المسؤولية القانونية للجرائد الالكترونية عن نشر العناوين المضللة
صلاح الدين العروسي
تؤدي وسائل الإعلام على مختلف أنواعها دورا هاما في المجتمع، فهي تعمل من ناحية على خلق وحدة معنوية بين أفراد الشعب الواحد باعتبارها السبيل الأوحد إلى معرفة ما يدور فيه والإحاطة بالقيم الاجتماعية السائدة بين جنباته فتكون بذلك رابطا يجمع بينهم .
ومن ناحية أخرى، فإن الصحافة تكشف عن ما قد يحيط بالمجتمع من نقص، وتعمل على دفع الجهات المسؤولة إلى الإصلاح وتكملة هذا النقص سواء من النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية لدرجة أن القوة التي تتمتع بها من حيث التأثير أهلها لتحمل لقب “السلطة الرابعة “.
وهذا اللقب ما كانت لتحظى به لولا ما تحدثه من تغيير في المواقف والمواقع السياسية والاجتماعية، والثقافية، والفكرية، لذلك فإن الاهتمام بالصحافة لم يكن حكرا على فئة معينة دون الأخرى وإنما كان موضوع انشغال العديد من الجهات وعلى رأسها المشرع الوطني الذي يعمل على سن تشريعات تؤطر وتنظم الممارسة الصحفية بما يتلاءم والمناخ السائد في البيئة المجتمعية من جهة والتشريعية من جهة أخرى.
ونظرا لهذه الأهمية فقد كرس المشرع الدستوري حرية الصحافة والتعبير في الفصل 28 منه الذي نص على أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية مما يبين الأهمية التي تحظى بها مهنة الصحافة، و إلى جانب التنصيص على تكريس حرية الصحافة بمقتضى قاعدة دستورية فقد واكب ذلك صدور مجموعة من القوانين التي تعتبر بمثابة مدونة للصحافة تتلائم والتطور الحاصل في المهنة كالقانون المتعلق بالصحفيين المهنيين والقانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة بالإضافة إلى القانون المنظم للصحافة والنشر.
إلى جانب هذه القوانين التي أولت لمهنة الصحافة مكانة مهمة تضمن لها الدور الموكول لها من جهة فإنها أقرت مجموعة من الالتزامات، والمبادئ، والأخلاقيات التي تسير بها هذه المهنة حتى تحقق الغاية المرجوة منها.
إن أخلاقيات الإعلام باعتبارها مجموع القيم والمعايير المرتبطة بمهنة الصحافة، التي يلتزم بها الصحفيون أثناء عملية انتقاء الأنباء ونشرها والتعليق عليها ومع تطور هذه المهنة دفعت بعض الهيئات إلى وضع دليل يتضمن المعايير والأخلاقيات التي تحكم العمل الصحفي شأنها في ذلك شأن باقي المهن الأخرى كالمحاماة والطب وغيرها.
وعلى رأس هذه القيم والمبادئ التي يجب أن يتحلى بها الصحفي هي الأمانة والصدق في نشر الخبر حتى يجعل منها بالفعل “سلطة رابعة”، والمتتبع للتطور الحاصل في مهنة الصحافة خاصة الالكترونية منها يلاحظ أن هذه الأخيرة أو بالأحرى “البعض منها” أصبحت لا تفي بالغرض المتوخى من الصحافة من حيت احترام أخلاقيات العمل الصحفي ومن بينها الصدق والأمانة في نشر الخبر فكثيرا ما تجد وأنت بصدد تصفح مواقع التواصل الاجتماعي بعض العناوين الرنانة التي لا علاقة لها بالمحتوى مما يضرب في العمق قيم العمل الصحفي.
