فيروس كورونا وعقود الشغل المحددة المدة. أي مستقبل؟
شهد العالم في الآونة الأخيرة مجموعة من الأوبئة التي أثارت العديد من الإشكالات ذات الأبعاد القانونية والاقتصادية والاجتماعية، مرتبطة بالأمن الصحي العالمي وبالعوائق والاكراهات الناجمة عنها في مجال تبادل السلع والخدمات، وذلك مرورا بوباء “sars” الذي ظهر سنة 2002 بالصين وانتقلت عدواه الى مناطق آخرى من العالم سنة 2003. ثم وباء “H1N1″ ظهر بالمكسيك سنة 2009، ثم فيروس ” epola” سنة 2014 الذي ظهر بالدول الافريقية.
بالرغم من انتشار هذه الاوبئة تمكنت منظمة الصحة من مواجهته والقضاء عليه في وقت وجيز قبل ان يطال باقي الدول. وهو نفس النقاش الذي يطرحه فيروس كورونا في هذه اللحظات التاريخية، حيث صنفته منظمة الصحة العالمية بجائحة فيروس كورونا، وهو الفيروس الذي أثر بشكل مباشر على كل دول العالم، وجعلها تتحدث عن مجموعة من المعاملات سواء بشرية أو تجارية أو سياسية، دولية كانت أم وطنية. كما فرض على مجموعة من الشعوب العزل والحجر الصحي، مما خلف ركودا اقتصاديا، وفاقم المشاكل الاجتماعية من تسريح وفصل وإنهاء للعلاقات الشغلية، الشيء الذي يحتمل معه ازدياد عدد البطالة بسبب هذه الجائحة الوبائية لفيروس كورونا.
ومما لا شك فيه أن المغرب لن يسلم من هذه الجائحة الصحية العالمية، بحيث هو الأخر عرف توقف العديد من العلاقات التجارية سواء داخل البلاد أم خارجه، كما عرفت العديد من المقاولات حالة التوقف الاضطراري، وشمل هذا التوقف مجموعة من الشركات الإنتاجية في العديد من القطاعات بسبب القرار الإداري القاضي بإيقاف بعض الأنشطة الاقتصادية، مما خلف هذا الأخير أثر على علاقات الشغل بين المشغل والأجير، وخاصة في العقود محددة المدة، التي كانت ستنتهي في هذه الأيام؛ اي زمن كورونا. مما يجعلنا نتساءل عن أي مستقبل لمثل هذه العقود؟
قبل الخوض في مناقشة أثر فيروس كورونا على عقود الشغل المحددة المدة، ينبغي أولا أن نعطي تكييفا قانونيا للجائحة الوبائية. وكيف نظم المشرع عقود المحدد المدة في مثل هذه الظروف؟
أولا: التكييف القانوني لتأثير جائحة كورونا على علاقات الشغل الفردية
التكييف هو تحليل واقعة ما، لإعطائها وصفها الدقيق وتحديد طبيعتها الواقعية ووضعها في المكان المخصص لها؛ بمعنى آخر هو تحديد القاعدة القانونية الواجب تطبيقها على الواقعة المطروحة. ومن هنا يتضح أن التكييف القانوني لجائحة كورونا هي واقعة طبيعية، بالرغم من عدم التنصيص عليها في نص من النصوص القانونية، لكن المشرع أشار في الفصل 269 من ق.ل.ع في تعريفه للقوة القاهرة “…الظواهر الطبيعية …” من هنا يمكن إدخال الجائحة الوبائية في ظل هذا الفصل، بحيث أن الوقائع غير متناهية عكس النصوص القانونية هي متناهية ومحدودة، مما يجعل أهل الاختصاص ملزمين بالتفكير في التكييف القانوني لواقعة ما.
جائحة كورونا كقوة قاهرة على تنفيذ عقود الشغل الفردية
يقصد بالقوة القاهرة كل فعل أجنبي لا يد للإنسان فيه، كالحوادث الطبيعية إلى غيرها من المسائل غير المتوقعة، وعرفها المشرع المغربي أثناء عرضه لأسباب عدم تنفيد الالتزامات العقدية، وذلك في الفصل 269 من ق.ل.ع ” القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية والفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق والجراد وغارات العدو وفعل السلطة ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا …” كما تثار القوة القاهرة كذلك في ميدان المسؤواية التقصيرية باعتبارها من الأسباب المؤدية الى الإعفاء من المسؤولية بناء على الفصل 95 من ق.ل.ع.
