الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص
الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
عرف السلوك البشري تقدما ملموسا في التعامل مع محيطه؛ فمن التعامل مع المحيط البشري إلى التعامل مع البيئة التواصلية والإعلامية سواء من خلال صيغتها الورقية أو نسختها الإلكترونية. غير أن هذا التطور لم يحافظ على شكله الهادف والبريء بل أفرز العديد من السلوكيات التي أصبحت شيئا فشيئا تعمل على الإضرار بالمصالح الخاصة والعامة للأفراد والمؤسسات إلى أن بلغت تلك الأضرار مبلغا أضحى معه التدخل التشريعي أمرا مفروغا منه من أجل إعادة ترشيد استغلال البيئة التواصلية عموما واستثمارها استثمارا بعيدا عن كل انحراف أو نزعة شخصانية متسمة بطغيان المصلحة الشخصية والذاتية تكون دافعا للتستر وراء الحواسيب ووسائل التواصل الحديثة من أجل الإضرار بالغير ومصالحه ولو بسوء نية ومن غير وجود سبب معتبر لذلك.
وفي هذا الإطار فقد عمد المشرع المغربي على إدخال العديد من المقتضيات الجنائية الجديدة في صلب القانون الجنائي في محاولة منه لمواكبة ما أفرزته الثورة التكنولوجية من جرائم تجاوزت المس بالنظم المعلوماتية إلى استغلال هذه الأخيرة في العصف بحقوق وحريات الأشخاص والمس بمرتكزات خصوصياتهم عن بعد ومن غير موافقتهم.
وهكذا فقد أدخلت العديد من التعديلات على فصول مختلفة من القانون الجنائي منها ما يرتبط بجرائم جديدة ومنها ما يتعلق بتعديلات همت العقوبات مع الإبقاء على نفس الجرائم أو ما يتصل بتعديلات شملت بعض الجرائم.
ولقد كان للوضع الاعتباري للأشخاص النصيب الأوفر في الحماية الجنائية؛ إذ عمد المشرع المغربي على إضافة الفصول 1-447 و 2-447 و 3-447 في صلب القانون الجنائي ويتعلق الأمر بفصول أدخلت بعض السلوكيات، التي أصبحت منتشرة بفعل الاستغلال السيء للمنصات الإلكترونية، في زمرة الجرائم وأفردت لها عقوبات خاصة بكل واحدة من تلك الجرائم.
والجدير بالذكر أن هذه الجرائم ولو أنها تهم جميع الأشخاص بغض النظر عن جنسهم أو طبيعتهم فقد أدخلت في صلب القانون الجنائي بموجب القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء وهو القانون الذي سيدخل حيز التنفيذ في 12 شتنبر 2018 بعدما تم نشره في الجريدة الرسمية عدد 6655 بتاريخ 12 مارس 2018.
ونظرا لأهمية الجرائم المنصوص عليها في هذه التعديلات فقد ارتأينا أن نتحدث عن كل واحدة منها وما اتصل بها من أحكام سواء أكانت تلك الأحكام عامة أو خاصة من خلال التفصيل في ذلك مع اعتبار الجوانب الإشكالية التي قد تثيرها الممارسة العملية مستقبلا مساهمة منا في النقاش القانوني العام الرامي إلى تجسيد قاعدة لا يعذر أحد بجهله للتشريع الجنائي.
في البداية لابد من القول بأن الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص تعتبر زمرة جديدة من الجرائم التي استحدثها التشريع المتعلق بالعنف ضد النساء؛ وإن كان من المنتظر أن يقتصر هذا الأخير على الجوانب الجنائية التي تتعلق بمقاربة النوع من خلال الاهتمام بالجوانب التي تكون فيها المرأة ضحية باعتبارها هذا وفي غير الجوانب التي تشترك فيها مع الرجل، أو المتصلة بالأشخاص القاصرين بغض النظر عن طبيعة قصورهم والذين يعتبرون عرضة للاعتداءات من قبل ذوي السلوك المنحرف. وتمكننا قراءة التعديلات التي أدخلت بموجب الفصول 1-447 و 2-447 و 3-447 من القانون الجنائي من القول بأن تلك الجرائم يمكن أن تنقسم إلى أربعة أنواع على النحو التالي:
النوع الأول: جرائم الاعتداء على الأقوال والمعلومات الصادرة بشكل خاص أو سري دون موافقة أصحابها.