فقد نصادف في بعض الصفحات الخاصة بالمواقع الصحفية الإلكترونية عناوين لا تعكس المضمون بهدف جلب عدد كبير من الزوار لذلك الموقع، مما قد يتسبب للشخص الذي قام بالولوج لذلك الموقع في خسارة مادية تتجسد في ضياع نسبة معينة من الانترنيت (méga) فالمتصفح للمواقع الإلكترونية بناء على مشاهدة عنوان مثير ثم يسقط بعد تصفح الموقع في خبر لا علاقة له بالعنوان يكون بلا شك قد خسر نسبة معينة من الانترنيت وهو ما يشكل له ضررا ماديا، مما قد يطرح التساؤل حول المسؤولية القانونية للصحفي أو الموقع الالكتروني عن نشر العناوين المضللة.
فإذا نظرنا إلى مثل هذه الأعمال الغير المشروعية في العمل الصحفي من وجهة نظر القانون المدني فإنه قد يرتب المسؤولية المدنية للصحفي بناء على مقتضيات الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود، أما إذا نظرنا لهذا الفعل من زاوية القانون الجنائي فإن مقتضيات الفصل 540 المتعلق بجريمة النصب تكون واجبة التطبيق على اعتبار أن الصحفي يستعمل مجموعة من الوسائل الاحتيالية من أجل تمويه المتصفح للولوج إلى الموقع الذي يتضمن محتوى لا علاقة له بالعنوان.
فهل يمكن أن نعتبر أن مسؤولية الصحفي قائمة بنشر أخبار أو عناوين مضللة لا علاقة لها بمحتوى المادة الصحفية؟ وهل مسؤوليته تقتصر على تعويض المتضرر فقط من خلال دعوى المسؤولية المدنية أم أن الأمر يمتد لقيام مسؤوليته الجنائية عن القيام بهذه الأفعال المنافية للقواعد الأخلاقية في العمل الصحفي؟
المسؤولية المدنية للموقع الإلكتروني عن نشر العناوين المضللة
يشكل موضوع هندسة العنوان في البناء الصحفي من أهم الأمور التي يركز عليها هذا الأخير في نشر الأخبار والمقالات وغيرها، فأول ما يلتقي به الصحفي قراء جريدته هو العنوان، فإذا استثنينا المواد المختصرة التي يتم تجميعها في ركن معين من الجرائد تحت اسم لا يتغير، فكل المواد التي تنتجها الصحف تحتاج عناوين، بل أضحت هذه الأخيرة ضرورة قصوى في عصر الصحافة الرقمية، إذ تحتاج كل مادة عنوانا حتى يتم تمييز رابطها عن آلاف الروابط الأخرى التي تدور في الفضاء الإلكتروني.
ويعتبر الحرص على المهنية في العنوان ومضمون المادة من أدوات نجاح الصحفي في بلوغ مقاصده، وبالتالي نيله احترام القارئ وتقديره عن طريق اختيار عناوين دقيقة ومتضمنة لمعلومات أو أخبار بما يُجنّب العناوين الفضفاضة والشاملة، وأن يكون وفيا للمقال سواء لمضمونه أو لجنسه، وتجنب اللعب بالألفاظ عن طريق احترام أقصى شروط السلامة اللغوية.
ووضع عناوين طويلة لمواد إخبارية قصيرة، والسقوط في الإثارة بقصد التشويق، وتضمين العنوان معطيات غير صحيحة، واستخدام أدوات النفي، وكتابة عناوين غير متجانسة مع نوعية أو جنس المادة، ووضع مفردات تحمل التباسا في المعنى.
وهذا التضليل قد يرتب المسؤولية المدنية للصحفي وفق مقتضيات الفصلين 77و98 من قانون الالتزامات والعقود فالصحفي بوضعه لعناوين لا علاقة لها بمضمون ذلك الرابط يكون قد ارتكب فعلا أحدث ضررا ماديا للغير (المتصفح للرابط) يتمثل هذا الضرر في خسارة نسبة معينة من الانترنت، وهو ما يدخل في نطاق الفصل 98 من قانون الالتزامات والعقود الذي يعتبر أن الضرر هو الخسارة التي لحقت المدعي فعلا.