من خلال التعريف أعلاه يمكن أن نقف عند شروط قيام القوة القاهرة حيث تتمثل في شرطين إثنين:
الشرط الأول: استحالة دفع الضرر الناشئ عن القوة القاهرة
الشرط الثاني: أن يكون العذر غير متوقع الحصول
ولهذا يبدو من واقعة إنتشار جائحة كورونا أن الأمر يتعلق بوباء عالمي، عجز العلماء عن إيجاد دواء أو لقاح خاص لعلاجه والحد من انتشاره والوقاية منه. وبمعاينة الظروف المحيطة بانتشار هذه الجائحة، يمكن تكييفها على أنها واقعة مادية خارجة عن توقع الإنسان، (الأجير/ والمشغل) ويستحيل دفع الضرر الناشئ عنها، فضلا عن أنها حادث خارج عن إرادة الطرفين مما يجعلها في مرتبة القوة القاهرة، تجعل تنفيذ الالتزامات التعاقدية عموما، والالتزامات في إطار العلاقة الشغلية خصوصا، مستحيلة أو صعبة بناء على وضعية المقاولة وطبيعة النشاط الاقتصادي.
ثانيا: فيروس كورونا كسبب مؤثر في توقف عقد الشغل
يمكن تعريف توقف عقد الشغل بأنه انقضاء مؤقت للرابطة العقدية، قد يجد سببه في حادث فجائي أو سبب يعود إلى الأجير أو إلى المشغل.
وهكذا، بالرجوع الى المادة 32 من مدونة الشغل، نجدها تتحدث عن أسباب توقف عقد الشغل، ونلاحظ أن أغلب هذه الأسباب تعود الى الأجير من بينها التغيب بسبب المرض أو الحمل أو العجز الموقت ناتج عن حادثة الشغل أو الاضراب.. وواحد منها يعود الى المشغل يتمثل في الاغلاق القانوني للمقاولة بصفة مؤقتة.
من خلال هذه الفقرة يمكن القول أن جائحة كورونا باعتبارها قوة قاهرة، مما جعلت السلطات المختصة أن تفرض على جميع المؤسسات والمقاولات بالإغلاق، فتعتبر سبب لتوقف عقد الشغل لما لها من خطورة على الصحة والسلامة العامة للمواطنين، والإجراء خاصة، وهذا السبب يخرج عن إرادة المشغل والأجير.
ثالثا: أثر فيروس كورونا على عقود الشغل المحددة المدة.
من خلال التكييف القانوني لجائحة فيروس كورونا الذي قادنا الى القول بأنها قوة قاهرة تعيق تنفيذ الالتزامات القانونية ، وكونها توقف عقد الشغل بشكل موقت. هنا تأتي مشروعية السؤال حول أثر فيروس كورونا على عقود الشغل المحددة المدة، وذلك لفترة معينة أو لعمل معين؟
إن عقد الشغل محدد المدة يجعل الاطمئنان متوفرا بالنسبة للطرفين المتعاقدين، وذلك على الأقل بالنسبة للمدة المتفق عليها، ويعتبر حسب التعاريف المخصصة له عامة أن ميعاد انتهائه محدد بواقعة مستقبلية لا يتعلق وقوعها بمحض ارادة أحد الطرفين، فالطرفان في هذه المدة يتنازلان عن حرية الإنهاء، ولقد كان العقد المحدد المدة ولفترة طويلة أكثر امتيازا للأجير لضمانه حدا أدنى من استمراره في العمل، لكن مع تغير الأوضاع وتطور القاوانين الاجتماعية جعلت من عقد الشغل غير محدد المدة أكثر إطمئنان وإستقرار للأجير.
لقد نص الفصل 723 من قانون الالتزامات والعقود على أن ” إجارة الخدمة تتمثل في تقديم أحد الطرفين خدماته للطرف الآخر لأجل محدد أو أداء عمل معين” كما أشار الفصل 727 من نفس القانون على أن “الخدمات لا تؤجر إلا إلى أجل محدد أو عمل معين”
إن لهذين الفصلين دلالة واضحة لإمكانية تحديد العقد تبعا لفترة معينة أو عمل معين.
هنا يطرح الإشكال حول مستقبل العقود المحددة المدة التي تنتهي في هذه الأوقات الصعبة التي فرضت فيها السلطات االمختصة إغلاق جميع المؤسسات والمقاولات والشركات بسبب فيروس كورونا.
إذا كان عقد الشغل المبرم لإنجاز شغل معين يأخد فترة معينة، قد تكون محدد زمنيا لدى المشغل وقد لا تكون كذلك، فإن صفة الإطلاق في ذلك العقد تنتهي بانتهاء الشغل المتفق عليه، فالعقد المبرم من أجل بناء مؤسسة أو صباغتها مثلا قد يكتسي طابع المدة غير الدقيقة، مع أن العقد المحدد المدة بصفة مطلقة يقتضي نوعا من الدقة الكبيرة، وهو ما لا نجده في المادة 16 من مدونة الشغل، التي تتحدث عن إنجاز شغل معين وكذا الفصل 727 من ق.ل.ع الذي تحدث عن تأجير الأجير لخدماته إلى أجل محدد أو لأداء عمل معين أو لتنفيذه. وفي هذا السياق ينبغي اعتبار الأهم وهو أن مدة تنفيذ إلتزامات الطرفين قائمة في ذهن الطرفين، رغم كون تاريخ الإنهاء غير معروف مسبقا أو لا يمكن تحديده بصفة دقيقة.