النوع الثاني: جرائم الاعتداء على صورة الشخص الموجود في مكان خاص دون موافقته.
النوع الثالث: الجرائم المتعلقة بتركيبة أقوال الأشخاص وصورهم دون موافقتهم.
النوع الرابع: الجرائم المتعلقة بالادعاءات أو الوقائع الكاذبة بقصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم.
وإذا كان التنصيص على هذه الجرائم يدخل في إطار مبدإ الشرعية، فإن أحكامها لا تخلو من إشكالات قانونية منها ما يتبدى من القراءة الأولية للقانون ويُكتشف بحكم التجربة ومنها ما ستفرزه الممارسة العملية والتنزيل الأولي للمقتضيات المتصلة بتلك الجرائم. غير ما يميز هذه الأنواع من الجرائم أن لها أحكاما عامة (المطلب الأول) بينما يقتصر كل نوع منها بأحكامه الخاصة (المطلب الثاني).
المطلب الأول
الأحكام العامة للجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص
تعتبر الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص بمثابة التجسيد العملي للحماية التي أضحت ضرورية نظرا لما أصبح الأشخاص يتعرضون له من قبل ذوي النيات السيئة، والذين اتخذوا من الوسائل الموضوعة تحت أيديهم منصات للنيل من غيرهم كلما وجدوا أنفسهم في وضع ناتج إما عن فعل الغير المستهدف أو بمناسبة قيام ذلك الغير بعمل ما من أعماله الخاصة.
وقد تعلب المصلحة الخاصة للمعتدي دورا أساسيا في اقتراف هذا النوع من الجرائم سواء أكانت تلك المصلحة الخاصة قد مُسَّت بالفعل أو كانت معرضة للمس. إذ السبب في ارتكاب تلك الجرائم قد يكون محققا أوفي حكم المحقق. كما أن ذلك السبب قد يكون عبارة عن مسألة أو قضية مهدِّدة لمصلحة الشخص مقترف الجريمة أو في شكل قضية موجهة للرأي العام سواء في صورة سلبية كما لو كانت هناك نية تأليب الرأي العام على شخص بعينه أو أشخاص بعينهم، أو في صورة هزل أو مزاح يَتَّخِذ من الغير وتصرفاته وأقواله موضوعا له.
ومهما يكن السبب، فإن المشرع عمل على حماية الأشخاص من الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص. وهكذا فقد وضع أحكاما عامة تشترك فيها هذه الجرائم منها ما يتعلق بالشخص موضوع الحماية ومنها ما يرتبط بالوسائل المستعملة لاقتراف تلك الجرائم.
الأحكام العامة المتعلقة بالشخص المقصود بالحماية
من المعلوم أن القانون الجنائي لا يتدخل، باعتباره النظام القانوني الأعلى الرامي إلى حماية القيم المعتبرة اجتماعيا، إلا إذا كانت هذه القيم قد أصبحت على مستوى عال من الأهمية بحيث لا يمكن تصور تركها معرضة للتهديد من قبل أي كان؛ ولذلك فإن سن زمرة الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص يدخل في هذا الباب. إذ أن الواقع المعاش أثبت أن التمثلات الفردية لمجموعة من الحقوق والحريات لم تعد كما هي بل إنها نحت في اتجاه الفوضى أكثر منه في الاتجاه السليم الرامي إلى التمتع بتلك الحقوق والحريات وفق القانون وفي غير الحالات التي قد تُمس فيها مصالح الغير. فالممارسة اليومية التي أصبحنا نلمسها من خلال السلوك المعتاد للأفراد دلت على أن مجموعة من التصرفات التي أصبح هؤلاء الأخيرون يأتونها قد حادت عن الهدف المنشود منها، إذ – مثلا – تحت مسميات فضح الفساد أصبح الأفراد يلجؤون لاستباق الأحداث ونشر مجموعة من الأخبار أو المعلومات أو المعطيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر المنابر الإلكترونية المختلفة ناسبين تلك الأفعال لجهات بعينها سواء أكانت تلك الجهات أشخاصا طبيعيين أو أشخاصا اعتباريين.