فالعنوان الصحفي يشكّل بطاقة تعريف مصغرة للمادة الصحفية وبتعبير آخر، فالعنوان يعرّف مضمون المادة الصحفية وزاوية معالجتها ونوعيتها حتى يُفردها عن بقية المواد الأخرى، وهو أساسا يهدف إلى الإخبار في الأجناس الخبرية، وجذب انتباه القارئ في كافة الأجناس الصحفية.
ومن خلال العنوان يمكن أن نعرف الخط التحريري للمؤسسة الإعلامية، كما يمكن أن نستشف مدى مهنيتها، ولكن عندما لا يكون عنوان الخبر موافق للمضمون ويجعل المتصفح يلج إلى ذلك الخبر بناءا على العنوان وبعدها يتفاجئ بأن المضمون لا علاقة له بالعنوان يكون قد حصل له ضرر يجعل المسؤولية التقصيرية قائمة ضد الموقع أو الجريدة الإلكترونية وصورة الضرر هنا هي الضرر المادي لأنه يصيب المتصفح من الناحية المالية ويعتبر الضرر هنا متحققا بمجرد ولوج المتصفح للموقع ويؤدي ذلك إلى فقدان نسبة معينة من الانترنت.
وما يزكي إمكانية قيام المسؤولية المدنية هو أنه مشرع قانون الصحافة والنشر رقم 13-88 قد نص في فصله 65 الفقرة الأولى على أنه “يمنع الإشهار الكاذب أو التضليلي” سواء كان هذا الإشهار كتابة أو بالصوت أو بالصورة وسواء كان صريحا أو ضمنيا ويكون ذلك من شأنه أن يوقع الجمهور في الغلط.
وعليه فإن الضوابط التي يجب أن تحكم الصحفي هي صياغة العناوين بطريقة وجيهة بحيث تؤدي المعنى المطلوب وحده دون تضخيم أو تحقير أو تضليل ولا يجوز صياغة عناوين لا علاقة لها بالمضمون بغرض البيع والترويج فاستعمال عنوان يثير شبهة الجمهور لا يبرر استعمال عناوين مضللة لا صلة لها بحقيقة ما تتضمنه المادة الصحفية.
إذا هذه كانت مقاربة للمسؤولية القانونية للموقع عن نشر الأخبار الزائفة من وجهة نظر القانون المدني فماذا عن إمكانية تحقق المسؤولية الجنائية جراء نشر الأخبار التي لا علاقة لها بمضمون المادة الصحفية؟
المسؤولية الجنائية للصحفي عن نشر العناوين المخالفة لمضمون المادة الصحفية
يرى المتتبع للصحافة الرقمية دون أن تكون لديه بالضرورة ثقافة صحفية قوية، أنها تزخر بالنقائص الكثيرة على مستوى العناوين الصحفية، فعوض أن تقرّب هذه الأخيرة القارئ من مضمون المادة، تجعله ينفر منها وأحيانا يندم على نقره على الرابط، إذ تمارس بعض المؤسسات والمواقع نوعا من الاحتيال على القارئ، فهو يقرأ في العنوان معلومة معيّنة أو يدفعه إلى تكوين فكرة ما، وعندما يقرأ المادة يجدها غير وفية أبدا للعنوان، وهذه الظاهرة السلبية انتشرت بشكل واضح مؤخرا، إذ ترغب بعض المواقع في جلب الزوار بأي وسيلة كانت، حتى لو اقتضى الحال ممارسة الخداع، وهو ما ينتفي تماما مع وظائف الصحافة.
وعدم الوفاء لمضمون المقال الصحفي الالكتروني يجعل جنحة النصب طبقا للفصل 540 من القانون الجنائي قائمة، وذلك باستعمال الصحفي عناوين كاذبة وغير متوافقة مع مضمون المادة الصحفية على اعتبار أن هذا الأخير يلجأ إلى استعمال وسائل احتيالية يوقع من خلالها المتصفح ودفعه للنقر على الرابط وذلك بتأكيدات خادعة ووقائع مغلوطة يوهم من خلالها هذا المتصفح للولوج إلى الموقع من أجل الحصول على منفعة مالية.
