نص مشروع قانون المسطرة المدنية في المادة 26 المعدلة والمتممة للفصلين 16و17 من ق.م.م الساري المفعول، على أنه: “تثير محكمة الدرجة الأولى، أو القسم المتخصص بالمحكمة الابتدائية، عدم الاختصاص النوعي، تلقائيا.”
حيث يستفاد من هذه الفقرة أن المشرع كرس المبادئ العامة المتعلقة بالاختصاص النوعي، بحيث يعتبر هذا الأخير من النظام العام. الأمر المستفاد من إمكانية إثارة الدفع تلقائيا من قبل محكمة الدرجة الأولى. كما يمكن للأطراف الدفع بعدم الاختصاص النوعي في جميع مراحل الدعوى أمام محاكم الدرجة الأولى… كما هو منصوص عليه في الفقرة الثانية من نفس الفصل.
وكما هو معلوم فإن من الاثار القانونية المترتبة على اعتبار قواعد الاختصاص النوعي من النظام العام، هو إمكانية الدفع بعدم الاختصاص النوعي في جميع مراحل الدعوى سواء قبل كل دفع في الجوهر أو بعده.
غير أن مشروع ق م م نص في الفقرة الخامسة من المادة 26 على أنه: ” لا يمكن إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي لأول مرة أمام محاكم الثانية الا بالنسبة للأحكام الغيابية.” وأضاف في الفقرة السادسة من نفس المادة أنه “لا يمكن إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي لأول مرة أمام محكمة النقض”.
ويستفاد مما سبق أن مشرع مسودة المشروع غير موقفه من المبادئ العامة المتعلقة بالدفع بعدم الاختصاص النوعي، ومن ضمنها أن هذا الدفع يمكن إثارته في أي مرحلة من مراحل الدعوى، ولو لأول مرة أمام محكمة النقض ما دامت تلك المبادئ هي من النظام العام.
وزيادة على ما ذكر فقد ألزم المشرع المحكمة بالبت بحكم مستقل في الدفع بعدم الاختصاص النوعي خلافا لما هو منصوص عليه في مقتضيات ق م م الساري المفعول والذي يعطي للمحكمة الخيار بين أن تتولى البت في الدفع بعدم الاختصاص بحكم مستقل أو تضمه إلى الجوهر.
ومن وجهة نظرنا فإن ما ذهب إليه واضع المشروع يساير المنطق القانوني المنظم للدفع بعدم الاختصاص النوعي في النصوص المحدثة للمحاكم الإدارية والمحاكم التجارية عندما نص في الفقرة الثالثة المادة 26 من مسودة المشروع على أنه ” يجب على المحكمة أو القسم المتخصص بالمحكمة بالابتدائية البت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي داخل أجل ثمانية أيام من تاريخ إثارة الدفع بحكم مستقل لا يقبل أي طعن إلا مع الحكم الصادر في الجوهر في حالة رفع الدفع.”
غير أن ما يثير الإشكال في الفقرة المذكورة هو جعل الحكم البات في الدفع المتعلق بالاختصاص غير قابل للطعن إلا مع الحكم الصادر في الجوهر في حالة إثارة الدفع المذكور، الأمر الذي قد يفوت على مثير الدفع بعدم الاختصاص الصادر بشأنه حكم مستقل استئناف الحكم أمام الجهة المختصة التي تشكل درجة ثانية من درجات التقاضي وتضمن النجاعة والفعالية في تصريف القضايا والتي لا يمكن أن تحقق إلا بتخويل أطراف الدعوى الطعن والغاية التي تطابق تقيد المحكمة بالأجل للبت في الدفع بعدم الاختصاص؛ ولأن البت في الموضوع قد يحتاج وقت طويلا لتعتبر القضية جاهزة للحكم. كما أن الطعن في الحكم المستقل المتعلق بالدفع بعدم الاختصاص مع الحكم في الموضوع أمام محكمة الاستئناف قد تستجيب له محكمة الاستئناف وتعيد الأمور الى نقطة الصفر مما يعني هدر الجهد والزمن القضائي.
وزيادة على ذلك فإن مسودة المشروع أضافت في الفقرة الرابعة أنه “إذا قضت المحكمة أو القسم المتخصص بعدم الاختصاص النوعي أحليت القضية بقوة القانون على المحكمة المختصة داخل أجل ثمانية أيام ودون مصاريف. ويجب على الجهة القضائية المحال إليها القضية البت فيها”.