وإذا كانت الرقابة الشعبية مطلوبة، فيجب أن تمارس وفق قواعدها المواطنة القائمة على اعتبار مجموعة من المعايير وعلى رأسها قرينة البراءة التي أصبحت في مهب الريح مع كل نشر لخبر وربطه بجهة معينة بدون حسيب ولا رقيب. كما أن ذات الرقابة يجب أن تحترم المؤسسات والمساطر القائمة والواجبة الإعمال؛ إذ لا يعقل أن تترك الأهواء والأقوال المجردة من كل دليل والخارقة لكل المساطر أن تعبث بسمعة ومكانة الأفراد والأشخاص وتضر بمصالحهم تحت مسمى “الحق في الفضح” أو الحرية في التعبير.
فالموازنة القائمة بين الرقابة الشعبية التي هي صورة من صور الضغط من أجل المحاسبة والاحترام الواجب للأشخاص والأفراد والجماعات تحتاج إلى ضابط يضبطها لئلا تخرج قواعد تلك الرقابة عن جادتها في احترام تام لمختلف القيم المتعارف عليها ليس وطنيا فحسب وإنما دوليا أيضا؛ كحق الإنسان في صيانة قرينة براءته، أو حقه في أن يحاكم أمام محكمة نظامية مستقلة ومحايدة وليس أمام محكمة شعبية تلصق به وصم الإدانة الاجتماعية فيصعب عليه التخلص من تبعاتها ولو أصدر القضاء بمختلف درجاته حكمه بالبراءة من الفعل المنسوب لذلك الشخص.
إن الوسائط المختلفة التي أضحى الأفراد يمتلكون زمام السيطرة عليها أصبحت لا محالة سلاحا ذو حدين. فإذا كانت تلك الوسائل أداة للتواصل الاجتماعي والرقي المعرفي لروادها، فإنها أصبحت لدى البعض عبارة عن قنوات لتصريف الضغائن والمس بهيبة وحرمة الغير بدوافع مشكوك في براءتها سواء بصورة صريحة أو ضمنية، وهو الأمر الذي يُحدِث في الكثير من الحالات أضرارا لذلك الغير يصعب تفاديها أو تنتج عنها آثار اجتماعية سواء في الجانب الأسري أو المالي أو الاقتصادي أو الوظيفي والمهني أو غير ذلك مما يستحيل معه تدارك الأمر فيما بعد.
لقد أفرز الواقع أن مجموعة من الحالات التي أدين فيها الأشخاص اجتماعيا قد انتهت بالبراءة القانونية والقضائية بالرغم من حدوث الضرر الفادح في الكثير لأصحابها؛ هنا يجب أن نطرح التساؤل حول الصيغة التي يمكن أن نرد بها للمتضرر اعتباره. ففي حين لا يمكن تحميل الرأي العام المسؤولية عن الضرر الحاصل للمتضرر من الناحية القانونية لا يمكن أيضا أن نحمل الدولة المسؤولية عن جبر ذلك الضرر لأنها لم تكن مسؤولة عن إحداثه سواء بفعلها أو من خلال مؤسساتها، ولكن المتسبب فيه هم من كان مصدرا أو سببا في توجيه الرأي العام في اتجاه أضر بمصلحة المتضرر.
ولإيجاد نوع من الموازنة بين حق الأفراد في استغلال الفضاء العام ومنه الفضاء الافتراضي بكل صوره وفق قواعد حرية التعبير المعتبرة قانونا وتحملهم المسؤولية عن أفعالهم، فقد عمل المشرع على سن المقتضيات الواردة بالفصول 1-447 و2-447 و3-447 من القانون الجنائي كصيغة تشريعية ترمي إلى ضمان تحقق تلك الموازنة.
