تأمل في مشهد مروري
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
في مشهد عمومي، وأنا أسير بسيارتي توقفت مع سيارة كانت تسبقني لنفسح الطريق لامرأة راجلة لتمر عبر ممر الراجلين. وقد كانت تلك المرأة تسمك بيدها طفلا صغيرا حاول التملص من قبضتها ليجري مهرولا في اتجاه الضفة الأخرى من الطريق، غير أنها نهرته خوفا عليه من بطش الآلات المتوحشة التي تحول دون بلوغهما الهدف. لكن توقف السيارة التي سبقتني وتوقفي بعدها أدخل الطمأنينة في قلب المرأة، التي تبدو على ملامحها آثار الزمن وقد فعل فِعلته، لتمر عبر المسار المخصص لذلك، وهي تدعو للسائق بالنجاة وبرحمة الوالدين وغيرها من الأدعية التي تستريح لها الأنفس.
لقد كان المشهد غاية في القدرة على اختزال تعايش زمنين، زمن تعيشه المرأة الطاعنة في السن وآخر يعيشه سائق السيارة الحديث عهد بالحياة.
فكرت طويلا في الأمر، كيف تقابل امرأة تمكينها من حقها بالمرور الذي يكفله لها التشريع بوابل من الأدعية التي تعبر عن امتنانها للسائق الذي أبان، من وجهة نظرها، عن حس خُلُقِيٍّ عال؟
لماذا تولى التشريع فرض منظومة أخلاق على الأفراد الذين من المفروض أن يكونوا ملتزمين بها طوعا من غير تدخل لأي عامل خارجي يجبرهم على ذلك؟ هل يجسد مشهدنا هذا وعيَ التشريع بتفسُّخ سلوك الأفراد من كل وازع أخلاقي فتدخَّل من أجل إعادة ذلك المارد الداخلي الذي يسكن في وعي كل واحد منا إلى عقاله؟ سؤال سيبقى مطروحا ما دام لسلوك الأفراد أكثر من زاوية قراءة تجعل من كتاب الحياة قصة لا متناهية من الأحداث والوقائع، لتستحيل علاقة التماهي بين القانون والتشريع إلى نوع من التمايز بين المفهومين يدفعنا إلى إعادة النظر في ما بينهما من اتصال وانفصال.
في الحقيقة إنها صورة تجسد زمنين، زمن كانت فيه الأخلاق قائدة لسلوك البشر فكان الصغير يوقر الكبير، وكانت ذات الأخلاق تفرض نسج نوع من العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، حيث كانت تحدد ما له وما عليه من غير تدخل للتشريع سواء بأمر أو نهي؛ وزمن أصبح فيه سلوك الأفراد مفروضا بحكم التشريع بما له من سلطة إكراه وقدرة على جعل الأفراد مذعنين له.
فقد اعتبرت المرأة الراجلة، وهي الطاعنة في السن، أن توقف سائق السيارة تفضلا منه واحتراما لها من قبله، في الوقت الذي كان وقوفه استحضارا منه للالتزام تشريعي يجبره على إفساح الطريق للراجلين متى ما ولجوا ممراتهم إيذانا بحقهم في الأسبقية بالمرور.
إن تقاطع الأحداث وتشابكها ظاهريا لا يعني بالضرورة تقاسم شخوصها نفس المنطلقات ونفس الرؤى والتصورات. ولكنها، في الكثير من الأحيان، إفرازات وجهات نظر خاصة بكل واحد من الفاعلين في سيناريو الأحداث ليعبر من خلال سلوكه المادي والمعنوي عن نظرته لعلاقاته بغيره.
غير أن الأكيد من بعد كل ذلك أن مشهدنا هذا الذي لن يكون بالتأكيد السطر الأخير من الرواية سيبقي التساؤل مطروحا، لماذا تولى التشريع فرض منظومة أخلاق على الأفراد الذين من المفروض أن يكونوا ملتزمين بها طوعا من غير تدخل لأي عامل خارجي يجبرهم على ذلك؟ هل يجسد مشهدنا هذا وعيَ التشريع بتفسُّخ سلوك الأفراد من كل وازع أخلاقي فتدخَّل من أجل إعادة ذلك المارد الداخلي الذي يسكن في وعي كل واحد منا إلى عقاله؟ سؤال سيبقى مطروحا ما دام لسلوك الأفراد أكثر من زاوية قراءة تجعل من كتاب الحياة قصة لا متناهية من الأحداث والوقائع، لتستحيل علاقة التماهي بين القانون والتشريع إلى نوع من التمايز بين المفهومين يدفعنا إلى إعادة النظر في ما بينهما من اتصال وانفصال.