فبراير 2006) بتنفيذ القانون 16.03 المتعلق بخطة العدالة، الجريدة الرسمية عدد 5400 بتاريخ فاتح صفر 1427 (2 مارس 2006)، ص 556
[13] – محمد الكشبور، م س، ص:227.
[14] – القضاء الأسري، م س ، ص : 45.
[15] – محمد الكشبور، م س، ص: 227.
[16] – ترادف هذه الكلمة الاستغلال الجنسي للأطفال أو الميل الجنسي و التلذذ الجنسي عند زمرة من الكبار اتجاه الصغار و لا يدخل تحت لواء أي هوية جنسية، فهي ممارسة جنسية وحشية بعيدة عن كل اعتبار قيمي أو ديني أو ثقافي.
أحمد الشراك ، سوسيولوجيا المشكلات الاجتماعية: مقدمات في مقاربة البيدوفيليا، الطبعة الأولى، مطبعة أنفو برانت ، فاس، ص: 5.
[17] – لقد تخلت المدونة ا للأسرة لجديدة لسنة 2004 عن هذه المصطلحات و ثم استبدالها بمطلح الزواج.
[18] – الفقرة الأخيرة من المادة 20 من مدونة الأسرة.
[19] – احصائيات وزارة الأسرة، ص: 44.
هذا مع العلم أن إحصائيات وزارة العدل لا تأخذ بعين الاعتبار ألا طلبات الزواج القاصر والزواج المبرم و بالتالي فإن زواج الغير موثق المعروف بزواج الفاتحة أو زواج “الكونطرا” لا يرد في الإحصائيات الرسمية و يدخل فيما يعرف بالرقم الأسود .
[20]– رأي المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي، ما العمل أمام استمرار تزويج الطفلات بالمغرب، منشور في الجريدة الرسمية عدد6813 بتاريخ 14 محرم 1441 الموافق 16 /9/2019 ص: 6411 .
[21] – أحمد شراك، زواج القاصرات بجهة فاس مكناس، م س، ص : 48.
[22] – لبن هاشم، السيرة النبوية ،الجزء الرابع ، منشورات دار إحياء الثرات العربي، بيروت لبنان، ص: 293.
[23] – رأي ذ.الخمليشي مذكور في كتاب أحمد الشراك ، زواج القاصرات في المغرب بجهة فاس مكناس، م س ، ص: 38.
[24] -إميل دوركاييم، التربية و المجتمع، ترجمة علي أسعد وطفة، دار معد للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الخامسة، 1996ص:67.
[25] -التنشئة الاجتماعية( la socialization) هي عملية التحول الاجتماعي التي تنقل الفرد من حالته الخام – الوعي الفردي- إلى حالته الاجتماعية-الوعي الجمعي- فهي تلعب دورا مهما و أساسيا في عملية التعلم و التعليم و التربية للفرد داخل الجماعة مند مراحل تنشئته الأولى حيث تساعده على امتصاص و تمثل ما تراه الجماعة ضرورية لاستمرارها مكسبا إياه الطابع الاجتماعي .
– محمد بن محمود آل عبد الله، م س، ص 21
[26] – -مصطفى محسن، اتجاهات نظرية في سوسيولوجيا التربية، مجلة دراسات عربية العدد السادس، أبريل 1988، ص: 48.
[27] – أحمد الشراك، زواج القاصرات بجهة فاس مكناس دراسة ميدانية،م س،ص: 46
[28] – رأي المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي، م س، ص: 6419