المسؤولية الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ
وقفة تاريخية في قضية محمد العطاوي سنة 1998
تعود أطوار هذه المحطة الفاصلة في مسار العدالة المغربية إلى تاريخ 3 أبريل 1998 في الملف الذي اشتهر وقتئذ بقضية “محمد العطاوي” ضد رئيس جماعة تونفيت التابعة لإقليم ميدلت، حينما أصدرت المحكمة الإدارية بمكناس حكما اعتبره المهتمون بالشأن الحقوقي أول مبادرة شجاعة في الاجتهاد القضائي المغربي، حيث اختارت المحكمة الإدارية الحكم بالغرامة التهديدية في مواجهة المسؤول الإداري عن تنفيذ الحكم القضائي بصفة شخصية واقتطاعها من ماله الخاص. تبعا لذلك، يمكن القول إن المحكمة الإدارية بمكناس قد أسست حكما جريئا، ومرجعا قضائيا تاريخيا لايزال إلى يومنا هذا يستشهد به في الأبحاث والدراسات الأكاديمية. وتتلخص هذه الواقعة، في أن رئيس المجلس الجماعي بتونفيت امتنع عن تنفيذ حكم يقضي بإلغاء قرار العزل الذي أصدره ضد السيد محمد العطاوي (بصفته موظف تقني) وإرجاعه إلى وظيفته وتسوية وضعيته الإدارية.
وفي هذا السياق لابد أن نشير أن للدوافع الشخصية تأثير كبير في امتناع المسؤول الإداري عن التنفيذ، كأن يكون خصما للمحكوم لفائدته، أو أنه لا يتعاطف معه، فيقوم بخلق صعوبات قانونية أو مادية بغية الحيلولة دون استفادته من الحكم وتنفيذه على الوجه السليم، وهذا ما دفع الفقيه Marc GJIDARA، إلى اعتبار أنه في ظل غياب نظام جزائي فإن رجال الإدارة قد نسوا نقطة الشرف التي ظلت محترمة لمدة طويلة والمتمثلة في الخضوع التلقائي لأحكام القضاء، وبدأوا في استخدام الحيل للإفلات من الرقابة القضائية وأحيانا مواجهتها مباشرة وعلنا.
بالإضافة إلى طغيان الطابع السياسي على المنازعات القضائية، فقد أثبت الواقع العملي أن بعض المسؤولين على مستوى الجماعات الترابية يرفضون تنفيذ أحكام قضائية إدارية ويضعون العراقيل أمام تنفيذها نتيجة مصالحهم الحزبية أو السياسية، فيكون النزاع في ظاهره ذا طبيعة إدارية، وفي باطنه صراعات سياسية وحزبية نصرة للحزب الذي ينتمون إليه.
وبالتالي أمام امتناع رئيس جماعة تونفيت عن الامتثال لسلطة القضاء، لم يقف القاضي الإداري مكتوف الأيدي حيث وضع حدا لهذا التعسف، واعتبر أن قانون المسطرة المدنية لم يستثن الإدارة أو المسؤول الإداري عن إقرار الغرامة التهديدية في حقهما مادام أنهما امتنعا عن تنفيذ حكم قضائي صادر عن سلطة قضائية، وبهذا يكون هذا القاضي تبنى توجه حديث لم يكن سائدا وكسر هذه البدعة التقليدية.
وقد استند القاضي الإداري لإصدار حكمه على الفصل 448 من قانون المسطرة المدنية حيث تنص الفقرة الأولى منه على أنه “إذا رفض المنفذ عليه أداء التزام بعمل أو خالف إلزاما بالامتناع عن عمل أثبت عون التنفيذ ذلك في محضره وأخبر الرئيس الذي يحكم بغرامة تهديدية”، وحينما نتأمل في صياغة المشرع لعبارة “المنفذ عليه” نجدها عامة ولم تحدد المنفذ عليهم بالتالي لا مانع أن تشمل الإدارة والمسؤول الإداري.
كما أنه من الواضح أيضا تأثر القاضي الإداري بتوجه الفقه الفرنسي، الذي نادى بتطبيق المسؤولية الشخصية على الموظف الممتنع عن تنفيذ حكم قضائي، ونذكر هنا الفقيه ” Maurice Hauriou” باعتباره من مؤسسي هذه النظرية، حيث قال بمناسبة تعليقه على حكم Fabregues وحكم DelleManro إننا انشغلنا أكثر من اللازم بالمسؤولين عن خطأ المرفق فقط دون أن نعطي الاهتمام الكافي للمسؤولية الشخصية للموظفين، وقد حان الوقت للنظر إلى هذا الجانب الذي له فائدته، هو أيضا والذي يكمن بصفة خاصة في أن تقدم جزاء لكل الأحكام الصادرة ضد الإدارة لأنه بالنسبة لرجل الإدارة المسؤول عن عدم تنفيذ الشيء المقضي به ضد الإدارة، فإن طرق التنفيذ العادية يمكن استخدامها.