فقد أضحت المقاربة التشريعية المعتمدة في الفصول المذكورة أساسا لحماية الاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص، وهو اعتبار معنوي أكثر منه مادي. فإذا كانت الحرمة المادية تتجسد في ما قد يمس الأشخاص من جرائم تمس حياتهم أو أجسامهم، فإن الحرمة الاعتبارية تتمثل فيما قد يمس الأشخاص في شرفهم بنعتهم بصفات منافية للواقع أو في هيبتهم أو في مكانتهم الاجتماعية بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي أو مركز نفوذهم مادام أن الضرر المعنوي الذي يمس بجوهر الإنسان لا بقيمته المادية واحد في جوهره.
ولما كان من المحتمل أن تتصل الأخبار التي يتخذها البعض مطية للنيل من شرف واعتبار الغير قد تمس ذلك الغير باعتباره شخصا طبيعيا مجسدا في الإنسان أو شخصا اعتباريا متمثلا في المؤسسات والهيئات والشركات والجمعيات وغيرها مما يدخل في المفهوم القانوني للشخص الاعتباري فإن مناط النطاق الشخصي لتطبيق مقتضيات الفصول المذكورة يمتد إلى كل كيان يعتبر في مفهوم القانون شخصا.
ومن أجل ذلك فإن مفهوم الشخص الذي تفترض موافقته قبل نشر الأخبار عنه سواء في صيغة أقوال أو صور أو تركيبات أو غيرها مما يدخل في نطاق التجريم يندرج تحت كل صور الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين مادامت تلك الأخبار تعتبر من قبيل ما يدخل في خانة التجريم بموجب مقتضيات الفصول المذكورة.
وكخلاصة؛ يمكن القول بأن المشرع لم يحم الأشخاص الطبيعيين فحسب، ولو أنهم الأكثر تعرضا للضرر، وإنما حمى أيضا الأشخاص المعنويين لما لهم من دور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، خاصة وأن نشر أخبار زائفة حول شركة ما – مثلا – قد يعصف بسمعتها التجارية ويسبب لها من الخسائر ما يتجاوزها إلى غيرها ومحيطها كالتأثير في الوضعية القانونية والاقتصادية للعمال والمستخدمين أو ما يترتب عن ذلك من انهيار في قيمتها المالية وانهيار قيمة أسمهما وهو الشيء الذي يضر بالتنمية الاقتصادية لا محالة.
وإذا كان المشرع قد حمى المركز الاعتباري للأشخاص عموما من خلال المقتضيات الواردة بالفصول 1-447 و2-447 و3-447 من القانون الجنائي، فإن تلك الحماية يجب أن تتحقق في جميع الصور، وهو الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول ما يعتبر من الوسائل المادية لاقتراف الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص مما يخرج عن تلك الوسائل.
الأحكام العامة المتعلقة بالوسائل المستعملة لاقتراف الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص
إذا كان مبدأ الشرعية يفترض أن تحدد الأفعال التي تدخل في نطاق الجريمة تحديدا دقيقا، فإن هذا المبدأ لا يشمل الأفعال فقط وإنما يتعداها في بعض الأحيان إلى الوسائل التي قد تستعمل لاقتراف تلك الجرائم. لذلك فإن أصول المقاربة التشريعية تقتضي أن يتم ذلك التحديد على وجه الدقة. غير أن المبادئ التي كانت تُفهم على وجه معين قد تفهم على وجوه متعددة بحكم تطور الأوضاع والغايات التي من أجلها نشأت تلك المبادئ.
فإذا كان الغاية من مبدأ الشرعية تتجسد في حماية الأفراد من التعسفات الذي قد تمارسها الجهات المكلفة بإنفاذ القانون فإن ذلك المبدأ قد أخذ صورة محددة في زمن كانت فيه أفعال الإنسان متسمة بالبساطة والوضوح والانحصار. ولما توسعت دائرة تدخل الإنسان في التأثير على الواقع ومجرياته توسعت معها صور الأضرار التي أصبح الأفراد يتعرضون لها فكان لزاما على المشرعين أن يطوروا نظرتهم لمبدأ الشرعية من اعتباره مبدأ جامدا إلى كونه مبدأ مرنا يجب أن يعمل على استيعاب مختلف صور الفعل الإجرامي وتجلياته. ولذلك فإن التطور الذي شهدته مختلف القيم المستجدة في الواقع وما نتج عن ذلك من ضرورة الحماية الزجرية جعل المشرعين عموما والمشرع المغربي أيضا يعمل على محاولة استيعاب مختلف صور الاعتداء على تلك القيم والتي يمكن أن تدخل في إطار نوع معين من الجرائم وما يمكن أن يتصل بذلك الاعتداء أيضا من وسائل.