ويبدو من هذه الفقرة أن مسودة مشروع ق م م يسعى إلى تجاوز الإشكال في العمل القضائي المتعلق بإحالة القضية على محكمة ليست من نفس النوع حيث استقر العمل القضائي وخاصة الإداري على إرجاع الملف إلى المحكمة المصدرة للحكم بعدم الاختصاص النوعي وخاصة أنه لا يوجد سند قانوني يعطي الصلاحية للمحكمة الإدارية للبت في قضية أحليت إليها من جهة قضائية عادية بدعوى عدم الاختصاص النوعي.
كما أن هذه الفقرة هي تتمة للفقرة الثالثة التي تمنع الطعن في الحكم المستقل بعدم الاختصاص النوعي إلا مع الطعن بالاستئناف في الموضوع. والحال أن إحالة الملف إلى محكمة أخرى هو أمر متعلق بإحالة الملف عند البت في الدفع بعدم الاختصاص المكاني، وهي إحالة تتحقق بين محاكم من نفس النوع، وليس في حالة الاختصاص النوعي للمحاكم، الذي له سلطة الفصل في المنازعات بحسب نوعها أو طبيعتها، وفقا للمعيار النوعي الذي يستند على نوع النزاع. وذلك لا يتصور قيامه إلا بين جهتين قضائيتين مختلفتين كالمحكمة الإدارية والمحكمة التجارية أو بين إحدى هاتين المحكمتين والمحكمة الابتدائية ذات الولاية العامة.
والسؤال المطروح هنا هو هل الترسانة القانونية تعاني من أزمة نص قانوني ينظم الاختصاص النوعي للمحاكم، أم أن الأمر يتعلق بأزمة تطبيق؟؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى الأحكام المنظمة للاختصاص النوعي في القانون المحدث للمحاكم الإدارية، حيث نجد المشرع عمل على تنظيم الاختصاص النوعي في الأحكام المشتركة. وكما هو معلوم فإن تبويب النصوص القانونية يعد عملا فنيا ضروريا لفهم مقتضيات النصوص القانونية؛ ومدام أن المشرع نظم الاختصاص النوعي في نطاق الأحكام المشتركة فإن ذلك يعني أن تلك النصوص الواردة فيها تهم جميع المحاكم لأن المغرب يعتمد وحدة القضاء، وبالتالي فإن موقف مشرع القانون المحدث للمحاكم الإدارية كان حكيما في صياغة الفصلين 12 و 13 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية عندما تبنى صياغة فنية تعطي للنص استمراريته ومشتملا لما هو قائم وما سيأتي، بحيث في الفقرة الثانية من المادة 13 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية استعمل عبارة مرنة تشمل حتى ما يمكن إحداثه من بعد المحاكم الإدارية ” المحاكم التجارية”. بتنصيصه على أنه يمكن ” للأطراف أن يستأنفوا الحكم المتعلق بالاختصاص النوعي «أيا كانت الجهة القضائية الصادر عنها أمام محكمة النقض» الأمر الذي ينتبه له المشرع عند سنه للقانون المحدث للمحاكم التجارية وحاد عن إرادة المشرع الذي أراد وحدة الجهة الاستئنافية التي تنظر في مسألة الاختصاص.
ومدام المشرع نظم الاختصاص النوعي في الأحكام المشركة من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، فإنه أراد توحيد قواعد الاختصاص التي لم تكن تثير أي إشكال قبل إحداث المحاكم الإدارية خاصة وأن المقتضيات الواردة في الفصل 16 من ق م م تتعلق بالاختصاص المكاني لأن المحكمة الابتدائية هي المحكمة الوحيدة وذات الولاية العامة يمكن أن يثار أمامها عدم الاختصاص النوعي لأنها كانت وحدها مما يؤكد أن الفقرات الأربع الأولى تخص الاختصاص المكاني وليس النوعي الذي لم يظهر المنازعة فيه إلا بعد إحداث المحاكم الإدارية والتي نظمت أحكامه بشكل محكم وجعلت أحكامه تشمل ما قد يحدث بعدها.
وبالتالي فنتيجة السؤال هي أن الأمر يتعلق بأزمة تطبيق لا بأزمة نص بشكل كلي ما عدا ما يتعلق بالمادة 8 من القانون المحدث للمحاكم التجارية والتي يقتضي الأمر تعديلها لتوحيد الجهة الاستئنافية في الحكم بعدم الاختصاص النوعي تماشيا مع روح المادة 13 التي تجعل حق النظر في الحكم بعدم الاختصاص النوعي من اختصاص محكمة النقض أي كانت الجهة القضائية الصادر عنها.