القانون والفقه المالكي صراع التأثير والتأثر
صلاح الدين العروسي
إن أصالة قيم الحضارة الإسلامية بصفة عامة و المذهب المالكي على وجه الخصوص وثرائه الفقهي ومرونته الفكرية وقابلية هذا المذهب للتجديد والانفتاح قد جعلته من أكثر المذاهب الإسلامية تداولا على صعيد الدراسات والبحوث الأكاديمية المتخصصة التي تناولته من نواحي التأسيس والتحديث والقيمة، لذا فهو يعد من الظواهر التشريعية والروحية والمنهجية الأكثر رسوخا وثباتا وإشعاعا وإتباعا في العالم في عصرنا هذا، إذ ينتهجه كثير من المسلمين في ربوع العالم، ففي ضوئه يدبرون شؤون مجتمعاتهم وسلوكهم العقدي كما يعد حاضنا رئيسا لحركة الإسلام في العالم وملجأ آمنا للمسلمين الجدد.
ولاشك أن الفقهاء والعلماء والباحثين ما فتئوا يتدارسون مقوماته وقضاياه ومسائله مما خلف دراسات وبحوثا غنية تهتم بالتحام هذا المذهب بسياقاته المعاصرة، كما كان في سالف تاريخه.
تعتبر الصلة الوثيقة للمذهب المالكي بغيره من العلوم أحد أوجه الثقافة المعاصرة وخصوصا في مجال القانون العام والخاص، ومناهج العلوم الاجتماعية، علاوة على القضايا الاقتصادية، مما يعد دليلا على ارتباط الفقه المالكي بالجوانب الحيوية في عصرنا الحاضر.
وكثيرا ما يقوم التساؤل عن جدوى العلاقة أو حتى عن العلاقة نفسها بين القانون من جهة وبين الفقه المالكي من جهة ثانية إذ يبدو ولأول وهلة أن المسافة بين المجالين مسافة بون،خصوصا من حيت الاختلاف على مستوى الموقع والجهة، وهذا أمر صحيح ولا جدال، ذلك أن القانون موضوع ومحل وغاية، والمذهب المالكي اتجاه ومدرسة وفكر، وشتان بين الموضوع والمنهج والمحل والسبيل.
وفي ظل القول بأن ثقافة المجتمع تتجه نحو التوحد والحديث عن عولمة القانون تثار مسألة فصل قيم المجتمع وأعرافه عن عملية وضع التشريع وبالتالي التشريع الذي قد ينشأ ويترعرع في بيئة غربية قد يصلح للتطبيق في مجتمع متشبع بقيم وعادات وتقاليد مستمدة من قيم الحضارة الإسلامية وهذه فرضية لابد من مناقشتها ووضعها قيد الدراسة للتعرف على مكانة قيم الحضارة الإسلامية – الفقه المالكي نموذجا- في العملية التشريعية.
فإلى أي حد يمكن اعتبار أن القوانين التي تنشأ في بيئة غربية يمكن تطبيقها في مجتمع قيمه وأعرافه مستمدة من قيم الحضارة الإسلامية ؟
إن هذا الإشكال يفرض علينا أن نتناول هذا الموضوع من زاويتين أولها لابد من الحديث عن دور الإعلام وسياسة المستعمر وكيف ساهمت في ابعاد قيم المجتمع وحضارته الإسلامية من عملية وضع التشريع والنقطة الثانية سنتحدث فيها عن تأثير النظم التعليمية وعدم استحضار قيم الحضارة الإسلامية والفقه الإسلامي وقيم المجتمع في الدراسات القانونية.
