حدود السلطة التأديبية للمشغل
مقدمة
إن اعتبار المشغل رئيسا للمقاولة كونه هو من يسهر على تنظيم المشروع ويتولى سلطة الإشراف والتوجيه ومراقبة الأجراء أثناء تواجدهم في مقرات عملهم بالإضافة إلى تحمله الخسائر الناتجة عن مشروعه، فإن نجاح المقاولة يكون رهينا بمدى قيام الأجراء بعملهم أحسن قيام وتنفيذ الأوامر والتعليمات التي توجه إليهم على الوجه المطلوب.
وحتى يكون لتعليمات صاحب المقاولة أو المؤسسة صدى فاعلا لدى الأجراء، وحتى لا تذهب هذه التعليمات أدراج الرياح، رتب المشرع على فرض أو مخالفة تلك التعليمات مجموعة من العقوبات يزيد أثرها أو ينقص في الواقع بدرجة الخطأ المرتكب من جانب العامل أو المستخدم أو الإطار[1]، وهذه العقوبات تدخل في إطار ما يسمى بالسلطة التأديبية للمشغل والمخولة بموجب القانون.
ويمكن تعريف السلطة التأديبية للمشغل بأنها سلطة قانونية موضوعها فرض قاعدة سلوكية على الأجراء الذين يشتغلون في المشروع الإقتصادي عن طريق عقوبات محددة تقع على المخل بهذه القاعدة التي تظهر في شكل أوامر وتعليمات المشغل[2].
غير أن هذه السلطة الاستثنائية الممنوحة للمشغل ليست مطلقة وغير معفية من المساءلة، بل تخضع لرقابة القضاء ومقيدة بقيود قانونية لا يجوز مخالفتها أو تجاوزها.
لقد تبلورت الأحكام القانونية المنظمة لسلطة المشغل التأديبية أول مرة بصدور ظهير23 أكتوبر 1948 المتعلق بالنموذج المتخذ لتحديد العلاقات الرابطة بين الأجراء الذين يمارسون مهمة تجارية أو صناعية حرة وبين مؤاجريهم، ثم بعد ذلك ظهير 29 أكتوير 1962 المتعلق بتمثيل المستخدمين داخل المقاولات، وظهير 24 أبريل 1973 المتعلق بشروط تشغيل المأجورين الفلاحيين وأداء أجورهم. ولقصور وغموض مقتضيات هذه القوانين، وانسجاما مع المطالب الدولية خصوصا منظمة العمل الدولية ومحاولة تكييف النظام القانوني المغربي الخاص بالشغل مع التشريعات المقارنة المتقدمة صدرت مدونة الشغل التي دخلت حيز التنفيذ في 8 يونيو 2004 والتي كبلت يد المشغل لكي لا يتعسف في ممارسة سلطته التأديبية بل أخضعتها لمراقبة السلطة القضائية بمقتضى المادة 42 من مدونة الشغل.
هذا وتعتبر الأنظمة الداخلية للمقاولات من بين أهم المصادر الأساسية التي يستمد منها المشغل سلطته التأديبية وذلك حينما يعمد لإعداد هذا النظام استجابة للإلزام القانوني بذلك طبقا للمادة 138 من مدونة الشغل.
وتتجلى أهمية دراسة حدود سلطة المشغل التأديبية في معرفة تأثير هذه السلطة سواء على الأجير أو المشغل نفسه أو المقاولة التي يجب إحاطتها بعناية كبيرة، وذلك لدورها الإقتصادي والإجتماعي، ولحدود آليات تطبيق السلطة التأديبية من طرف المشغل وكذا الآثار التي تحدثها الأحكام القضائية في هذا الإطار على حياة الأجير الاقتصادية والإجتماعية.
هذا ما سنحاول معالجته انطلاقا من إشكالية محورية مفادها إلى أي مدى تؤثر القيود التشريعية والرقابة القضائية على سلطة المشغل التأديبية؟ ولدراسة هذه الإشكالية ارتأينا اعتماد التصميم الذي تبنيناه في التحليل والقائم أساسا على مبحثين:
المبحث الأول: تنظيم السلطة التأديبية للمشغل.
المبحث الثاني: الرقابة القضائية على السلطة التأديبية للمشغل.
المبحث الأول: تنظيم السلطة التأديبية للمشغل
تعتبر السلطة التأديبية للمشغل الوسيلة الأبرز لضمان نجاعة سلطته باعتباره الرئيس الفعلي والطبيعي للمقاولة، وهي سلطة ضرورية مخولة بموجب القانون لكل منظمة تضم مجموعة من الأفراد، كما أن عقد الشغل يجعل من الأجير تابعا لصاحب المقاولة لما يتمتع به من سلطة توجيه وإشراف وتنظيم.
ولذلك سوف نتطرق لحدود هذه السلطة من خلال معرفة الأخطاء والعقوبات التي يترتب عنها تفعيل السلطة التأديبية والمسطرة المتبعة في ذلك عبر ما نصت عليه مدونة الشغل وما تتضمنه الأنظمة الداخلية وذلك من خلال المطلبين التاليين:
المطلب الأول: مفهوم الخطأ التأديبي وأنواعه
المطلب الثاني: مسطرة توقيع العقوبة التأديبية.
المطلب الأول: مفهوم الخطأ التأديبي و أنواعه
سنحاول من خلال هذا المطلب دراسة مفهوم الخطأ التأديبي وأنواعه والإشكاليات التي يطرحها وصعوبة تحديده.
الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ التأديبي
لم يعرف المشرع المغربي على غرار باقي التشريعات المقارنة الخطأ التأديبي واكتفى بذكر بعض الأخطاء الجسيمة التي نصت عليها المادة 39 من مدونة الشعل، والتي جاءت على سبيل المثال لا الحصر.
وأمام غياب تحديد مفهوم تشريعي للخطأ التأديبي، فقد اعتبره البعض[3] بأنه كل مخالفة غير مبررة لأوامر وتعليمات المشغل، أما الفقه المصري فقد ذهب جانب منه على تعريف الخطأ التأديبي على أنه “الانحراف في سلوك العامل داخل مجتمعه الصغير الذي يكونه المشروع ويخل بالقواعد المرعية فيه ويعبث بنظامه”[4]، وعرفه أيضا الفقيه الفرنسي (فرانسيس دليري) بأنه: “الفعل أو الإمتناع عن فعل ينسب إلى الفاعل ويعاقب عليه بجزاء تأديبي”[5].
كما حاول القضاء المقارن تعريف الخطأ التأديبي حيث ذهبت محكمة الإستئناف الفرنسية في مرسيليا في حكم لها صدر عام 2008 إلى تعريف الخطأ التأديبي على أنه “الإخلال أو التقصير بالواجبات المهنية والتي تكون مبررة للجزاء التأديبي” وهو ما ذهب إليه القضاء الفرنسي العادي حيث عرفه على أنه ” كل إخلال بواجبات المهنة وأخلاقياتها”[6].
