ضابطا الضرورة و التناسب في السياسة الجنائية المعاصرة
تناولت الأطروحة ضابطا الضرورة و التناسب باعتبارهما ضابطين معياريين للسياسة الجنائية في مختلف حلقاتها بدءا بوضع النصوص القانونية الجنائية وانتهاءً بالتنفيذ العقابي و التأهيل و الإصلاح ، وكذا آليات السياسة الجنائية خارج النظام الجنائي .
والضرورة و التناسب ميدأين فلسفيين وعلميين وجدا في الفلسفة مذ كانت هي و العلم التخصصي شيئا واحدا ، ثم انتقلا إلى السياسة الجنائية بفعل الثورة العلمية التي افرزت تيارا فلسفيا عمل على تنزيل قوانين الطبيعة على الحياة الإجتماعية الإنسانية ،
وتكمن أهمية الموضوع في أنه محاولة لتبيان أثر المبادئ القانونية الفلسفية في تلافي أزمة السياسة الجنائية المعاصرة ، وهي أزمة يمكن رد جميع ملامحها إلى الشكلية المفرطة ، وكذا تعارض اللامشروعية القانونية مع اللامشروعية الاجتماعية ،وهو ما أفرز تضخما تشريعيا أدى لتضارب النصوص و تعارضها ، والفراغ التشريعي المتوهم في كثير من الأحيان بفعل التقيد الصارم بالشكلية القانونية ، وتزايد الجنوح البسيط ،وتضرر التفريد القضائي للعقوبة بمظاهره المختلفة وفي مقدمتها طغيان ظاهرة النزول عن الحد الأدنى للعقوبة فأصبح الأصل استثناءً و الإستثناء أصلاً ، وذلك بفعل كثرة القضايا التي تثقل كاهل العدالة الجنائية في المحاكم و أماكن تنفيذ العقوبة وغيرهما . فانطلق البحث من فرضية أن مامح أزمة السياسة الجنائية المعاصرة يرجع سببها إلى الإخلال بمؤدى ضابطي الضرورة و التناسب و اللذين ينطوي كل منهما على الآخر .
فكانت إشكالية الموضوع تتمحور حول مدى إمكانية استدعاء الضابطين المعياريين و المبدأين الفلسفيين لتلافي مظاهر أزمة السياسة الجنائية . ؟؟
فكان لا بد من بيان البنية الحقيقية للسياسة الجنائية وعلاقتها بغيرها من الحقول المعرفية في فصل تمهيدي ، ثم بيان موقف الإتجاهين الفلسفيين الرئيسيين (الإتجاه المثالي و الإتجاه الوضعي) من الضرورة في باب أول ، لينتهي المطاف إلى بيان أثر الضابطين المعياريين في تحقيق الحماية الاجتماعية الإنسانية في مجتمع المخاطر باعتباره هدف النظام القانوني وهدف السياسة الجنائية على وجه الخصوص .
وانتهى البحث إلى الخلاصات الآتية :
- اتجاه السياسة الجنائية من خلال موجهات عامة إلى تحقيق أهداف معينة بالإستناد إلى مخرجات مختلف مجالات المعرفة الإنسانية وعلى راسها المعرفة الفلسفية .
- تأثر السياسة الجنائية بالسياسة العامة للدولة ومن ثم بالإديولوجيا السياسية ، وهنا بينا باقتضاب علاقة المعرفة العلمية بالإديولوجيا .
- استناد السياسة الجنائية على القانون أي على الشرعية الشكلية وعدم تجاوز حدودها .
- تبني الضرورة الطبيعية الآلية الحتمية بمعنى اليقين و التحدد و اليقين المطلقين ، تخلت عن مكانها للضرورة الإحتمالية بعد بروز نظريتا الكوانتم و النسبية وبروز تيار البيولوجيا الحيوية في مقابل البيولوجيا الآلية الميكانيكية ، فاصبحت الضرورة الميكانيكية التجريبية المطلقة محل سؤال حتى في مجال العلم التخصصي فضلا عن الحياة الاجتماعية الإنسانية.
- ضرورة التوفيق بين “الضرورة المنطقية في رابطة التصورات ” أو الضرورة العقلية التي يقول بها الاتجاه المثالي الذي يعطي الأولوية للعقل على التجربة والتي تقود لقيم الواجب و العدالة من طريق الإستبطان العقلي الجواني ، وبين الضرورة الطبيعية الإجتمالية المستندة على التجربة الحسية والتي تستبعد لديها الإعتبارات الميتافيزيقية و الأخلاقية بدليل أنها غير مبرهن عليها تجريبيا .
- بروز اتجاهات توفيقية حاولت التوفيق بين المثالية و الوضعية لم ينه أزمة السياسة الجنائية في نموذجها المتشبت بالشكلية المطلقة ، فكان الرهان بحث صيغة توفيقية للضرورة الاجتماعية للتجريم ــ و التي تنطوي على التناسب طبعا ــ تجمع مصادر المعرفة الإنسانية سواء كانت عقلية أو تجريبية بالشكل الذي يجعل منهما ضابطين معياريين يحققان وظيفة السياسة الجنائية .