ولما كانت الوسائل التقليدية لارتكاب الجرائم قد أصبحت متجاوزة في معظم حالات الجرائم المقترفة فإن التعاطي المختلف مع الوسائل المستحدثة والنظر إليها على كونها فاعلة أو غير فاعلة في اقتراف الجريمة أصبح ضرورة ملحة وجب على المشرع أن يحدد موقفه منها وما إذا كان سيسلك منهج التحديد الدقيق لتلك الوسائل أم أنه سيعمل على وضع صيغة شاملة وعامة قد تستوعب الوسائل الموجودة وما قد يستحدث منها في الحاضر أو المستقبل القريب والبعيد.
إن التعامل مع تحديد وسائل اقتراف الجرائم لا يجب أن يتم باعتباره محلا لمبدإ الشرعية في حد ذاته، وإنما يجب أن يتم النظر أولا للقيمة المحمية وحمايتها جنائيا، ثم بعد ذلك الوسيلة أو الطريقة التي ستعتمد لاقتراف الأفعال المعتبرة جرائم. لذلك فإن الفعل الذي يعتبره المشرع جريمة قد يُتصوَّر أن يحدث بوسائل مختلفة أو محدودة، فإذا كان الفعل لا يتصور أن يتم إلا بوسائل محددة فإن حصر تلك الوسائل يصبح أمرا لازما لاكتمال صورة أي تشريع جنائي، أما إذا كان من المتصور أن تقترف الجرائم بوسائل مختلفة ومتعددة فإن الحاجة إلى تطويق الفعل المجرم ذاته قد يشفع في اعتماد فتح لائحة الوسائل المستعملة لاقترافه.
وفي هذا السياق نجد أن تعامل المشرع مع الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص اتسم بنوع من الدقة والذكاء بحيث إنه نظر إلى خطورة الفعل وما قد يحدثه من آثار على المصالح الخاصة والعامة للأشخاص. واعتبر أن هذا النوع من الجرائم قد لا تُستعمل فيه الوسائل التقليدية كالكتابة الورقية مثلا كما كان عليه الأمر في السابق فقط، وإنما تتعداها إلى استغلال الوسائل الإلكترونية الحديثة. وهذا الأمر يشهد له واقع الحال، إذ أن معظم الأفعال التي تدخل ضمن صور هذه الجرائم تتم في الفضاء الافتراضي وما يشكله هذا الفضاء من خطورة بالغة على سمعة ومصالح الأشخاص بما يشكله من فرصة لسرعة انتشار الأخبار والمنشورات وسرعة تداولها بين الأشخاص الشيء الذي يصعب معه احتواء الضرر الاجتماعي بالسرعة اللازمة ليتلقف الأفراد الخبر المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي على أساس أنه حقيقة مطلقة ويؤثر تبعا لذلك على الصورة التي يرى بها الرأي العام الأشخاص أفرادا كانوا أو مؤسسات وكذا الجماعات.
وفي هذا المضمار يمكن القول أن الصياغة التشريعية التي صيغت بها مقتضيات الفصلين 1-447 و2-447 من القانون الجنائي كانت موفقة إلى حد ما في استيعاب مختلف صور الوسائل التي قد تعتمد في اقتراف الأفعال المشكلة للجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص.