وعلى حد تعبير الأستاذ محمد القصري مشيدا بحكم إدارية مكناس أن الموظف الذي سوف يدرك أنه معرض للحكم عليه بالغرامة التهديدية وبخطورة الفعل غير المشروع المرتكب من جانبه لن يستهين بقوة الشيء المقضي به للأحكام الإدارية وتعمل على تنفيذها، أما إذا ظل لديه إحساس بأنه مغطى بنوع معين من الحصانة وأنه في حماية الآلية الإدارية التي يعمل في ظلها فإنه سيسخر ويستهين بقوة الشيء المقضي به دون أن يكون معرضا لأي عقاب وهذا الجزاء سوف يكون له أثر مانع من عرقلة عملية تنفيذ الأحكام الإدارية.
يعد ملف محمد العطاوي أول خطوة إيجابية في تاريخ الاجتهاد القضائي المغربي، حيث تصدت لتعسف مسؤول عن الإدارة الجماعية في تنفيذ الحكم الصادر ضده وتحميله المسؤولية شخصيا، وأظهر القاضي الإداري وهو يبت في هذه النازلة استعدادا لمواجهة هذا الرفض غير المبرر.
بيد أن اجتهاد المحكمة الإدارية بمكناس لم يلق تأييدا من طرف المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)، حيث قضى بإلغاء حكم المحكمة الإدارية بمكناس الصادر في ملف العطاوي، واعتبر أنه لا يمكن إجبار الإدارة على التنفيذ بواسطة الغرامة التهديدية مادام أن المحكمة الإدارية اقتصرت على إلغاء قرارها، الذي اعتبر متسما بالشطط في استعمال السلطة، ويبقى من حق المتضرر المطالبة بالتعويض في إطار القضاء الشامل.
وقد خلق هذا الحكم الصادر عن المجلس الأعلى جدلا واسعا في أوساط الباحثين والمهتمين، وانتقده الفقه بشكل لاذع، حيث لم يكلف نفسه –أي المجلس الأعلى- حتى عناء مناقشة مدى شرعية إثارة المسؤولية الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ من عدمها، على حد تعبير كل من الأستاذين ميشيل روسي ومحمد بنعبد الله، في حين اعتبره الأستاذ محمد الوزاني نوع من المجاملة التي يريد المجلس الأعلى أن يؤسس علاقته بها مع الإدارة.
لكن رغم أن المجلس الأعلى لم يتبن نظرية الغرامة التهديدية في حق المكلف بالتنفيذ في إطار المسؤولية الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ بدون مبرر، غير أن أحكام المحاكم الإدارية لاحقا ذهبت عكس ذلك، وأقرت مبدأ تحديد الغرامة التهديدية في حق المكلف بالتنفيذ شخصيا. وعلى سبيل الاستئناس نذكر الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 26/03/2008 عندما قضت بالغرامة التهديدية الشخصية ضد قائد قيادة “المجاطية أولاد الطالب” على عقار من طرف القائد بعد قسمه اليمين على عدم الامتثال لمقتضيات الحكم القضائي.
وعليه يمكن القول إن القاضي الإداري يلعب دورا أساسيا في حماية حقوق الأفراد من تغول الإدارة في حدود الأدوات الاجتهادية المتاحة له؛ خاصة أمام الفراغ التشريعي الحاصل في ميدان تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهة أشخاص القانون العام.
وأخيرا لتجاوز هذا التباين على مستوى الممارسة القضائية ولتوفير الأمن القانوني للقضاة والمتقاضين، ينبغي على الحكومة المغربية أن تتحلى بروح المسؤولية والإرادة السياسية لوقف هذا النزيف الذي مازلنا نعاني منه إلى حدود هذه اللحظة، والتدخل بشكل حازم للإسراع في إخراج مشروع قانون المسطرة المدنية إلى حيز الوجود، نظرا للمكتسبات التي جاء بها فيما يتعلق بإحداث مسطرة خاصة بالتنفيذ الجبري للأحكام القضائية الصادرة في مواجهة أشخاص القانون العام، بما فيها تنفيذ الغرامة التهديدية ضد المسؤول الإداري بصفة شخصية.
في أفق إنتاج ترسانة قانونية خاصة بالمنازعات الإدارية مستقلة عن قانون المسطرة المدنية، كما هو الشأن في بعض الدول “العربية” كالجزائر ومصر..، ولن يتأت ذلك إلا باستكمال الهرم القضائي المغربي، وذلك بإحداث محكمة إدارية عليا.