النقطة الأولى
دور الإعلام وسياسة الاستعمار في ابعاد القيم عن عملية وضع التشريع
إن من أهم أسباب بروز الحضارة الغربية بقوة لا يكون دائما الإنتاجات المبهرة للفكر الغربي بل إن استغلال الإعلام لعب دور كبير للرفع من شأن الحضارة الغربية وذلك بتضخيم الإيجابيات وتقليص السلبيات وإخفائها، بالمقابل لم يكن الإعلام يستخدم بقوة في الحضارة الإسلامية ولا يزال استخدام المسلمون للإعلام ضعيفا، وعلى الرغم من التقدم الذي حققته الحضارة الغربية فإنه لا ينبغي أن نربط هذا التطور بإنتاجات الفكر الغربي، بل لابد من الرجوع إلى الأصول التي استمدت منها هذه القوانين ومحاولة ترسيخ قيم الحضارة الإسلامية في قوانيننا لأنها تجمع بين المادة والروح في توازن واعتدال دقيق ورشيد فلا تطغى إحداهما على الأخرى، فالأخلاق والقيم هي لب الحضارة الإسلامية.
في حين أن قيم وأعراف الحضارة الغربية تختلف و لا تنسجم مع قيمنا ومبادئنا ولا ينبغي أن تكون حاضرة في تشريعاتنا حتى نحقق فعاليتها وقبولها من طرف الأفراد والمؤسسات على حد سواء.
سبب توجه الدراسات القانونية إلى ربط التقدم والازدهار في مجال التشريع بإنتاجات الفكر الغربي هو أن المستعمر خلال فترات الاستعمار عمل على فصل المجتمع عن الجذور والقيم الكبرى داخل ذلك المجتمع ونزع هويته فعندما دخل الاحتلال الأجنبي للبلدان العربية التي كانت تحكم بالتشريع الإسلامي دخل معه قانونه فهو القوي الحاكم بذلك تضيع الشخصية القانونية وهويته وقيمه في القوانين الدخيلة على ذلك المجتمع حيت يسعى المحتل إلى العمل على تلاشي قوانين البلاد إما دفعة واحدة نتيجة فتح عسكري وإما تدريجيا في غير ذلك وهكذا يثبث تشريعه الدخيل وسرعان ما تتجه الدراسات القانونية إلى تبني هذه القوانين والدفاع عنها والاعتزاز بها أحيانا أكثر من أصحاب هذه القوانين التي يطالب أهلها بإصلاحها في كل وقت وحين.
فقبل فرض الحماية الفرنسية على المغرب مثلا بتاريخ 30 مارس 1912 كان المغاربة يطبقون أحكام الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام مالك عقيدة وشريعة وبعد توقيع معاهدة الحماية بادرت فرنسا بإصرار من المقيم العام المارشال ليوطي إلى تأسيس لجنة من الفقهاء الفرنسيين لوضع مجموعة من القوانين ضمن ما يعرف بالإصلاح القضائي أو مجموعة ظهائر 12 غشت 1913 ومنها قانون الالتزامات والعقود، فمعظم هذه القوانين اقتبست من قوانين أروبية كانت موجودة ونقحت لتكون صالحة التطبيق أمام المحاكم الفرنسية بالمغرب.
هذه المبادرة عملت على اجتثاث قيم المجتمع وهويته وإحالة التشريع الإسلامي على التقاعد الجبري، باستثناء قانون الالتزامات والعقود الذي تم إخراجه من المجلة التونسية للالتزامات والعقود والتي كانت قد وضعتها لجنة مكونة من مجموعة من الفقهاء الفرنسيين التي حاولت أن تستقي أحكام المجلة من القوانين الأوروبية ومن الشريعة الإسلامية خاصة المذهب المالكي وعلى اعتبار أن القانون المدني الفرنسي مأخوذ من الفقه المالكي، وهذا ما يفسر ربما صمود قانون الالتزامات والعقود لقرن من الزمن وأكثر باعتباره قانون معياري محاط بسياج الإرادة والدين والقانون ذاته كما أنه قانون معياري يتضمن مبادئ كونية لا تتغير مع مرور الزمن.