وفي القضاء المصري ذهب مجلس الدولة المصري إلى تعريف الخطأ التأديبي وبيان ضوابطه في حكمه الصادر في 25/01/1958 على أنه “هو كل عمل إيجابي أو سلبي يقع من العامل عند ممارسة أعمال وظيفته إذا كان ذلك لا يتفق مع واجبات تلك الوظيفة ” وفي حكم آخر ذهب إلى أن ” سبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال العامل بواجبات وظيفته أو إتيانه عملا من الأعمال المحرمة عليه فكل عامل يخالف الواجبات التي تنص عليها القوانين أو القواعد التنظيمية العامة أو أوامر الرؤساء الصادرة في حدود القانون أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته المنوط به تأديتها بنفسه بدقة وأمانة إنما يرتكب ذنبا إداريا[7].
من خلال ما تقدم ذكره يمكن تعريف الخطأ التأديبي بأنه “كل فعل نتج عن قصد أوإهمال يمس النظام المعمول به في المقاولة من شأنه إلحاق ضرر بها أو العاملين (أوالزبائن أو الزوار ) أو يشكل خرقا لإلتزامات الأجير تجاه رب العمل”.
إن ما يلاحظ على مجموع هذه التعاريف أنها غير شاملة لأن مفهوم الخطأ يجب أن يراعى فيه مدى الإخلال بنظام المقاولة لمعرفة ما إذا كان يشكل خطأ تأديبيا أم لا، فنطاق هذه الأخطاء واسع جدا وذلك بالرجوع إلى أهداف كل مقاولة على حدة وحاجياتها ومدى تأثير الفعل على عرقلة تنظيمها وسيرها وهذا ما يعطي للمشغل سلطة في تضمين النظام الداخلي الخاص بمقاولته ( أو مشروعه) ما يراه ضروريا من الأخطاء المستوجبة للعقوبات التأديبية لضبط سلوك أجرائه؛ من خلال ذلك فالنظام الداخلي يمكن أن يكون أقل أو أكثر صرامة حسب نشاط المقاولة وتوجهاتها لذلك فإنه لا يمكن إعمال مبدأ المشروعية (لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص) كما هو الحال في القانون الجنائي وتطبيقه على الخطأ التأديبي.
في هذا الباب حاول المشرع المغربي وضع حدود موضوعية للخطأ التأديبي من خلال مدونة الشغل التي ميزت بين الخطأ الجسيم الذي أوردت أمثلة عنه في المادة 39، والخطأ غير الجسيم الذي يستوجب توقيع الجزاءات المنصوص عليها في المادة 37.
وعموما فإن تحديد مفهوم الخطأ التأديبي بين النظام الداخلي الذي يميز كل مقاولة على حدة وبين مدونة الشغل التي حددت العقوبات الخاصة بالأخطاء اليسيرة وحددت لائحة خاصة بالأخطاء الجسيمة، وأمام التحول الذي تعرفه المقاولة أصبح وضع تعريف للخطأ التأديبي أمرا معقدا في سياق اعتبار كون المشغل هو الحكم الوحيد الأدرى بتدبير مقاولته دون أن يؤدي ذلك إلى تجاوز المقتضيات القانونية في التشريع الاجتماعي الذي يضع في أولويته حماية الأجير كطرف ضعيف في علاقة الشغل.
الفقرة الثانية: أنواع الخطأ بين مدونة الشغل والأنظمة الداخلية للمقاولات
أمام غياب تعريف تشريعي أو فقهي شامل لمفهوم الخطأ التأديبي عملت مدونة الشغل والأنظمة الداخلية للمقاولات على حصر الأخطاء المرتكبة من قبل الأجير في صنفين يتعلق الأول بالأخطاء اليسيرة أو غير الجسيمة، والثاني بالأخطاء الجسيمة. وتبرز أهمية التمييز بينهما على مستوى تحديد الجزاء الذي يستحقه الأجير المرتكب للخطأ.
أولا: الخطأ غير الجسيم
لم يعط التشريع المغربي كغيره من التشريعات تعريفا محددا للخطأ غير الجسيم وإن كان قد حدد آثاره على مستوى العقوبة الواجبة التطبيق على الأجير المرتكب للخطأ (المادة 37 من مدونة الشغل) كما أنه لم يحدد الأخطاء التي تعد يسيرة خلافا لما ذهب إليه بالنسبة للأخطاء الجسيمة في المادتين 39 و 40 من مدونة الشغل؛ بعدم تحديده لهذه الأخطاء فإنه ترك أمر تحديدها للمشغل الذي خوله سلطة تأديبية نابعة من سلطته الإدارية يفرض بمقتضاها على جميع الأجراء احترام قواعد القانون الداخلي والامتثال لتعليمات أعضاء الإدارة و التسيير تحت طائلة توقيع العقوبة التأديبية على كل من خالف هده التعليمات حفاظا على المقاولة باعتبارها مجموعة أموال مستثمرة وجهد مستخدمين”[8].
هكذا يكون الخطأ اليسير هو كل خطإ لم يصل درجة الخطورة قياسا على الأخطاء الجسيمة الواردة في المادة 39 من مدونة الشغل اي أن درجة جسامته غير موجبة للفصل.
فتحديد الخطأ غير الجسيم يدخل في إطار سلطة المشغل وذلك من خلال إصدار النظام الداخلي الخاص بمقاولته عبر تعيين لائحة بالأخطاء مع العقوبة المناسبة لها ويبقى للمشغل كذلك الحرية في تصنيف درجة الخطإ تبعا لخصوصية نشاط المقاولة ذلك أن ما يمكن اعتباره خطأ يسيرا في مجال معين لا يمكن اعتباره كذلك في مجال آخر، فالتدخين في مقاولة لمواد البناء يمكن اعتباره خطأ يسيرا لكنه يعد خطأ جسيما في معمل للمحروقات.
وباستقراء مختلف الأنظمة الداخلية التي قام المشغلون بتحريرها نجد أنها ناقصة الدقة والوضوح في الصياغة وتتضمن دائرة واسعة من الأفعال المعاقب عليها داخل المقاولة كما أنها إذا كانت تحدد الأخطاء الجسيمة في مادة مستقلة فإنه لا يتم ذكر الأخطاء اليسيرة على أنها كذلك بل تحدد على أنها الأفعال التي يحرم أو يمنع اللجوء إليها أساسا من أجل الانضباط والحفاظ على النظام الحسن داخل المقاولة وبالتالي تخضع للعقوبات التأديبية المنصوص عليها في المادة 37 من مدونة الشغل. إن إطلاق حرية المشغل في تحديد الأخطاء اليسيرة وتوقيع الجزاءات المرتبطة بها المشار إليها في المادة 37 السالفة مع التقيد بمبدأ التدرج لا تخفى مخاطره خصوصا إذا كان استنفاذ العقوبات التأديبية داخل أجل سنة من شأنه فصل الأجير عن عمله فصلا اعتبره المشرع مبررا[9].