فعبارة “وبأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية” التي استعملت في صياغة الفصلين 1-447 و2-447 من القانون الجنائي جاءت عامة مستوعبة لمختلف أصناف الحوامل التي تفرغ فيها الأخبار والمعلومات سواء أكانت تلك الحوامل مما هو مألوف كالورق وغيره أو مما هو مستحدث كالوسائط الإلكترونية بمختلف صورها، من قبيل المكتوبات الإلكترونية أو الصور أو الفيديوهات أو المقاطع الصوتية. و لذلك فإن الظاهر من الصياغة المذكورة أن المشرع المغربي عمل على استحضار أمرين اثنين عند رغبته في التعامل مع الوسائل المستعملة لاقتراف الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص، الأمر الأول إيلاؤه الأولوية لطبيعة الفعل المحدث للضرر و ما ينتجه من خرق لمنظومة القيم الواجبة الاحترام، وثانيهما استحضار المتصور حالا والممكن مستقبلا بشأن الوسائل التي قد تعتمد لإتيان الأفعال المشكلة للجرائم المذكورة.
فإذا كانت الصيغ “التقليدية” و”الإلكترونية أو المعلوماتية” قد أصبحت أمرا متصورا لتحققه على أرض الواقع، فإن الرغبة في عدم الإفلات من العقاب مستقبلا كان عاملا موجها لاستشراف مختلف أنواع الوسائل التي يمكن أن تحدثها التطورات التي تشهدها الحياة الواقعية في المستقبل. ولذلك فإن عبارة “بأي وسيلة كانت” لمفردها قادرة على استيعاب الموجود والمستقبل من الوسائل ولو لم يتم ذكر عبارة ” بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية”.
إن الطريقة التي صيغت بها مقتضيات الفصلين 1-447 و2-447 من القانون الجنائي تعطي الانطباع بأن مثل هذه المقتضيات جعلت من القاعدة القانونية قاعدة مرنة ومستوعبة لمختلف التطورات المستقبلية ومن شأنها إعفاء المشرع من كثرة التدخلات التشريعية لتفادي الوضعيات التي قد تحدث في المستقبل من خلال استغلال المستجدات التي لم تكن محل إحاطة تشريعية عند وضع النص القانوني.
إن الحديث عن الأحكام العامة للجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص لا يقتصر على الأشخاص وعن الوسائل وإنما يشمل أيضا عنصرا مهما من عناصر التجريم ألا وهو موافقة أو عدم موافقة الشخص على التصرف في الأقوال والصور والتركيبات الناتجة من دمج الأقوال والصور .
الأحكام العامة للموافقة كعنصر لتجريم الأفعال الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص
يستفاد من الأحكام الواردة بالفصلين 1-447 و2-447 من القانون الجنائي أن واضع النصين اشترط لتجريم الأفعال المرتبطة بالأفعال الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص أن تقترف الأفعال المادية المكونة لكل جريمة من تلك الجرائم من غير موافقة الشخص الذي تنسب إليه الأقوال أو المعلومات أو تنشر صوره.
فكل التقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أو تثبيت للأقوال أو الصور أو التركيبات يتم من غير موافقة الشخص المعني يقع تحت طائلة التجريم و العقاب. غير أن مسألة الموافقة من عدمها وإن كانت عنصرا مشتركا في الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص فإنها مناط لإثارة العديد من الإشكالات القانونية التي يمكن الكشف عن البعض منها لعدم إمكانية حصرها.
ارتباط الموافقة بعبء الإثبات
صحيح أن عدم توفر موافقة الشخص المستهدف يعتبر أساسا لقيام الفعل الجرمي، لكن التساؤل قد يثور حول ما إذا كان الفعل مباحا في الحالة التي يدعي فيها مقترف الفعل حصوله على الموافقة من طرف الشخص الضحية.