من خلال ذلك يمكن القول بأن عقود الشغل المحددة المدة من أجل عمل معين التي كانت من الممكن أن تنتهي في هذه الأيام الصعبة التي فرض فيها الحجر الصحي على جميع المواطنين بسبب فيروس كورونا، وتوقفت من أجل الصحة والسلامة العامة للمواطنين والأجراء خاصة، تماشيا مع القرارات الصادرة عن السلطات المختصة، فإنها تبقى قائمة بحيث ستمدد إلى ما بعد هذه الجائحة الوبائية، ما دام العمل المتفق عليه لم ينفذ بعد، وأنه ليس هناك أي اتفاق على أجل دقيق.
وهكذا، إذا كانت عقود الشغل المحددة المدة من أجل عمل معين لا تثير أي إشكال من حيث مستقبلها، على اعتبار أنها قابلة للتمديد بعد زوال مانع فيروس كورونا، فماذا عن إشكالية عقود الشغل المحددة المدة لفترة معينة؟
بقرائتنا للمادة 32 من مدونة الشغل، نجدها تنص في فقرتها السابعة على أنه “يتوقف عقد الشغل المحدد المدة أثناء:
الإغلاق القانوني للمقاولة بصفة مؤقتة…”.
من خلال هذه الفقرة يتبين أن عقود الشغل سواء كانت محددة المدة أم غير محددة المدة، تتوقف الى حين رفع السبب الذي أغلقت من أجله، ولم تشير هذه الفقرة الى الاغلاق بصفة مجردة، بل أضافت عبارة ” الإغلاق القانوني للمقاولة” فأصبحنا أمام مفهوم واسع وذلك كلما تعلق الأمر بشروط الصحة والسلامة للأجراء، وهو ما نلمسه من خلال القرار الصادر عن السلطات المختصة عندما أمرت باغلاق جميع المؤسسات بما فيها المقاولات والشركات، إلا أنه يستأنف العمل فيما بعد، حفاظا على السلامة والصحة العامة للمواطنين.
وأضافت الفقرة الأخيرة من نفس المادة ” غير أن عقد الشغل محدد المدة، ينتهي بحلول الأجل المحدد له، بصرف النظر عن الأحكام الواردة أعلاه” كما نصت المادة 33 من مدونة الشغل على أنه “ينتهي عقد الشغل المحدد المدة بحلول الأجل المحدد للعقد، إو بإنتهاء الشغل الذي كان محلا له…”.
من خلا هاتين المادتين يتضح أن هناك دلالة قاطعة على أن عقد الشغل محدد المدة لفترة معينة سينتهي بإنتهاء الأجل المحدد له، وهي ما تجعلنا نقول بأن عقود الشغل محددة المدة التي كانت على وشك الإنتهاء في هذه الأوقات (زمن جائحة كورونا) تنتهي بصفة نهائية، ولا يمكن استئناف المدة التي توقفت فيها المقاولة عن مزاولة نشاطها ما دام الأمر خارج عن إرادة الطرفين معا. فالأجل والعمل المتفق عليه من قبل الطرفين وفي سياق مقتضيات مدونة الشغل في هذا الصدد، يعتبر عنصرا أساسيا في إرادة الطرفين، إلا إذا اتفق الطرفان على تعديلات عليه، ولهذا فإن عقد الشغل محدد المدة ينتهي بحلول الأجل المحدد له ولو كان التوقف قائما عند حلول الأجل ولا ينبغي البحث عن سبب التوقف إلا في الحالات الواردة قانونا.
وبالمقابل الأجير الذي يزال عقده لفترة طويلة ملزم باستئناف شغله بمجرد انتهاء الأزمة الوبائية، وكل اخلال من جانبه يجب عليه اخطار المشغل بذلك مع احترام أجل الإخطار، على أن عدم الإلتحاق بالمقاولة عند انتهاء هذه الجائحة وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، فإن الأمر يقتضي من المشغل الحيطة والحذر، وذلك باتباع المسطرة المتعلقة بمغادرة الأجير لعمله من تلقاء نفسه.
ختاما لما سبق، ومن خلال دراسة مجموعة من النصوص القانونية، يمكن القول بأن عقود الشغل محددة المدة قد وضعت لتكملت عقود الشغل غير محددة المدة باعتبارها هي الأصل طبقا للمادة 16 من مدونة الشغل وإذا كانت كذلك ولا يمكن اللجوء إليها الا في حالات محددة في المادة اعلاه، فلا ينبغي إهمال أهميتها، فرغم كونها تساهم في العمل المؤقت فقط، فإنها توفر أحيانا مناصب شغل دائمة، وذلك عند تنقل الأجير من عمل مؤقت الى آخر دائم. ويبقى السؤال مطروحا حول مدى إمكانية تعويض الأجير خلال هذه الفترة؟