وبالتالي فإن غياب المشرع عن الحقل التأديبي بخصوص تحديد الأخطاء غير الجسيمة وترك آليات تفعيله بيد المشغل يجعل منه أداة للإضرار بالأجير وحقوقه مما يطرح التساؤل حول تأثير النظام الداخلي على الأجير المرتكب لهذه الأخطاء باعتبار هذا الأخير مصدرا من المصادر الواجبة التطبيق والإحترام طبقا للمادة 11 من مدونة الشغل.
وبالرغم من النطاق الواسع الذي يشمل تحديد الخطإ غير الجسيم فإننا نرى أن المشرع خول الأجير حماية نسبية من خلال حرمان المشغل تضمين النظام الداخلي بما يخالف مدونة الشغل وضرورة احتوائه على مقتضيات أكثر حمائية للأجراء، بل أكثر من ذلك جعل السلطة التأديبية للمشغل خاضعة للرقابة القضائية.
ثانيا: الخطأ الجسيم
إن الخطأ الجسيم هو الذي يوجب الفصل من الشغل وبذلك يؤثر مباشرة في استقرار علاقات الشغل. وبالرجوع إلى مدونة الشغل فإن الخطأ الجسيم ينقسم إلى قسمين: أخطاء الأجير الجسيمة [10]موضوع حديثنا وأخطاء المشغل الجسيمة[11].
وأمام غياب تعريف تشريعي للخطأ الجسيم فقد عرفه القضاء المغربي بأنه “هو الفعل الذي يجعل من غير الممكن الحفاظ بالعلاقة التعاقدية ولو أثناء مهلة الإخطار”[12]، حيث اقتصر دور المشرع على تعداد أهم حالاته وصوره على سبيل المثال وذلك خلافا لبعض التشريعات[13]، فالمادة 39 من مدونة الشغل جاءت بعبارة ” بمثابة ” التي تفيد القياس بل نجد أن المشرع أشار إلى حالات أخرى للخطأ الجسيم خارج هذه المادة[14].
لذلك فعدم تحديد الأخطاء التي تعد جسيمة في مدونة الشغل يتيح للمشغل الفرصة لتضمين لائحة الأخطاء الجسيمة الخاصة بالنظام الداخلي لمقاولته أفعالا أخرى وهو ماله أثرا خطيرا على حقوق الأجير حال ثبوت ارتكابه لهذه الأفعال.
وما يلاحظ على مختلف الأنظمة الداخلية للمقاولات أنها تعمد إلى تضمين لائحة الأخطاء الجسيمة المنصوص عليها في المادة 39 من مدونة الشغل بشكل متطابق وفي عدة أحيان تضيف بعض الحالات الأخرى تعتبرها أخطاء جسيمة[15]. وعموما يمكن اعتبار تحديد الأنظمة الداخلية للائحة لأفعال بعينها تحديدا حصريا مقتضى إيجابيا حيث أن الأجير بمجرد التحاقه بالمقاولة تكون لديه معرفة بالأفعال المعتبرة أخطاء جسيمة وبذلك يكون قد تجاوز ولو نسبيا المفهوم الفضفاض والمبهم الذي حدده مشرع مدونة الشغل لحالات الخطأ الجسيم.
إن صعوبة تدبير مفهوم الخطإ الجسيم توجب حسب بعض الفقه ترك أمر تقديره لقضاة الموضوع دون أن يكونوا ملزمين بالأخذ بعين الاعتبار ما قد يتفق عليه الطرفان بخصوص تحديد الأفعال التي تعتبر أخطاء جسيمة تستلزم الفصل بمقتضى نظام داخلي أو عقد شغل أو اتفاقية جماعية[16].
المطلب الثاني: مسطرة توقيع العقوبة التأديبية.
أورد المشرع مجموعة من القيود على سلطة المشغل التأديبية بهدف حماية الأجير من تعسف رب العمل في ممارسة هذه السلطة، وتتمثل هذه القيود في مجموعة من الإجراءات والشكليات والتي تتجلى في سلوك مسطرة الإستماع وتسليم مقرر الفصل إذا كانت العقوبة هي الفصل من العمل.
الفقرة الأولى: مسطرة الاستماع للأجير
تعد مسطرة الاستماع من الضمانات القانونية التي سخرها المشرع المغربي في سبيل حماية الأجير في مواجهة السلطة التأديبية لرب العمل وتعتبر هذه المسطرة من مستجدات مدونة الشغل التي نصت عليها في المادة 62[17] وهي مسطرة قبلية يتم إجراؤها من لدن المشغل أو من ينوب عنه مع الأجير الذي ارتكب الخطأ قبل توقيع إحدى العقوبات التأديبية المحددة قانونا أو التراجع عنها.
وإذا كانت المادة 62 تفيد بأن مسطرة الإستماع هي مسطرة واجبة التطبيق قبل كل فصل تأديبيي حيث نصت على أنه ” يجب قبل فصل الأجير أن تتاح له فرص الدفاع عن نفسه بالإستماع اليه من طرف المشغل …”، فإن هذه المسطرة تطبق أيضا في حالة ما إذا أراد المشغل توقيع بعض العقوبات الأخرى المنصوص عليها في المادة 37 والمحددة في الفقرتين 3 و4 منها وهي:
- التوبيخ الثاني أو التوقيف عن الشغل مدة لا تتعدى ثمانية أيام.
- التوبيخ الثالث أو النقل إلى مصلحة أو مؤسسة أخرى عند الإقتضاء مع مراعاة سكنى الأجير.
وطبقا للمادة 62 من مدونة الشغل فإن مسطرة الإستماع تتضمن مجموعة من المراحل يتعين اتباعها قبل توقيع العقوبة التأديبية في حق الأجير وذلك بالاستماع له من قبل المشغل أو من ينوب عنه داخل أجل ثمانية أيام من تاريخ تبين الخطأ وبحضور مندوب الأجراء أو ممثل نقابي بالمقاولة من اختيار الأجير مع تحرير محضر عن الجلسة وتسليم نسخة منه إلى الأجير، واللجوء لمفتش الشغل في حال رفض أحد الطرفين إتمام أو إجراء مسطرة الإستماع.