إن مسألة موافقة الشخص على نشر أقواله أو صوره أو تركيبات مكونة من ذلك تعتبر من صميم مسائل الواقع، بمعنى أن الموافقة على النشر باعتبارها فعلا ماديا قد يصدر عن صاحب الأقوال أو الصور يفيد عدم ممانعته في ذلك النشر والترخيص للناشر بتعميم الأقوال والصور على الجمهور، وعلى هذا النحو إذا ما ادعى مقترف الفعل الجرمي في إطار الدفوعات التي يمكن أن يثيرها أثناء المحاكمة بأنه لم يقم بالنشر والتعميم إلا بعد موافقة صاحب الأقوال أو الصور فإن عبء إثبات وجود هذه الموافقة يلقى على عاتقه. فالجريمة الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص تقوم تشترط عدم الموافقة. وكما هو معلوم فإن ثبوت عدم الموافقة قد يتحقق بمجرد التقدم بشكاية من قبل الشخص ضحية النشر على اعتبار أن شكايته هاته تعتبر دليلا على عدم موافقته على النشر ولو لم ينكر صدور الأقوال عنه أو لم ينكر نسبة الصور له.
فمسألة نسبة الأقوال أو الصور للشخص الضحية واعترافه بها لا ينفي قيام الجريمة الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص، لأن موضوع التجريم يتعلق بتذييع تلك الأقوال والصور ولا يتعلق بمضمونها وما إذا كان ذلك المضمون يشكل في حد ذاته جريمة أم فعلا مباحا. فلا يحق لمقترف الأفعال الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص أن يستند على مضمون الأقوال والصور سواء أكانت مفردة أو مركبة واعتبار المجَرَّم منها للقول بمسألة التملص من الموافقة، كما لا يمكنه أن يستند إلى الموافقة الضمنية للشخص الضحية للتملص من واجب إثبات الموافقة اللازمة لانتفاء التجريم.
فمن الواضح أن قيام مثل هذه الجرائم يعفي النيابة العامة باعتبارها الجهة المثيرة للدعوى العمومية كما يعفي الجهة المتضررة أو الشخص الضحية المستهدف من عبء إثبات توفر الموافقة من عدمه، لأن المشرع وضع قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس تدل على انعدام الموافقة وهي القرينة المتمثلة في المنازعة في النشر وممارسة الحق في التشكي بخصوص ذلك.
ولذلك فإن عبء إثبات وجود موافقة الشخص الذي صدرت عنه الأقوال أو نسبت إليه الصور يبقى على عاتق الشخص المتابع نفسه.
ولا تقتصر الإشكالات المتعلقة بالموافقة على مسألة الإثبات فقط، وإنما تتعداها إلى نقاط أخرى كمسألة زمن الموافقة. إذ التساؤل في هذا الخصوص يرتبط بما إذا كانت الموافقة المطلوبة لإباحة النشر والتعميم للأقوال والصور الخاصة بالأشخاص يجب أن تكون موافقة قبلية أم الموافقة البعدية قد تنفي الصفة الجرمية عن الفعل؟
تأثير وقت الموافقة على فكرة التجريم
إن ما يدفعنا لطرح مثل هذا التساؤل هو اشتراط المشرع عدم الموافقة كعنصر لازم للتجريم من غير تحديد أي وصف لتلك الموافقة؛ وفي هذا السياق يمكن القول بأن الموافقة المسبقة للنشر مع توفر ما يفيد تحققها يجعل الفعل مباحا كما سبق، غير أن النشر المتبوع بالموافقة البعدية يجعلنا نطرح سؤالا جوهريا متمثلا في مدى إمكانية القول بقيام الجريمة أم عدم قيامها، وبعبارة أخرى هل الموافقة البعدية بالنشر ينفي الصفة الجرمية عن الفعل المقترف أم يبقى ذلك الفعل مجرما؟
إن طرح التساؤل المتعلق بآثار الموافقة البعدية على صفة الفعل ينطلق من كون هذا النوع من الجرائم لا يدخل في زمرة الجرائم ذات القيد أي الجرائم التي يشترط فيها المشرع الشكاية كقيد للمتابعة وإنما هي نوع من أنواع الجرائم العادية التي لا تتقيد المتابعة فيها بأي نوع من القيود. ولعل هذا التوجه الذي سار عليه المشرع في هذا الصنف من التجريم له أبعاده التي تفرض هذا النوع من التعامل كما لو تم نشر وتعميم أقوال أو صور شخص معروف بضعف قواه العقلية أو نقصانها أو انعدامها، كالصغير أو المجنون أو من في حكمهما، إذ عندها تتولى النيابة العامة تحريك الدعوى العمومية في مواجهة مقترف الجريمة الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص لأن شرط عدم الموافقة على النشر في مثل هذه الحالات آكد من أية صورة أخرى.
