الإحالة بعد النقض في المادة الجنائية
تعتبر محكمة النقض في قانون الإجراءات بصفة عامة بمثابة أعلى هرم داخل المنظومة القضائية، فهي لا تعتبر درجة من درجات التقاضي – كمبدأ- وإنما دورها يقتصر فقط على مراقبة مدى صحة تطبيق القانون وتوحيد الاجتهاد القضائي بين محاكم الموضوع. فهي المجلس الأعلى في بعض الدول وفي أخرى تسمى محكمة التمييز لأنها تميز، في عملها، بين الواقع والقانون.
ولابد من الإشارة إلى أن اختصاص محكمة النقض لا سيما في المادة الجنائية وإن كان في مجمله يتعلق بمراقبة مدى التطبيق السليم للقانون، إلا أن هذا الاختصاص الشاسع يقيد بحسب الوسيلة المثارة من طرف طالب النقض ولا يتعدى ذلك إلا إذا كان في المسألة ما يتعلق بالنظام العام. فالوسيلة المثارة هي التي تؤطر رقابة محكمة النقض.
إلا أن السؤال المطروح هو مدى تقيد محكمة الإحالة بعد نقض المقرر القضائي؟
يجب الإشارة أولا أن القرار المنقوض يكون مآله البطلان وتعاد مناقشة القضية من جديد أمام محكمة الإحالة وتبقى لهذه الأخيرة السلطة الكاملة لمناقشة القضية دون قيد اللهم ما يتعلق بالنقطة القانونية التي بتت فيها محكمة النقض والتي يتعين على محكمة الإحالة التقييد بها.
لكن الإشكال المطروح يتعلق في الحالة التي يكون فيها القرار المنقوض قد تم الطعن فيه من طرف المتهم فقط دون النيابة العامة. فهل في هذه الحالة تطبق القاعدة القائلة بأن المتهم لا يضار بطعنه وتكون بذلك سلطة محكمة الإحالة مشروطة بعدم تجاوزها- في حالة ما إذا ارتأت إدانة الشخص من جديد- للعقوبة التي كانت مقررة في القرار السابق المنقوض؟
يجب الإشارة أولا أن قاعدة لا يضار الطاعن بطعنه تم تكريسها من طرف المشرع المغربي بموجب المادة 409 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه “إذا قدم الاستئناف من المتهم وحده، فلا يمكن لمحكمة الاستئناف إلا تأييد الحكم أو إلغاءه لفائدة المستأنف”. وهذه هي الحالة الوحيدة التي تم بموجبها تكريس القاعدة السالفة وهو ما يدفعنا للقول للوهلة الأولى بأنه لا مجال لتطبيق هذه القاعدة في حالة الطعن بالنقض. لكن هذه القراء الأولية لا تنسجم والملاحظات التالية:
أولا: نصوص القانون بصفة عامة وقانون الإجراءات الجنائية بصفة خاصة يجب أن تفهم انطلاقا من الغاية المتوخاة من تكريسها وهو ما يصطلح عليه بروح النص. فقراءة النص القانوني دون استحضار هذه القاعدة تكون قراءة خاطئة أو أقل ما يقال عنها قراءة أدبية محضة. فتأسيسا لما سبق، نطرح التساؤل حول الغاية المتوخاة من قاعدة لا يضار المتهم بطعنه في الحالة التي تم تكريسها من طرف المشرع المغربي والمتعلقة بالطعن بالاستئناف؟ الأساس من إقرار المبدأ المذكور يفسر استنادا لأصول العدالة إذ أن المتهم الذي يطعن بالاستئناف في القرار إنما يريد من طعنه الاستفادة – كليا من خلال البراءة أو جزئيا من خلال تخفيض العقوبة – وبالتالي لا يعقل أن ينقلب الطعن عليه بالضرر سيما وأن النيابة العامة ارتضت بالمقرر القضائي ولم تستأنفه.
ثانيا: يجب التذكير بأن نصوص قانون المسطرة الجنائية لا يجب أن تقرأ بمعزل عن بعضها البعض، لأن المشرع الذي كرس المادة 1 هو نفسه الذي اختتمها بالمادة 757، ويكون بذلك من الغير المنطقي تجزيئ النصوص لأن من شأن ذلك تجزئ للإرادة المشرع الذي هي واحدة – في أساسها – في كل نصوص قانون المسطرة الجنائية.