وتعتري مسطرة الإستماع التي تعتبر أهم المساطر الحمائية للأجراء ضد السلطة التأديبية للمشغل مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بتطبيق المادة 62 السالفة الذكر حيث أنها لم تبين ضرورة استدعاء الأجير لجلسة الإستماع وكيفية هذا الإستدعاء وشكله ومضمونه، بالإضافة لعدم النص على الحالة التي لا يوجد فيها مندوب الأجراء أو ممثل نقابي بالمقاولة، وعدم تحديد مضمون محضر الإستماع بعد إجراء مسطرة الاستماع بالإضافة إلى عدم تحديد الفقرة الأخيرة للطرف الذي يتعين عليه اللجوء الي مفتش الشغل ودور هذا الأخير في هذه الحالة. أكثر من ذلك فإن مدونة الشغل لم ترتب أي جزاء على عدم احترام مقتضيات المادة 62.
ولتجاوز هذه الشكليات عمل الاجتهاد القضائي على تحديد وبيان كيفية استدعاء الأجير لجلسة الإستماع وتوضيح الحالات التي يمكن فيها تمديد الأجل القانوني لإجراء مسطرة الإستماع وإمكانية تأجيل المسطرة وحدد الأشخاص الذين يمكنهم حضور جلسة الاستماع، وكذا تحديد مضمون محضر هذه الجلسة ومكان إجرائها وضرورة اللجوء إلى مفتش الشغل من طرف المشغل في حالة رفض الأجير إجراء أو إتمام المسطرة، و انتهاء بتحديد الدور المنوط بمفتش الشغل في حالة اللجوء إليه على ضوء الفقرة الأخيرة من المادة 62.
أما بخصوص الأنظمة الداخلية للمقاولات فإن مقتضياتها جاءت متطابقة مع مقتضيات المادة 62 من مدونة الشغل سواء بالإحالة عليها أو نسخ محتواها [18]. وعموما فإن تضمين واحترام مقتضيات هذه المادة من قبل المشغلين والتزامهم بها يعد مكسبا مهما وحقا من الحقوق الأساسية للأجير وهو حقه في الدفاع عن نفسه.
الفقرة الثانية: مسطرة مقرر الفصل التأديبي بسبب ارتكاب خطأ جسيم
بعد سلوك مسطرة الإستماع وثبوت ارتكاب الأجير للخطأ الجسيم يتم اللجوء إلى مرحلة ثانية وهي تسليم مقرر الفصل وهو عبارة عن محرر كتابي يكون على شكل رسالة أو مقرر يسلمه المشغل للأجير يبين له فيه الأسباب التي أدت إلى فصله من العمل، ويعتبر الوسيلة التي يعلم بموجبها الأجير بفصله من العمل في مقصود المشرع.
و يجب أن يتم تسليم هذا المقرر يدا بيد مقابل وصل أو بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل داخل أجل 48 ساعة من تاريخ اتخاذ مقرر الفصل عن الشغل وإلا اعتبر تعسفيا[19]، كما يجب توجيه نسخة منه إلى العون المكلف بالتفتيش كما جاء في الفقرة الأولى من المادة 64 من مدونة الشغل؛ وفي ظل إشكالية مدى القوة الإلزامية لهذا الإجراء نجد أن محكمة النقض توكد على إلزاميته وإلا اعتبر عدم سلوكه خرقا قانونيا لمسطرة التأديب حيث جاء في إحدى قرارتها[20]، أنه” … وبعد اتخاذ مقرر الفصل من العمل يتعين تسليمه للأجير داخل 48 ساعة إما بواسطة بريد مضمون أو يدا بيد مقابل وصل، مع توجيه نسخة منه إلى العون المكلف بالشغل..” ويجب أن يتضمن مقرر الفصل طبقا للفقرة الأخيرة من المادة 64 من مدونة الشغل الأسباب المبررة لاتخاذه وتاريخ الإستماع للأجير، مرفقا بالمحضر المشار إليه في المادة 62 وأجل سقوط الحق في رفع دعوى الفصل[21] .
والملاحظ أن مدونة الشغل قد عملت بخصوص فعالية مسطرة الفصل التأديبي وحدود الجزاء المقرر على مخالفتها على شرعنة ما ساد في العمل القضائي في السنين الأخيرة من اعتبار رسالة الفصل مجرد وسيلة إثبات وليست شرط صحة[22].
وتجدر الإشارة إلا أن ارتكاب الخطأ الجسيم من طرف الأجير إذا كان يمنح المشغل فرصة التخلص منه فورا دون مراعاة لأجل الإخطار و التعويض عن الفصل، فإن اقتراف هذا الخطأ لا يعفي المشغل نفسه من الإلتزام بالإخطار في حد ذاته أي بتوجيه مقرر الفصل المتضمن للسبب أو الأسباب المبررة للفصل وتاريخ الاستماع إليه مع الإشارة إلى أجل رفع دعوى الفصل أمام المحكمة المختصة حيث أكد ذلك المجلس الأعلى سابقا في إحدى قراراته بقوله “…إن طرد أي عامل يوجب اتباع المسطرة أعلاه، ولو كان ارتكاب خطأ خطير لأن الفقرة الرابعة من الفصل السادس من النظام النموذجي المتعلق بعلاقة المأجورين و أرباب العمل تعفي المشغل في حالة ارتكاب الأجير خطأ جسيما من أجل سابق الإعلام لا من الإعلام”[23] .
وبالرجوع للأنظمة الداخلية للمقاولات وبخصوص مسطرة الفصل للخطأ الجسيم نجدها قد نصت على مقتضيات مدونة الشغل في هذا الشأن وذلك إما بشكل حرفي أوالإحالة عليها[24] دون ذكر مقتضياتها أو التغاضي عن ذكرها رغم إلزامية هذه المسطرة، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن دور هذه الأنظمة و التي من المفروض ان توفر حماية أكبر للأجراء مما نصت عليه مدونة الشغل.
المبحث الثاني: الرقابة القضائية على السلطة التأديبية للمشغل
إذا كان المشرع المغربي قد نظم أنواع العقوبات وبين الإجراءات اللازم اتباعها لتوقيع الجزاءات المنصوص عليها قانونا على الأجير المرتكب للخطأ التأديبي، فإن هذه الترسانة القانونية تضل غير كافية بل يجب تأطيرها برقابة قضائية تضمن حسن تطبيق هذه الترسانة من القوانين وهذا ما أكدته المادة 42 من مدونة الشغل في فقرتها الأخيرة “تخضع لمراقبة السلطة القضائية القرارات التي يتخذها المشغل في إطار ممارسته سلطته التأديبية “[25]، وإذا كان هذا المقتضى لم يحدد نطاق وحدود الرقابة القضائية فإننا نجدها تمتد لتشمل مراقبة مدى احترام المشغل لقواعد قانون الشغل الخاصة بالتأديب والواردة بصفة آمرة والتأكد من وجود الخطأ التأديبي ومدى جسامته. بالإضافة إلى مدى تناسب العقوبة التأديبية والخطأ المرتكب من طرف الأجير. وفيما يلي سنتناول رقابة القضاء على السلطة التأديبية للمشغل من خلال مطلبين على الشكل التالي:
المطلب الأول: الرقابة على إثبات الخطإ وجسامته
المطلب الثاني: الرقابة على ملاءمة الجزاء التأديبي للخطإ
المطلب الأول: الرقابة على إثبات الخطإ وجسامته
سنتطرق في هذا المطلب لرقابة محكمة النقض على إثبات وجود الخطإ ثم ننتقل للحديث عن تقدير جسامة هذه الأخطاء.