ومتى خرجنا عن هذه الهوية الراسخة للمجتمع المغربي عند وضع التشريع أكيد أنه لن يحقق الفعالية المرجوة ولو صدرت عن الجهة التشريعية المخول لها ذلك لأن تدخل هذه الجهة بالتشريع لا يعفي من الخضوع لأحكام أعلى القيم التي تحكم المجتمع.
كما يجب أن لا تؤثر بعض التيارات الاجتماعية التي ترى بأن المجتمع يجب أن يرتقي من حكم العرف إلى حكم القانون لأنه أمر غير سليم وليس هذا انطباع شخصي فقط لكن إقرار مقتضيات مخالفة لقيم المجتمع يجعلها بلا شك تصطدم بمجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية المتأثرة بالنزعة الدينية والعرفية تفوق قوتها قوة القاعدة التشريعية .
إذا الإعلام والسياسة التي نهجها الاستعمار ساهمت بشكل كبير في استبعاد أو فصل القيم عن عملية وضع التشريع وهذا جانب، الجانب الأخر يتمثل في النظم التعليمية واستبعادها للفقه الإسلامي والفقه المالكي وبيان مكانته الحقيقة داخل التشريع وهو ما سنسلط عليه الضوء في النقطة الموالية.
النقطة الثانية
النظم التعليمية ودورها في أفول مبادئ الفقه المالكي والقيم في وضع التشريع
لعبت النظم التعليمية ومقررات كليات القانون دور جوهري في توجيه العقل الطلابي الباحث إلى تبني القوانين الأجنبية باعتبارها أحد التشريعات الهامة التي استمدت منها أغلب القوانين المطبقة في دولنا والعمل على الغوص في فصولها ومقارنتها بتشريعاتنا الوطنية.
فليت هذه التشريعات أتت بجديد علينا لتتجه الدراسات القانونية للبحث فيها وربط تطورها بإنتاجات العقل الغربي فيجب عدم الانسياق وراء الدعوات المغرضة حول الفقه الإسلامي مثل القول بأزمة هذا الأخير وفشله في مواكبة تطورات العصر الحديث وأزمة التراث وما إليها لأن الأزمة المذكورة ليست أزمة فقه بل هي أزمة معرفة وقراءة وتقصير في الإطلاع على قواعد الفقه الإسلامي وكشف علاقته الوطيدة بالقانون.
إن هذه القوانين هي مستمدة من أحكام الفقه المالكي كما هو الحال بالنسبة للقانون المدني الفرنسي أو ما يسمى بمدونة نابليون إنما هم برعوا في تبويب تلك الأحكام وتنظيمها فقط، لهذا لابد من إعادة النظر في مقررات كليات الحقوق من أجل تطعيمها بمواد شرعية فقهية أصولية ضرورية لتأهيل الباحث القانوني بآليات تمكنه من استثمار النص القانوني إلى أبعد مدى لأن مساحات البحث في الفقه الإسلامي بصفة عامة أو الفقه المالكي بصفة خاصة مساحات رحبة للبحث ودراسة أي مؤسسة قانونية.
فلابد من عقد الصلة بين مفاهيم الفقه الإسلامي والتطبيقات القانونية الحديثة لتيسير التقاء المشتغلين في المجالات الفقهية والقانونية على صعيد واحد للنظر في مشكلات مجتمعاتهم والوصول إلى الحل التشريعي الأمثل لهذه المشكلات.
ختاما يمكن القول أنه على جميع الفاعلين والمتدخلين في العملية التشريعية بدءا من من توكل لهم مهمة وضع التشريع وانتهاء بالمشتغلين عليه، العمل على رد الاعتبار لمكانة الحضارة الحضارة والقيم الإسلامية داخل المنظومة التشريعية لأنها تعتبر المفتاح الأول من مفاتيح تحقيق فعالية ونجاعة التشريع، وأصلا أصيلا في وضع القانون، وعلى اعتبار أن قيم الحضارة الإسلامية والفقه المالكي هو بمثابة مدونة قانونية متكاملة تضبط كل شروط الحياة بالعدل والإنصاف على خط العدل والصراط المستقيم .