فسمة عدم الوفاء لمضمون المقال هي الغالبة في خرق قواعد كتابة العنوان في الصحافة الرقمية، وهو ما يجعل جنحة النصب وفق ما ذكر متوفرة أركانها، و هذا الخداع قد يتخذ شكلين:
الشكل الأول: ذكر معلومة غير صحيحة في العنوان وتصحيحها في مضمون المقال، ومن ذلك كتابة ما يشير إلى وفاة فلان، وعندما تنقر على المادة تجد أن الوفاة مجرد إشاعة، أما أو عن طريق المبالغة في العنوان، إذ يتحوّل التشويق إلى إثارة أو تهويل، ومن ذلك مثال: “عاجل.. مجلس الأمن يصفع الدولة الفلانية”، فعندما تنقر تجد أن لا شيء في المادة يستحق كلمة الصفع، أو تجد نعوتا غير مطابقة لمضمون المادة من قبيل: خطير ومأساة ومجزرة وصدام وفضيحة.. إلخ.
الشكل الثاني: هو غلبة العناوين التقديمية على المضمون وهي ظاهرة انتشرت في عناوين الصحافة الرقمية، وهي العناوين التي لا تحمل أي معلومة، يرغب فيها الصحفي حث القارئ على الدخول إلى المواد الإخبارية، ومن ذلك عناوين: “هذا ما قررته المحكمة في قضية فلان”، و”لهذا السبب لم ينعقد اجتماع مجلس كذا”. والواضح أن هذه العناوين تخرق مبدأ ضرورة تضمين عنوان المادة الخبرية المعلومة الأساسية، كما أن هذه الظاهرة تتجنى على حق القارئ في معرفة أهم ما في المادة عبر عنوانها، فالقارئ يختار قراءة المادة انطلاقا من أهميتها بالنسبة إليه، ولا يقرأ إلا عندما يخلق له العنوان الفضول، أما عندما تجبره المادة على النقر عليها بإتباع تحريض هذه العناوين التقديمية ثم يكتشف أن المادة غير وفية للمضمون، و يحس المتصفح أنه كان ضحية عنوان مضلل.
وبالتالي يجب أن يكون العنوان وفي لمضمون ذلك الخبر خاصة وأن الصحافة الرقمية، لا تتوّفر في الغالب على إمكانية وضع العناوين الثنائية من سطرين ليتضح مضمون المقال، لاسيما أن الجريدة ملزمة بعنوان واحد يظهر عند مشاركة الرابط في الشبكات الاجتماعية أو لأرشفته في محركات البحث.
ختامًا، يبقى من الضروري التأكيد على أن جنوح بعض المؤسسات الصحفية عن قصد إلى ارتكاب إخلال بقواعد كتابة العنوان، يعود إلى رغبتها في تحقيق كسب مالي، وبالتالي تعتمد على عدد الزيارات لجلب المعلنين، غير أن الإصرار على جذب القراء بأساليب غير احترافية وغير قانونية يضرّ بالمؤسسة ويخدش صورتها لدى القراء، فنسبة القراء الذين يكتفون بقراءة العنوان كانت وستبقى أكبر من نسبة من يقرؤون المادة، فحتى عندما يشتري القارئ الجريدة المطبوعة ويكون لديه متسع من الوقت لقراءة كل موادها، يتحاشى قراءة كل شيء ويعتمد على العنوان كبوصلة لتحديد حاجياته، ومتى اختلت هذه البوصلة، فالعلاقة بين القارئ والصحافة ستتأثر، وسيتحول العنوان غير المهني إلى رصاصة جديدة تنخر جسد الصحافة، وهذه كانت مقاربة قانونية تفتح المجال للنقاش حول مدى قيام المسؤولية القانونية للصحفي أو الجريدة الالكترونية عن نشر العناوين الرقمية الزائفة.