الفقرة الأولى: رقابة محكمة النقض على الإثبات المادي للخطأ
تعتبر القاعدة العامة في مجال الإثبات أن من ادعى شيئا عليه إثباته[26]، وهو ما جعل الأجير يتحمل عبء إثبات وجود تعسف في العقوبة وعدم وجود خطأ جسيم يبرر الفصل حيث يكتفي المشغل على ذكر سبب اتخاذ قرار الفصل دون أن يبذل مجهودا في إثباته، ونظرا لهذه الصعوبات التي تعترض الأجير و التوجه الحمائي للقانون الإجتماعي فقد تدخل القضاء المغربي أولا لتكريس قاعدة قلب عبء الإثبات على المشغل ثم أكد ذلك ثانيا المشرع المغربي من خلال الفقرة الثانية من المادة 63 من مدونة الشغل حيث نصت على أنه” يقع على عاتق المشغل عبء إثبات وجود مبرر مقبول للفصل كما يقع عليه عبء الإثبات عندما يدعي مغادرة الأجير لشغله”.
ويعتبر التوجه القضائي في إثبات وجود الخطأ أبرز مظاهر الحماية القضائية للأجير وقيدا مهما على سلطة المشغل التأديبية حيث أن هذا الأخير هو الملزم بإثبات وجود الخطأ الموجب للعقوبة التأديبية.
و قد كرست محكمة النقض هذا التوجه في مجموعة من قراراتها حيث جاء في إحداها ” ثبت من خلال محتويات الملف و تصريحات الأطراف من خلال البحث الإبتدائي والإستثنائي بأن المشغلة لم تدل بما يثبت ارتكاب الأجير للخطأ المنسوب إليه… مما يترتب عنه اعتبار الفسخ تعسفيا يستحق عنه الأجير التعويض… ” [27].
وفي نفس الإتجاه أكد قرار آخر على أنه ” اتهام المشغل لأحد أجرائه بالسرقة أثناء العمل دون إثبات ذلك يعد خطأ جسيما في حق الأجير طبقا لما تنص عليه المادة 40 من مدونة الشغل وترك الأجير العمل بسبب ذلك يعتبر طردا تعسفيا وليس مغادرة تلقائية يستحق معه الأجير التعويض عن انهاء عقد العمل”[28].
لهذا فإن تطبيق العقوبة على الأجير بدون سبب جدي وحقيقي خاصة إذا كانت العقوبة هي الفصل وعدم قدرة المشغل على إثبات الأخطاء المنسوبة للأجير يجعل العقوبة المتخذة ذات طابع تعسفي وغير مبرر.
الفقرة الثانية: رقابة محكمة النقض على جسامة الخطأ التأديبي
إن حق المشغل في نطاق سلطته التنظيمية والتأديبية للمقاولة في وصف وإعداد لائحة بأخطاء جسيمة وأخرى يسيرة تخضع في كل الأحوال لرقابة القضاء الذي لا يتقيد بالوصف الذي أعطاه المشغل للخطأ المرتكب حيث تبقى للقاضي سلطة إعادة تكييفه لتحديد مدى جسامته، غير أن الرقابة التي يمارسها القضاء على سلطة المشغل في تقدير الخطأ الجسيم تختلف بحسب ما إذا كان هذا الخطأ منصوصا عليه قانونا أم لا.
أولا: الخطأ الجسيم المنصوص عليه قانونا
إن تحديد المشرع للأخطاء الجسيمة ولو على سبيل المثال في المادة 39 من مدونة الشغل لا يعني أن هذه الأخطاء لا تثير بدورها إشكالا من حيث التكييف كما في تبادل الضرب مثلا داخل المقاولة رغم كونه خطأ فادحا. إن عناصر الضرب والجرح المتبادل طبقا للقانون الجنائي قد تجعل من العسير على المشغل معرفة المعتدي من المعتدى عليه وعدم الإثبات من قبله قد يؤدي إلى اعتبار الفصل تعسفيا. ورغم ذلك فإن رقابة القاضي على سلطة المشغل التأديبية في تقديره للخطأ تكون محدودة وضيقة المجال كلما كان هذا الخطأ يندرج ضمن لائحة الأخطاء المنصوص عليها قانونا وهذا ما أكدته محكمة النقض في إحدى قراراتها بأنه ” عدم امتثال الأجير لتعليمات مشغله والمتعلقة بقواعد حفظ الصحة يعتبر خطأ جسيما يمكن أن يترتب عنه الفصل طبقا للمادة 293 من مدونة الشغل”[29].
و في قرار صادر في الملف الإجتماعي عدد 657 ” أن التلفظ بعبارات نابية داخل المعمل و في مواجهة أي كان يعد خطأ جسيما لما هو منصوص عليه في المادة 39 من مدونة الشغل وذلك لمخالفته لقواعد الأخلاق والآداب العامة والمحكمة لما نفت عن هذا الفعل وصف الخطأ الجسيم بعلة أن عبارة السب لم تستهدف أي شخص بذاته تكون قد عللت قرارها تعليلا فاسدا”[30] . كما أنه يتعين على الأجراء المحافظة على الأشياء التي تسلم إليهم لإنجاز الشغل طبقا للفصل 740 من قانون الالتزامات و العقود، وقد جاء في نفس السياق القرار 1948/10/23 في فصله السادس ( تقابله المادة 39 من مدونة الشغل) بتعرضه للخطإ الجسيم حيث يصنف مرتكب الخطأ الجسيم كل من ألحق ضررا بآلات العمل بفعل متعمد أو إهمال خطير.
ثانيا: الخطأ الجسيم غير المنصوص عليه قانونا
بخلاف حالات الأخطاء المنصوص عليها قانونا تكون للقضاء سلطة أوسع في تقدير مدى جسامة الأخطاء غير المنصوص عليها قانونا ويكون القاضي في هذه الحالة أمام صعوبة أكبر بالمقارنة مع الخطأ الجسيم المنصوص عليه قانونا مثل السرقة وتبادل الضرب…إلخ، إذ هو ملزم بتحليل المبرر على ضوء القواعد التي تجعل الخطأ الجسيم هو الخطأ الذي يوثر في استقرار المقاولة[31].