ففي مثل هذه الحالات التي تنعدم فيها الموافقة هل يمكن القول بأن صحو المجنون من جنونه أو رشد القاصر مثلا بعد النشر وموافقتهما على النشر يؤثر على الصفة الجرمية للفعل أم أن الجريمة تقوم بمجرد تحقق المتابعة من غير توفر الموافقة؟
وبصورة أخرى تجرنا مناقشة هذا الإشكال للبحث في زمن تحقق الصفة الجرمية للفعل الماس بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص إذ يجوز لنا التساؤل حول ما إذا كان التجريم يتحقق بمجرد النشر من غير تحقق الموافقة أم أن الصفة الجرمية متوقفة على المنازعة أو عدم المنازعة في النشر مثلا؟
يبدو أن القراءة المتمعنة لمقتضيات الفصلين 1-447 و2-447 من القانون الجنائي تسير في اتجاه تأرجح الفعل بين الصفة الجرمية والصفة المباحة في الحالة التي يتحقق فيها تأثر القوى العقلية للشخص المستهدف؛ إذ في مثل هذه الحالة تبقى للمحكمة سلطة تقدير طبيعة الفعل وظروفه وما إذا كانت الموافقة قبل النشر من عدمها مؤثرة في الصفة الجرمية أم لا؟ لكن في الحالة التي تتم فيها المتابعة بناء على إثارة الشخص الضحية للعناصر الجرمية ومباشرة الأبحاث بشأنها من طرف الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون فإن الصفة الجرمية تتحقق بقوة القانون ويبقى على مقترف الفعل عبء إثبات توفره على الموافقة كشرط لتبرئته.
ومن المسائل التي ترتبط بالأحكام العامة لعنصر الموافقة في الجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص ارتباط زمن الموافقة بعد النشر بمسألة التقادم وما قد ينتج عنه من إشكالات قانونية.
ارتباط عنصر الموافقة بفكرة التقادم
إن أول ما يمكن الحديث عنه في معرض علاقة عنصر الموافقة بالتقادم هو الطبيعة القانونية للجرائم الماسة بالاعتبار الواجب لحرمة الأشخاص هل هي جرائم وقتية أم جرائم مستمرة؟ وما يبعث على طرح هذا التساؤل هو ضرورة البحث في العنصر المتجدد الناتج من استمرار عرض الأقوال والمعلومات والصور وتراكيبها على الجمهور وإمكانية اطلاع هذا الأخير عليها في كل وقت وحين. فهل الجرم يتحقق بمجرد القيام بأحد عناصر الركن المادي لتلك الجرائم المتمثلة في كل من الالتقاط أو التسجيل أو البث أو التوزيع أو التثبيت أم أن العبرة بالغاية من بث الأقوال والمعلومات والصور الخاصة بالغير وما يمكن أن تشكله من ضرر لهذا الغير؟
وما يزيد من صعوبة الفصل في طبيعة هذه الجرائم هو أن التجسيد الفعلي لركنها المادي قد يتحقق من غير أن يندرج ذلك الفعل تحت طائلة الصفة الجرمية؛ إذ في الحالة التي يتم فيها بث أو توزيع أو تسجيل أو تثبيت الأقوال أو المعلومات أو الصور أو تراكيبها بموافقة أصحابها فإن هذا الفعل في حد ذاته يعتبر فعلا مباحا، ولكن في حالة انتفاء الموافقة يصبح نفس الفعل مجرما، ومن هنا لابد لنا من البحث عن القصد الجنائي الخاص هل يتمثل في مجرد القيام بالأفعال المادية أم أنه يتحدد في الضرر الذي يلحق بسمعة الضحية سواء أكان ضررا ماديا أم معنويا؟
هذه الإشكالات ستبقى محل نقاش قانوني يمكن أن يثمر اجتهادات قضائية أو آراء فقهية ننبه من الآن على أهميتها وما يمكن أن تنتجه من إضافات على المستويين العلمي والعملي.