- الضرورة الاجتماعية للتجريم و العقاب تفرض حسن تعبير موجهات السياسة الجنائية و نصوص التجريم و العقاب عن الواقعية الاجتماعية التي يقول بها اتجاه الفلسفة الوضعية في فلسفة القانون و الذي انتهى الى فكرة المصلحة ، على أن لا يعارض ذلك المثل الأخلاقية الإنسانية الثابتة التي لا تستمد فقط من العقل و التجربة و إنما من مجما المعرفة الإنسانية بما فيها ما سطرته قرائح المتكلمين و الأصوليين و الفقهاء المسلمين .
- تتحقق الضرورة الاجتماعية للتجريم و العقاب كلما تعلق الأمر بمصلحة جوهرية للوجود الاجتماعي أو بدعامة من دعامات هذه المصلحة ،و التي تحضى بأهمية اجتماعية تجعلها ضرورية بالنظر إلى وظيفتها الاجتماعية سواء كانت فردية أو جماعية فتنتقل من التأثيم القانوني إلى التجريم القانوني ، مهما كان مصدر الضرورة ، عقليا جوانيا أو تجريبيا أو دينيا أو مزيجا من هذه الروافد .
- انتفاء الإجماع في مجتمعاتنا التعددية عن مصر الضرورة ومن ثم عن القيم الاجتماعية و المصالح المرتبطة بها ، ولا مخرج من هذا إلا في تجويد الديمقراطية و تهذيب مبدأ الإنفراد التشريعي .
- الضرورة و التناسب يفرضان عدم التدخل بالحل الجنائي إلا حال الخطر او الضرر اللاحق او المحتمل بالمصالح الضرورية للوجود الاجتماعي أخذا بضابط التقيد بالحد الأدنى للتدخل الجنائي .
- الضرورة و التناسب يفرضان صيغة توفيقية في ثنائية الكونية و الخصوصية في ما يتعلق بالحقوق و الحريات .
- ضرورة الموازنة بين المصالح المتعارضة و المفاضلة بينها متى دعت الضرورة تحقيقا لضابط التناسب سواء عند وضع نصوص التجريم و العقاب أو في سياسة الدعوى العمومية.
- التدخل بالتجريم و العقاب التزام سلبي و إيجابي على عاتق المشرع فلا يجب أن يؤدي التدخل إلى المساس بجوهر الحقوق و الحريات و المصلحة العامة .
- إعادة النظر في مبدأ “عدم العذر بالجهل بالقانون ” في الجرائم المصطنعة المعاصرة المتسمة بطابعها التقني الذي لا يسمح بافتراض العلم بالقانون الجنائي .
- ضرورة تنقية القانون الجنائي من اشكال التجريم المعاصر التي انتفت ضرورتها لتلافي التضخم و الإفلاس العقابي عملا بمفهوم “نفعية أو عائدية السياسة الجنائية” وأخذا بضابط التناسب .
- الأخذ بمفهوم التدخل الإحتياطي في اختيار السياسة العقابية الملائمة في إطار النظام الجنائي أو خارجه .
- بحث نظرية قانون العقوبات الإداري أخذا بمفهوم التدخل الجزئي أو التدخل الإحتياطي .
- الأخذ بمدلول التدخل الإحتياطي و التحول عن الإجراء الجنائي في سياسة الدعوى الجنائية وذلك بدراسة الحالات ودراسة الجدوى في الأوساط الاجتماعية المختلفة وهذا يتطلب عملا إحصائيا وميدانيا من المرصد الوطني للإجرام .
- تبني معيار المصلحة في التجريمو العقاب في الجرائم المعاصرة بدلا من الشكلية المطلقة وذلك بوضع نصوص جنائية نموذجية قائمة على المصلحة لا على أشكال السلوك التي لا تقع تحت حصر .
- عدم التقيد بالتفسير الضيق للقانون بل بجوهر الضرورة و التناسب لأن البحث يجب أن ينصب على التفسير الصحيح و الذي لا يجب أن يوسع أو يضيق على حساب التطبيق السليم و العادل للقانون .
- تجاوز قيد تفسير الشك لمصلحة المتهم وتطبيق القانون الأصلح للمتهم خصوصا في الجرائم المستحدثة التي تثبت ضرورتها ولا تؤدي للمساس الخطير بحقوق و حريات الافراد تحقيقا لمؤدى ضابط التناسب الذي يفرض الموازنة و المفاضلة بين المصالح . لأن التفسير يجب أن يكون لصالح المتهم كما يكون لصالح المصلحة العامة شأنه شأن القانون الأصلح للمتهم .
- الأخذ بمبادئ الديمقراطية التشاركية في وضع النصوص الجنائية و في الحد من التجريم بإشراك المواطنين في التشريع عن طريق العرائض و الملتمسات التشريعية .