وإذا كان تقدير جسامة الأخطاء يخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع فإن هذا الأخير ملزم بتبرير قراراته وتعليلها وذلك لتجنب نقضها أمام محكمة النقض التي تبقى بدورها مطالبة بوضع معايير واضحة لعناصر الخطأ.
فقاضي الموضوع في تكييفه للخطإ نحو الجسامة أو عدمها يكون أكثر حرجا في الأخطاء التي يدعيها المشغل من منطلق تنظيم مقاولته بكونه أولى في تقدير الكفاءة المهنية للأجير أو احتياجه لتشغيله في مصلحة أخرى أو مؤسسة أخرى لأنه هو الأدرى بمصلحة مقاولته. فإعادة تنظيم المقاولة والسعي إلى تطويرها قد يصطدم بعقود شغل يتشبث الأجراء بمقتضياتها وذلك بعلة أن بنودها جوهرية لا يمكن أن يعدلها المشغل بإرادته المنفردة إلا بموافقة الطرفين، كما أنه ليس من السهولة البحث عن حسن نية المشغل من عدمه.
كما أن محكمة النقض مطالبة بوضع معايير واضحة للخطأ الجسيم وذلك حتى يجد قضاة الموضوع نسقا اجتهاديا يستندون عليه ويتم من خلال تعليل وجود الخطأ الجسيم غير المنصوص عليه قانونا تعليلا كافيا.
المطلب الثاني: الرقابة على ملاءمة الجزاء التأديبي
ذهب المشرع المغربي الى وضع مجموعة من القواعد والمعايير للحد من السلطة التأديبية للمشغل تجاه أجرائه وجعل تحديد الجزاءات التأديبية وملائمتها للأخطاء المرتكبة تحت الرقابة القضائية.
الفقرة الأولى: الرقابة القضائية على ملاءمة الجزاء التأديبي للعقوبة
بالرجوع الى ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 42 من مدونة الشغل نجدها جعلت قرارات المشغل في إطار ممارسته للسلطة التأديبية خاضعة للرقابة القضائية فيما يرجع لمدى ملاءمة العقوبة التأديبية للخطأ وهذا ما دأبت عليه محاكم الموضوع. كما أن محكمة النقض تعترف لقضاء الموضوع بسلطة الرقابة على التناسب بين الجزاء المتخذ في حق الأجير والخطأ المرتكب، حيث قضت الغرفة الإجتماعية لمحكمة النقض في أحد قراراتها بما يلي:” وبالتالي فإن المحكمة لما قضت باعتبار أن الأمر لا يتعلق بخطأ جسيم يستوجب عليها اتخاذ أي إجراء تأديبي آخر بدل الطرد نهائيا فإن ذلك يدخل في إطار سلطتها التقديرية التي لا رقابة عليها في ذلك من طرف محكمة النقض إلا من حيث التعليل وهو ثابت في النازلة، فالقرار جاء على هذا الأساس معللا تعليلا كافيا …”[32].
وفي نفس إطار ملائمة العقوبة التأديبية للخطأ المرتكب جاء في قرار لمحكمة الإستنناف بالدار البيضاء أن ” المستأنف عليه في هذه النازلة تغيب لمدة ثلاثة أيام فقط، وكان على المشغل أن يقتصر على إحدى العقوبات الخفيفة التي لا ترقى إلى الطرد”[33].
كما أقرت محكمة النقض في أحد قراراتها: ” والمحكمة لما عللت كذلك قرار ها أن ما قام به المستأنف لا يرقى إلى درجة الخطأ الجسيم الذي يستوجب الفصل خصوصا وأن ممثلة الشركة أفادت خلال جلسة البحث أن الأجير لم يسبق له أن تنازع مع الإدارة وبالتالي كان على المشغلة أن توجه له أي إجراء تأديبي آخر قبل اتخاذ قرار الفصل، وبذلك تكون المحكمة قدرت لما لها من سلطة تقديرية الخطأ المنسوب للأجير، وما قضت به المحكمة مرتكز على أساس …”[34] ، بل إن القضاء ذهب أبعد من ذلك وذلك بإلغاء العقوبة التأديبية إذا ما ثبت لديه أن الأجير ارتكب خطأ موجبا لها حيث ذهب حكم قضائي إلى انه “مادامت المدعية قد حصلت على الإذن بالتغيب لزيارة الطبيب…فإن ثقبها لبطاقة العمل أثناء خروجها وعودتها من تلك الزيارة لا يعد في نظر المحكمة خطأ مرتكبا من طرفها، الأمر الذي يتعين معه التصريح بأن الإجراء التأديبي الصادر في حق المدعية وهى عقوبة التوقف عن العمل لمدة ثلاثة أيام مع الحرمان من الأجرة عن نفس المدة و التحذير باتخاذ قرار آخر لا يرتكز على أساس و يتعين التصريح بإلغائه”[35] .
إذن فالقضاء له كامل المشروعية في مراقبة مدى ملاءمة الجزاء التأديبي للخطأ المرتكب كما أن المشغل ملزم باحترام مبدأ التدرج في العقوبة المنصوص عليه في المادة 38 من مدونة الشغل وعدم تطبيق الجزاءات الغير المنصوص عليها قانونا، وقاضي الموضوع يراقب بصفة ممنهجة السلطة التأديبية للمشغل وذلك في كل مرة تتخذ فيها عقوبة تأديبية بهدف معرفة مدى ملاءمتها أو تناسبها مع الخطأ المرتكب.
إن القضاء غالبا ما يسعى في إطار رقابته على ملائمة الجزاء للعقوبة إلى تخفيف عقوبة الفصل وذلك عندما يعتبر الخطأ المنسوب للأجير لا يمكن اعتباره خطأ جسيما ويستحق عليه الأجير فقط عقوبة مخففة طبقا للمادة 37 من مدونة الشغل. وقد ذهب بعض الفقه[36] في هذا الإطار إلى أن تناسب العقوبة مع المخالفة المرتكبة يعتبر من المبادئ المسلم بها في ملاءمة العقوبة التأديبية للخطأ المرتكب كما أنه لا يعقل أن يعاقب الأجير المقترف لخطأ لا يرقى إلى درجة الجسامة بعقوبة الفصل مثلا دون السماح بتدخل القضاء في المسألة؛ ولتحقيق العدالة المرجوة وجب على القاضي العمل على مراقبة العقوبة التأديبية وما إذا كانت تتناسب مع الفعل المرتكب أم لا.