وانطلاقا مما سبق تفصيله أعلاه، وفي انتظار تبلور اجتهاد قضائي مغربي واضح، فإن قاعدة لا يضار أحد بطعنه تجد الغاية من تأسيسها كذلك أمام محكمة الإحالة في حالة كان المقرر المنقوص نتيجة طعن المتهم وحده بالنقض.
قد يقول البعض أن محكمة النقض تراقب القانون وبالتالي فإنه من غير المنطقي القول بتطبيق قاعدة المتهم لا يضار بطعنه ما دام أنها لا تتصدى لموضوع الدعوى. صحيح فلا خلاف بشأن عدم إمكانية التمسك بالمبدأ المذكور أمام محكمة النقض لكون ذلك يرجع فقط إلى أن هذه الأخيرة لا تتصدى للقضية وبالتالي فإن المخاطب بالقاعدة هو من يتصدى أي محكمة الإحالة. فالمنطق واحد، فمحكمة الطعن بالاستئناف التي خاطبها المشرع تراقب هي الأخرى القانون – في شق الوسيلة التي تنعى على المقرر الابتدائي ذلك – وتتصدى وهذا هو المنطق في مخاطبتها مباشرة. وما دام أن النقض والتصدي تتداخل فيه جهتان – محكمة النقض ومحكمة الإحالة – فإن الخطاب يجب أن يوجه إلى المحكمة التي من شأنها أن تصدر حكما يصطدم ومصلحة الطاعن بالنقض، فالقول بقبول المبدأ في حالة الطعن بالاستئناف وعدم قبوله أمام محكمة الإحالة بعد النقض أمر غير منطقي.
فعلى سبيل المثال وتوضيحا لما سبق جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية أنه “إذا كانت النيابة العامة لم تقرر بالطعن على الحكم الصادر بالعقوبة بل ارتضته فصار بذلك نهائياً في مواجهتها وحصل الطعن عليه من غيرها من الخصوم، فإن نقض الحكم في هذه الحالة لا يترتب عليه سوى إعادة نظر الدعوى في حدود مصلحة رافع الطعن بحيث لا يجوز للهيئة الثانية أن تتجاوز مقدار العقوبة أو تغليظها بل تلتزم بحدود ونفس القدر الذي قضى به الحكم المطعون فيه حتى لا يضار الطاعن بطعنه وينقلب تظلمه وبالاً عليه”.
في ختام هذا التحليل المتواضع، يجب الإشارة إلى أن هذا المبدأ يعتبر قاعدة قانونية عالمية سائدة بأغلب المنظومات القضائية حول العالم، فعلى سبيل المثال لا الحصر القانون المصري (قانون رقم 57 لسنة 1959 بشأن حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض كما تم تعديله) والقانون الفرنسي (قانون المسطرة الجنائية).
وإذا ما سلمنا بالمبدأ المشار إليه أعلاه، فيبقى التساؤل الذي سبق وأن طرحناه خلال سلسلة المناقشات جدير بالاعتبار. ملفات عديدة يصدر بشأنها قرار بالنقض و الإحالة من طرف محكمة النقض في قضية جنائية استئنافية، و السجين قد أنهى العقوبة السجنية المحكوم عليه بها بموجب القرار الاستئنافي الذي تم نقضه، ففي هذه الحالة هل يجب الإفراج عن المتهم أم الإبقاء عليه في حالة اعتقال تمسكا بالمادة 551 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه: “إذا تعين على متهم الحضور من جديد أمام غرفة الجنايات بعد إبطال القرار الصادر ضده، فيبقى في حالة اعتقال احتياطي إلى أن تبت المحكمة المحالة إليها الدعوى، ويفرج فورا عن الشخص المتابع الذي أبطل القرار الصادر ضده بدون إحالة”؟ لكن ماذا عن الحالة إذا كان المتهم هو الذي تقدم بالطعن بالنقض، وصدر قرار بالنقض والإحالة؟ فالظاهر يقتضي بعودة السجين إلى وضعية الاعتقال الاحتياطي عمال بالمادة 551 أعلاه، إلا أن هذا التوجه يصطدم بالقاعدة المنطقية التي هي ألا يضار أحد بطعنه، والقول باستمرار المتهم في وضعية اعتقال يعصف بهذه القواعد، لأن أي قرار جنائي سيصدر بعد الإحالة لا يمكنه حتما تسويء وضع المتهم.