الفقرة الثانية: حدود سلطة المشغل التأديبية
يعتبر النظام الداخلي الميثاق الذي يضمن من خلاله المشغل في إطار سلطته التأديبية الجزءات والأخطاء التأديبية التي تتعارض مع نظام المقاولة، كما أن المشرع المغربي في سعيه للحد من تعسف المشغل في هذه السلطة فإنه حدد العقوبات التأديبية الممكن اتخاذها في حق الأجير المرتكب للخطأ غير الجسيم واشترط مبدأ التدرج في تطبيقها”[37].
هكذا فالمشغل في هذه الحالات يكون ملزما بتطبيق ماهو منصوص عليه قانونا وفي حالة قيامه بتطبيق جزاءات غير محددة أو عدم تطبيق مبدأ التدرج يحق للقضاء عند عرض النزاع عليه إلغاء هذا الجزاء مادام في غير مصلحة الأجير ذلك أن المادة 11من مدونة الشغل تجيز تطبيق مقتضيات النظام الداخلي بشرط أن تكون في مصلحة الأجير وأقل شدة مما هو منصوص عليه قانونيا وهذا ما تتجاهله بعض الأنظمة الداخلية للمقاولات كالنظام الداخلي لشركة (teuchos Maroc) الذي تطرق إلى عقوبة التدحرج من الرتبة، تعيين في وظيفة أو منصب مختلف أو أقل..”[38] حيث أن هذه العقوبة لا يمكن اعتبارها في أي حال أكثر فائدة للأجير مقارنة بما هو منصوص عليه قانونا وهو ما يطرح التساؤل عن دور السلطة الحكومية المكلفة بالشغل (الرقابة القبلية) في المصادقة على الأنظمة الداخلية المخالفة أو التي تضم مقتضيات أشد خاصة في مجال التأديب مما هو منصوص عليه في مدونة الشغل.
وإذا كان البعض يعتبر أن لائحة العقوبات الواردة في المادة 37 من مدونة الشغل استرشادية فقط ويمكن لرئيس المقاولة أن يضع لائحة للعقوبات التي يرى أنها مناسبة[39] يسمح له من خلالها مواجهة المخالفات المستجدة والتي لا يمكن توقعها مستقبلا وهو ما أكدته محكمة النقض في أحد قراراتها الذي جاء فيه ” للمشغل صلاحية اختيار العقوبة المناسبة للخطأ المرتكب وهو غير ملزم بإتباع التدرج في العقوبات فهو صاحب السلطة التأديبية التي لا يحد منها سوى أن تكون العقوبة ملائمة للخطأ المرتكب “[40]، كما أن غاية المشرع من تعداد العقوبات في المادة 37 هو وضع حدود لسلطة المشغل التأديبية ومراقبة حسن تطبيقها ومدى ملائمتها للخطأ المرتكب وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإبتدائية بالرباط عندما نصت على أن ” السلطة التأديبية الممنوحة لرب العمل تبقى خاضعة للمراقبة القضائية قصد معرفة مدى ملائمة العقوبة للخطأ في حالة ثبوته”. [41]
خاتمة
ان الصلاحيات الممنوحة بموجب السلطة التأديبية للمشغل غير مطلقة بل هناك قواعد تكفل للأجير عدم تعسف المشغل من خلال إجراءات ومسطرة التأديب و التي وردت على نحو آمر من أجل خلق نوع من التوازن بين علاقة المشغل و الأجير المعاقب تأديبيا، وكذا رقابة قضائية لمدى مشروعية الجزاء وملائمته للخطأ المرتكب وهو ما يجعل القضاء يلعب دورا فاعلا في تحقيق العدالة الاجتماعية؛ كما أن الأنظمة الداخلية للمقاولات اعتمدت إعادة صياغه قواعد قانون الشغل الخاصة بالتأديب أو الإحالة عليها في الوقت الذي يجب ان تتضمن مقتضيات أكثر فائدة للأجير وذلك لتحقيق الفائدة القانونية المرجوة منها.
وعموما فإننا نعتقد أن التنظيم التشريعي والرقابة القضائية للسلطة التأديبية للمشغل يجب أن يحدثا توازنا بين البعد الاجتماعي لصالح الأجير باعتباره الطرف الضعيف في علاقة الشغل ومصلحة المقاولة باعتبارها عنصر استثمار ووسيلة للإنتاج وخلق الثروة وفرص الشغل.
الإحالات
[1] محمد الكشبور، “تكييف الخطأ الجسيم والطابع الحمائي للقانون الاجتماعي”، المجلة المغربية للقانون، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1988، العدد 16، ص21 .
[2] محمد حلمي مراد،”الوجيز في قانون العمل والتأمينات الاجتماعية”، مطبعة الأهرام التجارية، القاهرة، 1973، الصفحة 201.
[3] عبد اللطيف خالفي، “الوسيط في مدونة الشغل”، الجزء الأول، علاقات الشغل الفردية، المطبعة و الوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى 2004 ، الصفحة 422.
[4] أيمن عبد العزيز مصطفى، “السلطة التأديبية لصاحب العمل”، دار الكتب القانونية، مصر 2009، الصفحة 99.
[5] Delperee ( françis ) : L’élaboration de droit disciplinaire de la fonction publique, thèse, Paris, 1969, p89
[6] علي عيسى أحمد،” المسؤولية التأديبية للأطباء، منشورات الحلبي، لبنان، الطبعة 2011، الصفحة 444.
[7]عبد الصمد الركيك، بحث بعنوان :” تناسب العقوبة مع الأخطاء المهنية في النظام التأديبي بالوظيفة العمومية”. الموقع الإلكتروني . amazighes.blogspot.com 10/12/2014.
[8] حسن هروش،” الرقابة القضائية على السلطة التأديبية للمشغل”، مجلة المحاكم المغربية، عدد 109، الصفحة 42.
[9] المادة 38 من مدونة الشغل.
[10] المادة 39 من مونة الشغل.
[11] المادة 40 من مدونة الشغل.
[12] قرار استئنافية البيضاء رقم 302 بتاريخ 1983/3/7، في الملف رقم 81/673.
[13] سلك المشرع المصري منهجا مخالفا في المادة 61 من قانون العمل رقم 137 لسنة 1981 والتي حددت تسع حالات للخطأ الجسيم المرتكبة من طرف الأجير و التي تبرر فصله دون سابق إعلان ودون تعويض. وهو نفس الإتجاه الذي سلكه المشرع اللبناني من خلال المادة 74 من قانون العمل التي حصرت حالات الخطأ الجسيم.
[14] اعتبرت المادة 293 من مدونة الشغل عدم امتثال الأجير للتعليمات الخصوصية المتعلقة بقواعد السلامة وحفظ الصحة حالة أدائه لشغل خطير بعد أن سبق إطلاعه بكيفية قانونية على تلك التعليمات خطأ جسيما.
[15] نصت المادة 10 من النظام الداخلي لشركة” دلفي” على الأخطاء الجسيمة التي تعرض صاحبها للفصل ومن ضمن الحالات نجد:” استعمال الهاتف النقال داخل ساعات العمل – إدخال أجانب للشركة – الخروج الغير المرخص أو مغادرة المنصب دون سبب…”.
[16] دنيا مباركة، ” القانون الاجتماعي المغربي، دراسة مقارنة في ظل التشريع الحالي ومدونة الشغل المرتقبة مشروع 2000″، دار الجسور وجدة، طبعة 2002/2003، الصفحة 134.
[17] تعتبر المادة 62 من مدونة الشغل تنزيلا من المشرع المغربي لأحكام الاتفاقية الدولية رقم 158 لسنة 1982 المتعلقة ب ” انتهاء علاقة الاستخدام بمبادرة من صاحب العمل”. وقد تم التوقيع على محضر إيداع الوثائق المتعلقة بالمصادقة على هذه الاتفاقية من طرف المغرب بمنظمة العمل الدولية بتاريخ 7 أكتوبر 1993 وقد صدر الظهير الشريف رقم 1.98.167 بتاريخ فاتح رمضان 1432 ( 2 أغسطس 2001). القاضي بنشر هذه الاتفاقية بالجريدة الرسمية عدد 6062 بتاريخ 5 يونيو 2012.
[18] نص النظام الداخلي لشركة ) Acima) في المادة 32 على أنه ” قبل اتخاذ أي عقوبة تتعلق بالتوبيخ الثاني أو التوبيخ الثالث أو التسريح تمنح الشركة للأجير طبقا للتشريع الجاري به العمل حق الدفاع عن النفس و الاستماع من طرف الإدارة أو من يمثلها بحضور ممثل الأجراء و الممثل النقابي داخل الشركة الذي يختاره هو”.
[19] المادة 63 من مدونة الشغل
[20] قرار عدد 1/170 بتاريخ 06/03/2018 في الملف 2017/1/5/3396، منشوربكتاب محمد بلحاج الفحصي :” الوافي في العمل القضائي المغربي”، الكتاب الثالث، القضايا الاجتماعية الطبعة الأولى 2019، مطبعة النجاح الجديدة، الصفحة 7.
[21] هذا الأجل حددته المادة 65 من مدونة الشغل في 90 يوما.
[22] محمد الشرفاني،” علاقات الشغل في تشريع الشغل ومدونة الشغل”، دار القلم، الرباط، 2003 يناير، الصفحة 173.
[23] قرار الغرفة الاجتماعية بالجلس الأعلى بتاريخ 27 أكتوبر 1986 منشور بمجلة المحاماة عدد 24 الصفحة 51.
[24] نص النظام الداخلي لشركة ( دلفي ) في المادة 14 المعنونة ب ” حق الأجراء في حالة التسريح ” في الفقرة 2 ” يسلم رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل داخل أجل 24 ساعة عند اتخاذ أي إجراء تأديبي أو طرد الأجير ابتداء من تاريخ اتخاذ الإجراء مع وضع نسخة من قرار الطرد لدى العون المكلف بتفتيش الشغل”، كما نصت الفقرة 3 على أنه” يمكن للأجير داخل أجل 90 يوما من تاريخ التوصل بالقرار اللجوء إلى المحكمة المختصة تحت طائلة سقوط الحق (الأجل).
[25] ومن البديهي أن الرقابة القضائية التي تباشرها المحاكم المغربية في هذا الصدد لا يمكن تعطيلها بأي وجه من الوجوه، لأنها في الحقيقة حق من الحقوق العامة الواجبة التطبيق ولو بدون نص قانوني ينظمها، وحتى مع وجود اتفاق صريح يمنعها أو يقيدها.
- محممد الكشبور، ” تكييف الخطأ الجسيم و الطابع الحمائي للقانون الاجتماعي” المجلة المغربية للقانون و المقاولة عدد 16 سنة 1988.
[26] الفصل 399 من قانون الالتزامات والعقود.
[27] قرار الغرفة الاجتماعية بالمجلس الأعلى عدد 71 بتاريخ 2007 في الملف الاجتماعي عدد 974.
[28] قرار الغرفة الاجتماعية عدد 928 الصادر بتاريخ 20 يونيو 2013 في الملف الاجتماعي عدد 1398/2012
[29] القرار عدد 196 الصادر بتاريخ 13 فبراير 2014 في الملف اجتماعي عدد 2013/15/07 منشور بنشرة قرارات محكمة النقض العدد 31الصفحة 15
[30] القرار 657 الصادر بتاريخ 4 يوليوز 2017 في الملف اجتماعي عدد 1422-5-1-2016 منشور بنشرة قرارت محكمة النقض العدد 31 الصفحة 42.
[31] محمد سعيد بناني، ” قانون الشغل بالمغرب، علاقات الشغل الفردية”، طبعة 1989، الصفحة 182.
[32] قرار محكمة النقض عدد 925 صادر بتاريخ 22/09/2004 في الملف اجتماعي عدد 366/2004.
[33] قرار الغرفة الاجتماعية بمحكمة الإستئناف بالبيضاء رقم 257 بتاريخ 28/03/1978 في الملف اجتماعي عدد 839/80.
[34] قرار محكمة النقض عدد 1975 الصادر بتاريخ 06 شتنبر 2016 في الملف اجتماعي عدد 1307/1/2015 ، وارد بنشرة قرارات محكمة النقض عدد 31 الصفحة 15
[35] حكم المحكمة الابتدائية بالرباط رقم 23 بتاريخ 23/1/1985، منشور بمجلة الملحق القضائي لسنة 1985.
[36] عبد القادر بوبكر، ” حدود السلطة التأديبية للمشغل في ضوء مدونة الشغل”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، وحدة التكوين و البحث في قانون العقود و العقار، جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2012/2013، الصفحة 163.
[37] المادة 38 من مدونة الشغل
[38] الفصل 3 من النظام الداخلي لشركة (teuchos Maroc)
[39] ميمون الوكيلي” المقاولة بين حرية التدبير و مبدأ استقرار الشغل ( دراسة مقارنة )”، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، جامعة الحسن الثاني، عين الشق الدارالبيضاء، السنة الجامعية 2006/2007.
[40] قرار عدد 114 الصادر بتاريخ 19 يناير 2016 في الملف اجتماعي عدد 1008/5/1/2014 منشور في نشرة قرارات محكمة النقض السلسلة 6 العدد 31 الصفحة 13
[41] حكم رقم 23 بتاريخ 10 يناير 1985 ، منشور بالمجلة المغربية للقانون عدد 5، الصفحة 338.